الأميركيون يفتقدون الأغاني الثورية

بوب ديلان انتقد حرب فيتنام وصمت عن العراق

TT

للمرة الثالثة والثلاثين يصدر المغني الأميركي الكبير بوب ديلان مجموعة غنائية، ولمرة جديدة يتصدر قائمة «بيلبورد» العالمية محققا رقما قياسيا في عدد المستمعين. هذا الفنان الذي غنى لكل المظلومين في العالم، باستثناء الفلسطينيين والعراقيين، قاد ثورة داخل أميركا وضد سياساتها الرعناء، لكنه هادن بوش وأيد أوباما، ولا يزال ديمقراطيا. هذا الرجل اختزل تاريخ أميركا الحديث بألحانه، ولا يزال يحاسب، بعد أن كبر في السن، على أنه يجب أن يقاتل بالأغنية. فهل الأغنية أداة ناجعة للتغيير؟

* في الشهر الماضي، أصدر المغني الأميركي العريق بوب ديلان مجموعته الغنائية الثالثة والثلاثين، وتحمل اسم «توغيثار ثرو لايف» (معا عبر الحياة). وكان قبل أربعين سنة، قد أصدر أول مجموعة له. أما مجموعته الأخيرة، فقد وصلت خلال أسابيع قليلة، إلى قمة قائمة «بيلبورد» الموسيقية العالمية، وحققت رقما قياسيا عالميا في البيع. فخلال الشهر الأول كانت الأسطوانة: الأولى في أميركا وبريطانيا وفرنسا وهولندا ونيوزيلندا والسويد، والثانية في أيرلندا وسويسرا، والثالثة في اليابان وأستراليا، والخامسة في الأرجنتين. وقال برنامج غنائي في «بي بي سي» (الإذاعة البريطانية)»: «هذا سجل للثقافة الأميركية خلال الثلاثين سنة الماضية». وقالت مجلة «مويو» الفنية الأميركية: «هذا خليط من ذكريات وتأملات، من حزن وفرح، من سواد وبياض».

ويتركز الحزن والسواد في أغاني رجل مشهور كبر سنه، في التفكير كثيرا في الموت. مثل أغنية: «بيوند هيا لايز ناثنغ» (لا شيء وراء هنا). وفيها يغني: «لا شيء وراء هنا. لا شيء نقول، لا شيء نفعل، لا شيء نملك. بعد منتصف الليل، سأغادر في سيارتي. سأشاهد سيارات قديمة على جانبي الشارع». لكنه، في الأغنية نفسها، خلط التشاؤم بالتفاؤل، وغنى لحبيبته: «أحبك يا صغيرتي الجميلة. أنت الحب الوحيد الذي عرفته كل حياتي».

لا يذكر بوب ديلان، إلا وتذكر أغاني حرب فيتنام ومظاهرات الزنوج، ومظاهرات النساء. في ذلك الوقت، كان في العشرينات من عمره. وكان يكتب كل أغانيه. مثل: «غود أون أور سايد» (الله معنا)، وفيها يتهكم من أن دولا كثيرة، منها أميركا، تعلن حروبا ضد دول أخرى، وتقول إنها على حق، وإن الله معها. وفيها غنى: «في تاريخنا، هجم الكاوبويات، وسقط الهنود الحمر. كانت الدولة شابة، وقالت إن الله معها. في الحرب الأهلية، تسلح جنود الشمال والجنوب، وقالوا كلهم إن الله معهم. بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن شوى الألمان ستة ملايين يهودي، قالوا إن الله معهم. خان يهوذا المسيح. وقال إن الله معه. أنا حائر. هل الله معنا، أو مع غيرنا؟».

قبل ثلاث سنوات، أصدر مايكل واينشتاين كتاب «غود أون أور سايد» (الله معنا)، حمل اسم أغنية بوب ديلان نفسه. كان واينشتائن طيارا في السلاح الجوي الأميركي، لكنه تمرد على ما سماه «تدخل رجال الدين والمبشرين في العمل العسكري». وأسس جمعية «ميليتاري ريليجاس فريدوم» (الحرية الدينية وسط العسكريين). وقال إنه بدأ حركته خلال حرب العراق، عندما صدر فيلم «باشون أوف كرايست» (تعذيب المسيح). وقال إن دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع في ذلك الوقت، أمر بعرض الفيلم داخل القواعد العسكرية الأميركية.

في الأسبوع قبل الماضي، نشرت مجلة «جي كيو» وثائق سرية توضح أن رامسفيلد، خلال غزو العراق، كان يزور البيت الأبيض كل صباح، ويقدم إلى الرئيس السابق بوش تقريرا عن العمليات العسكرية، ويبدأ التقرير بأجزاء من التوراة والإنجيل (عن حتمية انتصار المسيحيين على أعدائهم).

وعلق أميركي على ما نشرت المجلة بالإشارة إلى أغنية ديلان: «الله معنا»، وأن رامسفيلد كان يقول ذلك.

اشتهر ديلان في شبابه بسبب أغنية أخرى هي: «بلوينغ أن ذا ويند» (في مهب الريح). وهي مثل الأغنية السابقة، تتحدث عن الحرب والسلام في عبارات فلسفية ودينية. بعد ظهورها بأربعين سنة، وضعت كتحفة أثرية في متحف «غرامي» للأغاني، وأعلنت مجلة «رولنغ ستون» الفنية أنها واحدة من أشهر عشر أغاني أميركية خلال القرن العشرين.

تقول الأغنية التي كتبها وكان عمره اثنتين وعشرين سنة:

«كم بحور يجب على الحمامة أن تطير فوقها قبل أن تهبط على رمال وتنام في هدوء؟ كم طلقات يجب أن تطلقها المدافع قبل أن تصمت نهائيا؟ كم أذن يجب أن تكون للإنسان قبل يسمع أصوات الضعفاء؟ كم شخص يجب أن يقتل قبل أن نعرف أن عدد القتلى صار كبيرا؟». وفي الأغنية، بعد كل مقطع، يردد الكورس: «يا أيها الأصدقاء، الإجابات في مهب الرياح. في مهب الرياح».

واحتجاجا على التدخل العسكري الأميركي في فيتنام، غنى «ماسترز أوف ورلد» (سادة العالم). وفيها: «تعالوا يا سادة الحرب. اظهروا يا صانعي الأسلحة. قفوا يا بناة المقاتلات. لماذا تختفون وراء جدران؟ لماذا تختفون وراء مكاتبكم؟ أريدكم أن تعرفوا أني أرى وجوهكم وراء جدرانكم ومكاتبكم وأقنعتكم.

أنتم مثل يهوذا الذي خان عيسى وكذب عليه. كذبتم وخدعتهم. أتمنى أن تموتوا قريبا. أتمنى أن أمشي في موكب جنازاتكم. أتمنى أن أقف فوق قبوركم حتى أتأكد أنكم، حقيقة، قد متم».

ولد ديلان يهوديا. اسمه الأصلي روبرت زمرمان. هاجر جدوده إلى أميركا من روسيا. وبدأ يكتب الأغاني ويغنيها وهو في المدرسة الثانوية في ولاية مينيسوتا. ثم ترك الدراسة في جامعة منيسوتا، وسافر إلى نيويورك ليتفرغ للغناء. في سنة 1961، عندما كتبت عنه جريدة «نيويورك تايمز» خمسة أسطر، عرف أنه بدأ طريق الشهرة، ليس فقط داخل أميركا، ولكن في كل العالم. زادت شهرته سنة 1963، عندما قاد الأسقف الأسود مارتن لوثر كينغ مظاهرة الزنوج للحقوق المدنية. وهناك في واشنطن، غنى بوب ديلان، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، وغنت إلى جانبه جون باييز، وكان عمرها قريبا من عمره. (تحابا لكنهما لم يتزوجا. الآن هي أم الغناء الثوري، مثلما هو أباه). غنى «مدينة أكسفورد»، دفاعا عن جيمس ميرديث، أول طالب أسود يدخل جامعة مسيسبي. وهكذا، منذ بداية حياته الفنية، اشتهر بتأييده لحقوق الزنوج.

في سنة 1963، عندما حدثت مواجهة نووية بين أميركا وروسيا بسبب بناء صواريخ روسية في كوبا، غنى بوب ديلان «هارد رين فول» (سيهطل مطر غزير). وانتقد فيها تراكم الأسلحة النووية. قائلا: «سألني والدي: ماذا سمعت أيها الصبي ذو العينين الزرقاوين؟ قلت له: سمعت صوت رعد يقود مطرا سيبلل كل الناس. سمعت صوت موجة عملاقة ستغرق كل العالم. سمعت صوت مائة طبلة توقظ كل الناس. سمعت عشرة آلاف همسة ولا أحد يسمعها. سمعت عشرة الآف جائع يصيحون ولا أحد يجيب. سمعت صوت شاعر يموت في زقاق قذر..»

على الرغم من شهرة بوب ديلان السياسية والوطنية، كانت أغلبية أغانيه عاطفية، مع قليل من الفلسفة والمنطق والحكمة. مثل أغنية «رولنغ ستون» (صخرة تتدحرج) التي اختارتها مجلة بالاسم نفسه في أعلى قائمة «أشهر أغاني في تاريخ أميركا». فيها يؤنب بوب ديلان «الحكيم، الأخلاقي، الواعظ» بنتا أخطأت في علاقتها مع ولد.

لكن، لماذا صمت ديلان في حرب العراق؟ هل لأنه ولد يهودي؟ هل لأنه تحول، عندما صار عمره أربعين سنة، إلى المسيحية، والمسيحية المتطرفة؟ هل لأنه صديق الرئيس السابق بوش الابن؟ كان يساريا، ثم صار معتدلا؟ قاد الثورة الفنية ضد حرب فيتنام واضطهاد الزنوج وإهمال حقوق النساء. لكنه قال إنه كبر على الثورة.

قبل ثلاث سنوات، سألته جريدة «يو اس أيه توداي»: لماذا لم تغنّ عن حرب العراق مثلما غنيت عن حرب فيتنام؟ أجاب: «كبرت في السن، وتوقفت عن الغناء عن السياسة». في نهاية السنة الماضية، عندما ضربت إسرائيل غزة، سألت أميركية على موقع في الإنترنت: «لماذا لم يغنّ ديلان أغنية: «كم مرة يجب أن يضرب المدفع قبل أن يصمت؟» ورد عليها أميركي: «لا تنسي أن اسمه الأصلي هو زمرمان».

خلال الثمانينات صار ثائر الستينات معتدلا. اعتنق المسيحية وقال إنه «بورن اقين» (ولد مرة ثانية، على طريقة المسيحيين المتطرفين). ولم ينتقد الرئيس ريغان عندما قال: «هذه أروع ضربة جوية أشاهدها»، إشارة إلى ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي سنة 1981.

وفي السنة نفسها، غنى أغنية «نيربهود بولي» (فتوة الحي). وعلى الرغم من أن عنوان الأغنية يبدو وكأنه ينتقد إسرائيل، تدافع الكلمات عن إسرائيل دفاعا قويا. وتقول: «هو واحد وهم مليون. يقولون إنه احتل أرضهم. لا مكان ليهرب، لا مكان ليعود إليه. صار فتوة الحي. يحيا ليعيش. لا يريدون منه أن يحيا. يريدون منه أن يستسلم. طاف حول العالم. وظلم حول العالم». وعن ضرب المفاعل النووي العراقي، غنّى: «ضرب القنبلة. غضبوا عليه. لكنها قنبلة له. كيف يصمت فتوة الحي؟».

ماذا حدث لقائد الحركة الفنية ضد حرب فيتنام، وضد اضطهاد الزنوج؟

صار واضحا أن «الموجة» التي كتب عنها في إحدى أغانيه، جرفته، مع مجيء الرئيس ريغان الجمهوري المحافظ، وصعود الموجة الدينية، وانغماسه في المسيحية. من بين الذين انتقدوه جون لينون، نجم فرقة «بيتلز» (خنافس) البريطانية. وغنى له أغنية: «أنقذ نفسك»، ردا على أغنية ديلان «أريد إنقاذ الناس». وفي التسعينات، ساعده هذا الميل الديني على مقابلة البابا في الفاتيكان. ثم غنى له أغاني دينية في حفل أمام ربع مليون شاب وشابة في إيطاليا.

لا يمكن وصف ديلان اليوم بأنه صار يمينيا، على الرغم من أنه لم يعد يساريا. ربما يمكن وصفه بأنه صار معتدلا (إلا في تأييد إسرائيل). منذ بداية حروب الرئيس السابق بوش الابن، تردد في نقده، ناهيك عن أن يكتب أغنية ينتقد فيها هذه الحروب.

وفي مقابلة مع مجلة «رولنغ ستون»، سئل: هل يوجد شبه بينك وبوش؟ أجاب بأن الاثنين «عثرا على المسيح» (بعد شباب مغامرات ونزوات).

في الوقت نفسه، لم يبتعد ديلان عن الحزب الديمقراطي. ويعتقد أنه لا يزال ديمقراطيا. وخلال الحملة الانتخابية، أيد ترشيح الرئيس الحالي باراك أوباما. وأشار إلى كلمة «تشينج» (تغيير) في شعارات أوباما. وقارنها بأغنيته سنة 1964 «ذاي آر تشينجنغ» (إنهم يتغيرون).

بل ومرة انتقد بوش بطريقة غير مباشرة، عندما أشار إلى أغنية يقال إنها صارت، بالنسبة لبوش، أغنية مفضلة بسبب مشكلات الحرب. وتقول الأغنية: «أين أنت يا صاحبة العينين السمراوتين؟ تذكرين أيام كنا نلعب ورذاذ المطر ينزل؟ نضحك ونجري ونغني، نقفز في ضباب الصباح. الآن، صار صعبا أن أرى طريقي. الآن، أنا وحيد. يا إلهي، أعد إلي تلك الذكريات الجميلة».

لكن، في عصر الإنترنت، تتكرر أغاني ديلان الوطنية، حتى صار وكأنه يريد أن يتبرأ منها. وأشار كثير من الأميركيين الذين ينتقدون حرب العراق إلى أغاني ديلان التي انتقد فيها حرب فيتنام. وأشار بعضهم إلى أغاني ديلان نفسه وهم ينتقدون صمته، مثل أغنية: «هل أنا أعمى إلى درجة أنني لا أقدر على أن أرى؟ هل قلبي يخدعني؟ هل فقدت طريقي وسط الحشود؟ هل جفت دموعي؟»