دفع الدين وعواقب العجز عن الدفع

الكندية مارغريت أتوود تبحث في الدَين والثروة وظلالها في الواقع والأدب

دفع الدين (الدَين والجانب المظلم للثروة) المؤلفة: مارغريت أتوود الناشر: «أناناسي برس»
TT

الكاتبة الكندية مارغريت أتوود وخلال مسيرتها الإبداعية الطويلة لم تتوقف عند نوع أدبي معين، بل خاضت في كل جوانب الكتابة بما فيها الخيال العلمي والكتابة للأطفال، إلى جوار النقد الأدبي والمقالات الناقدة التي تعكس مواقفها حول السياسة والفن. وفي هذا الكتاب تذهب بنا إلى منطقة أخرى وهي الثروة والديون وأثرها في حياتنا الشخصية والعامة. لهذا الكتاب أهمية استثنائية كونه يتناول الثروة ووجوهها الخفية والظاهرة وخاصة في هذه الحقبة التاريخية المعاصرة المتميزة بعواصفها الاقتصادية العاتية. وبنظرة سريعة على الاقتصاد الأميركي والعالمي سنتعرف على ما تلعبه الثروة من تأثير على استقرار الأمم والأفراد.

الكتاب الذي صدر في كندا عن «أناناسي برس» أواخر عام 2008 في 224 صفحة بعنوان «دفع الدين» وعنوان فرعي «الدَين والجانب المظلم للثروة» جاء على شكل محاضرات ألقيت في جامعات كندية وتم الاحتفاء به من خلال راديو كندا «سي بي سي».

ولا تخلو صفحات الأدب من مسألة الدَين بأكثر من حكاية ورمز. نرى الأضحية السلبية في ديستوبيا جورج اورويل 1984 حيث نجد شخصية «وينست سميث» الذي عوقب وأرسل إلى الغرفة 101 التي فيها أقبح وأسوأ الأشياء في العالم، حيث كانت الجرذان الجائعة تنتظره. لكن سميث يصرخ ويطلب أن يعفى عنه وأن يأخذوا «جوليا» الحبيبة العشيقة عوضا عنه. راح سميث يصرخ «افعلها بجوليا، افعلها بجوليا، ليس أنا، لا يهمني ما تفعل بها، مزق وجهها، قطعها حتى العظام. ليس أنا، جوليا: ليس أنا».

وحديثا يتكرر ما يشبه ذلك الموقف على لسان الأم في رواية «رحمة» لتوني موريسون حين يأتي المزارع جاك فاراك كي يسترد دينه من الأم المعدمة الفقيرة، فتبكي وتتضرع تطلب منه أن يأخذ ابنتها إيفاء للدين وتقول «خذ فلورانس، خذ ابنتي، لا تأخذني أنا» ويحقق لها ذلك ويأخذ فلورانس الطفلة التي تكبر وتموت بعيدا عن أمها.

في الفصل الأول تناقش اتوود نظام دفع الدين والاستدانة، وكيف نشأ في عهد السومريين وفي مصر الفرعونية، حيث كان ميزان العدالة في يد المرأة كما يظهر في الحفريات والمنقوشات. وتذهب بنا المؤلفة أيضا لنعاين هذه المعادلة من خلال شخصيات الأساطير اليونانية والفرعونية، وتحلل ما ترمز إليه صورة المرأة التي كانت رمز العدالة وهي تحمل الميزان. ويقال إن ما بعد الموت كان يوضع القلب في كفة، وفي الكفة الأخرى يوضع رمز العدالة الصدق. ولاحقا وحسب الديانة المسيحية توضع الروح مقابل أفعال الإنسان ـ الخير والشر.

في الفصل الثاني تتطرق الكاتبة لمسألة حساسة في تاريخ البشرية وهي «الدين والخطيئة» وما ترتب على الإنسان حتى اليوم من تبعات لها تأويلها المتقارب والمختلف من دين إلى آخر، ومن نظام إلى آخر. ونرى في العصر الحديث كيف صار الحديث عن الخطيئة والسياسة شائعا هذه الأيام ونلمسه في خطابات السياسيين في الغرب وأميركا على وجه التحديد، كما في خطابات الرئيس بوش، وكذا خطاب الإرهابيين في العالم الذين يتخذون من الدين ذريعة.

في عالم اليوم لا يمكننا أن نتيقن من المثل الذي يقول «الموت يدفع كل الديون» وهذا لا يصح لأن الدائن سواء أكان حكومة أو فردا يمكنه أن يطالب باسترداد دينه، كما أن المقولة «لن تستطيع أن تأخذه معك» قد لا تكون صحيحة.

تقول اتوود في الفصل الثالث: الدَين حكاية. من دون الذاكرة ليس هناك دين. ودون دين ليس هناك قصة، إذن أي دين يضعنا في مواجهة قصة. من هو الدائن؟ ولماذا استدان، ومتى؟ وهل كانت النهاية سعيدة أم حزينة؟ وكيف تم دفع الدين؟ وهذا الدين يختلف حسب طبيعة المجتمعات، فهناك مسألة شراء العروس ودفع ثروة ما لأهلها، وشراء البيوت بالتقسيط، والاستدانة من البنوك لشراء المفروشات، السيارات، وبطاقات السفر، والخضار واللحوم والأدوات الكهربائية. وهناك قانون مكتوب وشفاهي مستمد من السلطة الدينية أو المدنية بموجبه يتم إيفاء الدين أو المطالبة به، وعقوبة الطرف الذي يخل بتنفيذ العقد، وتكون العقوبة بدفع فوائد أو بأشكال أخرى. وتشير أتوود إلى أن هذه المسألة حاضرة في قديم الأدب العالمي وتذكر مثالا شخصية ابنزير سكروغ في رواية تشارلز ديكنز «ترانيم الميلاد»، إذ تطالعنا شخصية سكروغ التي أصبحت شائعة ومعروفة ومتحولة وقد نصادفها في الأفلام وعلى المسرح وفي الشوارع، أي أنها شخصية مستمدة من الواقع. وتطالعنا هناك الدعاية التي تقول: أعط بسخاء كما سانتا كلوز/ وعليك بالتقتير مثل سكروغ.. وتذهب اتوود في التذكير بذرية سكروغ ومنهم شخصية الدكتور فاوست في مسرحية كريستوفر مارلو (القرن السادس عشر)، المعروفة بهذا الاسم. ومن المعروف أن فاوست باع جسده وروحه للشيطان بموجب عقد مكتوب بالدم. الدكتور فاوست ليس لعينا. إنه يريد أن يحقق أحلامه ومتعه الشخصية ولا يبخل على أصحابه.. ومن خلال السلطة والأموال يعد بأن ينقذ من الموت إنسانا على الأقل. هذه الحكايات قد تنقلب من كونها حكاية للتسلية والمتعة إلى أن تصل إلى القتل وتصبح اللعبة قذرة. ينقلب البطل في ألعاب الأطفال والفيديو إلى متحكم بفكر الطفل واليافع، وتنقلب لعبة الدائن والمستدين إلى حرب وضحايا، رشى وابتزاز، وانتقام وعقوبات، وتجد لها مكانا في حياة الأفراد كما في تاريخ المجتمعات. وما أكثرها حروب هذا القرن والحروب التاريخية التي كانت ولا تزال تجري تحت أقنعة مختلفة؛ كنشر الديمقراطية مثلا، فيما الثروة هي الوجه الآخر والحقيقي للعبة التي لم تعد قصة خيالية، بل واقعا ترزح تحته شعوب وتنهار حضارات. ونشاهد ذلك اليوم على شاشات التلفزيون ونحن ندفع ثمن ما نشاهده. ندفع للقنوات الفضائية نقدا أو «بالفيزا كارد». نستدين كي نشاهد أفلام الحب والحرب، ونستدين كي نشاهد قناة تاريخية أو عالم البحار، أفلام الجنس والعنف. أحيانا نعجز عن الدفع أو نتهرب. هذا ما تبحث فيه أتوود في الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان «الجانب المظلل من الثروة» وفيه تطرح سؤالا رئيسيا «ما الذي يحصل حين لا يدفع الناس الدين المترتب عليهم؟ ماذا لو كانوا لا يريدون الدفع، أو لا يستطيعون، أو يمكنهم الإيفاء بطرق أخرى؟ وبالطبع، طرق وأساليب إيفاء الدين متشعبة وتختلف باختلاف المجتمع والثقافة». وتتساءل أتوود «متى سينتهي كل هذا؟» والجواب هنا يعتمد على ماذا تقصد بـ«كل»؟

الثروة في ظاهرها وتحت ظلالها يترنح العالم اليوم. وهو العالم الذي ترنح منذ بدء الخلق ومنذ قصة هابيل وقابيل. اليوم نقرأ في كل صحيفة ونسمع في كل نشرة أخبار مستجدات عن عجز شركات عن الإيفاء بديونها وما يترتب على ذلك، نقرأ عن بنوك تنهار، وصغار العمال يذهبون إلى بيوتهم حاملين عجزهم عن إيفاء ثمن السيارة والبيت الذي اشتروه بالتقسيط. العجز الاقتصادي يحمل تبعاته إلى مادة الأسرة وسرير العائلة. فالرخاء الذي نكسبه لوهلة ونحن نستدين يتحول إلى كابوس حين يأتي وقت «الإيفاء بالدين».

* شاعرة وكاتبة سورية ـ كندية