جورج قرم: الهوس بالغرب مدمر للأمة العربية

كتابه الأخير يجول في تاريخ أوروبا واضطراباتها وحروبها

جورج قرم وفي الإطار غلاف الكتاب («الشرق الاوسط»)
TT

مفكر، مؤرخ، مستشار وخبير اقتصادي لدى كثير من المنظمات والهيئات الدولية، وزير مالية سابق في لبنان (1998 ـ 2000)، كتب جورج قرم في الاقتصاد والتنمية والمال، وتحدث عن لبنان التاريخ والحاضر والمجتمع، وغاص في البحر الأبيض المتوسط ونزاعات ضفتيه ونزعاتها، وتجول طويلا في تاريخ الشرق الأوسط ومجتمعاته وأزماته، وتوقف عند المسألة الدينية وظاهرة عودة الدين، وتوسع في الحديث، وهو العابر بين الضفتين، عن ما سماه الشرخ الأسطوري بين الشرق والغرب، وها هو يعود إلى أوروبا والغرب، وإلى العلاقات بين أوروبا والشرق في كتاب موسوعي: «أوروبا وأسطورة الغرب» (صدر مؤخرا بالفرنسية في باريس عن دارLa Découverte)، يأتي بعد كتب عدة، تطرق فيها إلى هذا الموضوع الذي يشغله منذ سنوات، خاصة منها «أوروبا والمشرق العربي» و«المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين»، وكذلك «انفجار المشرق العربي، من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق».

في كتابه الجديد، يواصل جورج قرم عملية تفكيك ما يسميه أسطورة الغرب، فيلقي نظرة عقلانية، نقدية شاملة على أوروبا والغرب، من دون انفعالات، ولا شعارات، ولا مواقف نمطية مسبقة، ويناقش ويحلل ويرتكز على كم هائل من المعلومات والمراجع، ويأتي بأجوبة صارمة عن أسئلة كثيرة يطرحها حول تاريخ أوروبا وثقافاتها وفلسفاتها ودورها:

لماذا وكيف تحول مجرد تصور أو مفهوم جغرافي إلى مسلمة بديهية منظمة لكل نظرة إلى العالم، وإلى مفهوم سياسي بامتياز؟ من أين استمدت أوروبا بذور قوتها؟ كيف تفكر أوروبا؟ ما مصادرها ومنابعها الفكرية والفلسفية؟ ما نوازعها؟ ماذا عن ما يسمى «الحضارة الأوروبية» و«الثقافة الأوروبية»؟ ما المصير الذي يمكن أن تنتظره أوروبا المرتبطة أكثر من أي وقت مضى بالإمبراطورية الأميركية، خاصة في منطقة الأعاصير الشرق أوسطية التي تحيط بها؟

وبدوري أطرح على جورج قرم السؤال:

* في كتابك الأخير «أوروبا وأسطورة الغرب» تقوم بجولة كبيرة في تاريخ أوروبا وتاريخ الأفكار والأنظمة الفلسفية التي رافقت ما عرفه هذا التاريخ من اضطرابات ونزاعات وحروب. وسعيت إلى فهم مكونات التطور الأوروبي، واستيعاب جوهر آلية التقدم، والوقوف على كنه الثقافة الغربية. وتقول إنك أردت من ذلك تفكيك مختلف صيغ وجوانب أسطورة اسمها الغرب. هل هو أسطورة الغرب؟

ـ مفهوم الغرب المتداول في الإعلام، وحتى في كثير من المؤلفات الأكاديمية الطابع، صار مفهوما غامضا تماما يستعمل لأغراض سياسية وعنصرية، وهو يؤكد على نوع من النرجسية الجماعية لعدد كبير من الشعوب الأوروبية التي تقاتلت على مدى قرون وأنتجت حربين عالميتين. هناك ميل، منذ القرن التاسع عشر في شكل خاص، إلى تقسيم العالم إلى قسمين: شرق وغرب. هذا ليس أول كتاب لي يتناول هذه المسألة. منذ طفولتي وأنا أواجه هذه الثنائية القاتلة، ثنائية «نحن وهم». وهي ثنائية موجودة عندنا أيضا في الشرق. وأعتقد أنها ثنائية مستوردة من الغرب ومقولاته. أنا أنطلق من نظرة تؤمن بوحدة البشرية. هناك تنوع بشري كبير طبعا، ولكن لا وجود لتلك الغيرية المطلقة التي تفصل بين البشر. ثم إن الثقافات الأوروبية نفسها، إذ ليس ثمة ثقافة أوروبية واحدة، قد تصادمت بشكل كبير للغاية، مما يدحض مقولة وحدة الحضارة الغربية منذ أقدم الأزمنة. هذه الحضارة أسطورة. وسبق لي أن نشرت كتابا في عنوان «شرق وغرب الشرخ الأسطوري».

* ولكن لا يزال الغرب يؤلف، بالنسبة إلى العرب وإلى غيرهم، عامل هوية. أنت نفسك تقول إن مراجع العالم في الفكر والفلسفة وغير ذلك من النشاطات الإنسانية، باتت غربية بامتياز.

ـ صحيح، حتى عندما تكون الثقافات الغربية خارج القارة الأوروبية، أي في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، فإنها عندما تطور عداء «للحضارة الغربية» إنما تطوره على نمط سبق ورسمته الثقافات الأوروبية المختلفة. ففي القرن التاسع عشر مثلا انقسمت الشعوب الأوروبية، ليس بحسب القوميات المختلفة، وإنما على أساس مواقف فلسفية بين من يعادي غربا لاتينيا أنكلوساكسونيا ديمقراطيا ماديا لا يهتم بالشؤون الدينية أو أنه همش الدين وجعله من الأمور الدنيوية، وبين أوروبا ألمانية وأوروبا وسطى وشرقية وصولا إلى روسيا، تريد أن تحافظ على الجذور الدينية للحياة المجتمعية. وأنا أستشهد بالروائي الشهير توماس مان الذي كرس مع فندر وإلى حد ما مع «نيتشيه»، هذه النظرة إلى تقسيم أوروبا نفسها.

* وهذا ما يجعلنا نتحدث في العالم العربي عن ما يسمى «الهوس بالغرب».

ـ تماما، وعندي أن هذا الهوس مدمر للأمة العربية وللمجتمعات الإسلامية عموما، إذ إن المرجعية الوحيدة، سلبا أو إيجابا، هي الإشكاليات الغربية الأسطورية الطابع التي استوردناها. حتى إشكالية الفصل بين الديني والدنيوي مستوردة من الغرب، وهي لا تناسب أوضاعنا في المجتمعات العربية والإسلامية، أو إنها تُطرح بشكل مغاير تماما عن الإشكالية في الغرب، حيث كانت الكنيسة تمارس رقابة شديدة للغاية على السلطة المدنية السياسية. في مجتمعاتنا جرى العكس، إذ إن السلطة السياسية هي التي كانت تسيطر على فئة العلماء في معظم الأحيان.

* ولكن هناك انقسام حاد في نظرة العرب إلى الغرب: من جهة؛ الغرب ديمقراطي، ليبرالي، حضاري، متطور، يجب أن نقتدي به ونتعلم منه ونتحالف معه، ومن جهة أخرى؛ هو امبريالي، كولونيالي، استغلالي، عنصري، يدعم الصهيونية وإسرائيل، وعلينا مواجهته ومحاربته..

ـ كما كان الأمر، ولا يزال، بالنسبة إلى الروس والصينيين، نحن في حالة حرب أهلية فكرية. منذ قدوم نابليون بونابرت إلى المنطقة، انقسمنا بين معجبين وبين معادين، باسم الأصالة وطبعا باسم مكافحة الاستعمار. وأنا معروف عني بأني أقول إن الغرب عدونا السياسي. إنما من ناحية التقدم لا يمكن أن نعادي الغرب.. يجب علينا أن نفهم من أين حصلت الدول الأوروبية على هذه القدرة الخارقة على بلوغ هذا المستوى من التقدم العلمي والتكنولوجي.

* تقول إن الغرب عدونا السياسي. الغرب امبريالي، والولايات المتحدة إمبراطورية العصر الحديث. الإمبراطوريات كانت دائما موجودة على امتداد العصور. واضح أن ثمة إشكالية تواجه العرب اليوم: كيف يتعاملون مع الإمبراطورية؟

ـ هذا هو جوهر الصراع، سواء بين الأنظمة، أو وسط الشعوب نفسها. الشعوب منقسمة حول المسألة. أشدد دائما، خاصة في كتاباتي باللغة العربية، على أن علينا أن ندرس الحضارات الأخرى، مثل الصينية واليابانية والهندية، التي استوعبت إلى حد بعيد علوم الغرب وآليات التقدم التقني، وحافظت في الوقت نفسه على شخصيتها الوطنية. نحن نتجاهل الحضارات الأخرى ولا ننفتح سوى على الحضارة الغربية.

* من الواضح أن تأثير الغرب على العالم بأسره، ومنه العالم العربي، كبير جدا. وأنت نفسك تقول إن مراجع العالم في الفكر والفلسفة باتت غربية بامتياز..

ـ باتت متغربة. حصل ما نصفه بالتفاعل الثقافي. لننظر مثلا إلى العصر الرومانسي في أوروبا الذي كثيرا ما اهتم بعودة الدين، وكان يحن إلى زمن ما قبل الثورة الصناعية عندما كان الدين يسيطر على الأخلاق العامة وعلى الحياة المجتمعية. ولنأخذ كتابا مشهورا جدا لشاتوبريان هو «عبقرية المسيحية»، نجد في هذا المؤلف الاتجاه الفكري نفسه الذي نجده عند شخصية مثل سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن». ونحن نعلم أن سيد قطب كان اطلع على الثقافة الغربية، وذهب إلى الولايات المتحدة. ونعلم أن الولايات المتحدة هي منبع متواصل للمرجعية الدينية البروتستانتية الطابع.

* التي تترجم حاليا بالإنجيليين الجدد..

ـ طبعا، وبالقراءة الحرفية للنص التوراتي الذي يجعل من أميركا مؤيدة من دون قيد أو شرط للظاهرة الإسرائيلية. المسألة ليست مسألة لوبي صهيوني يمسك بمقاليد الأمور في أميركا، الثقافة الأميركية هي التي تدعم اللوبي الصهيوني، لأن الفكرة الصهيونية هي فكرة تقع في قلب الثقافة البروتستانتية.

* كثيرا ما تتحدث عن ضرورة بناء منظومة فكرية ومعرفية وثقافية عربية كأساس لنهضة مستقلة عما يأتينا من الغرب. إلى أي حد يمكن لمثل هذا الطموح أن يتحقق في الظروف العربية الراهنة؟

ـ أعتقد أن هذا الطموح يجب أن يتحقق في مثل هذه الظروف بالذات. وهذه الدعوة ليست جديدة. أذكر دائما كتابا طليعيا للدكتور ناصيف نصار هو «الطريق إلى الاستقلال الفلسفي» تضمن دعوة مماثلة.

* ولكن كيف، والعالم العربي يمر بأزمة حضارية كبرى. أدونيس يتحدث عن «انقراض الحضارة العربية» وأنت نفسك تتحدث عن «ركود حضاري»..

ـ أنا لست استفزازيا على طريقة أدونيس الذي أكن له كل الاحترام. نحن أيضا ضحية نظرة لتاريخنا أسطورية الطابع. هناك كتاب مهم ساعدني جدا على تطوير فكري للدكتور فهمي جدعان يتناول فيه نظرة العلماء المسلمين إلى الانحطاط. في نظرتنا نحن إلى التاريخ، هناك فترة ذهبية في الماضي تجسدت بالرسالة النبوية الشريفة وبالخلفاء الراشدين. وبعد ذلك، كل التاريخ العربي كان تاريخ تراجع..

* باستثناء فترة الأندلس..

ـ ولكن يجب أن لا ننسى أن الأندلس استقلت عن المركز، وكانت الحضارة الأندلسية نتيجة مزيج مهم للغاية بتفاعل ثقافات مختلفة. واستفادت منها أوروبا كثيرا. عندما تألقت الحضارة الإسلامية بشكل كبير خدمت تاريخ الإنسانية، لأنها قامت بتثاقف كبير بين الثقافة العربية التقليدية وبين الثقافات الأخرى، من البيزنطية وتراثها اليوناني والفارسية والهندية.. هناك تركيب أنجزته الحضارة الإسلامية، وأنتجت تقدما تقنيا هائلا في ذلك الزمن، وفي أنواع العلوم كافة. وكذلك في الفلسفة. نحن ننسى تراثنا الفلسفي الكبير الذي طرح الموضوع الأساس وهو التوفيق بين العقل والإيمان الديني، والذي انتقل إلى أوروبا وأنتج النهضة في الفكر اللاهوتي. بينما نحن، بعد الغزالي، طمسنا الفلسفة وطوّرنا الصوفية، فأبقينا العقل في نوع من الاستكانة. وهذا ما يندد به باستمرار محمد عابد الجابري.

* الملفت هنا، في ما يتعلق بالعلاقة مع أوروبا، هو إصرار الأوروبيين على طمس وتجاهل الدور الكبير الذي لعبته الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية.

ـ أنا في الحقيقة، في هذا الكتاب الأخير، وكذلك في ما سبقه من كتب أخرى كتبتها أساسا باللغة الفرنسية، أخاطب القارئ العربي أكثر من القارئ الأوروبي، لأنني عندما أصف هنا كيفية قيام الأوروبيين بتطوير أسطورة الغرب كوحدة متكاملة متجانسة لا تدين بعبقريتها إلى أي حضارة أخرى، إنما أتحدث إلى حد ما عما نقوم به نحن أيضا. فنحن نعتبر، مثلا، أن منابع الحضارة الإسلامية هي منابع داخلية فقط. في حين أن الحضارة الإسلامية اغتنت بغيرها من الحضارات، وهي سعت إلى ذلك. ونحن ننسى دائما أن حرية الاجتهاد التي كانت سائدة في القرون الأولى من الحضارة الإسلامية هي التي أسست للنهضة العلمية الكبيرة التي خدمت الإنسانية. عندما لجأنا إلى قفل باب الاجتهاد قضينا على التقدم العلمي الذي يطلب حرية الاجتهاد. وحتى في الشأن السياسي، فإن حرية الاجتهاد هي أم الحريات الأخرى المدنية الطابع.

* لنعد إلى الغرب. تقول إن مفهوم الغرب اليوم بات مجرد مفهوم فارغ، جيوسياسي فحسب، تهيمن عليه الثقافة السياسية الأميركية وتستعمله الولايات المتحدة لأغراضها، بحيث لم يعد لهذا المفهوم أي علاقة بأوروبا الثقافة والإبداع والفن والفلسفة. في كتابه الأخير «خلل العالم»، يقول أمين معلوف إن «الحضارة الغربية في انغلاق كبير وعليها أن تتغير».

ـ لم أقرأ كتاب أمين معلوف بعد. في الفصل الأخير من كتابي طالبت أوروبا بأن تتخلى عن مفهوم الغرب، وعن تقسيم العالم إلى غرب له خصوصية لا تُحرف وله عبقرية منغلقة على نفسها لا تغتني بالثقافات الأخرى، وذلك بهدف النهوض على المستويات كافة، بما في ذلك إعادة كتابة التاريخ الإنساني للتخلص من المركزية الأوروبية فيه. صحيح إن أوروبا كانت مركزية في التاريخ الإنساني ابتداء من القرن السادس عشر، ولكن التاريخ الإنساني طويل. وعلينا أن نفتح الأبواب من أجل مستقبل أفضل من الوضع الراهن القائم على الثنائية القائلة بين «هم ونحن»، بين «الشرق والغرب».

* توقفت في كتابك مطولا عند ما تسميه بذور القوة الأوروبية، وقلت إن هذه ارتكزت على الكثافة الاستثنائية لعلاقات القارة مع غيرها من الحضارات، الأمر الذي ساعد على قيام الثورة الصناعية وعصر التنوير.. ولكنك تكتفي بإشارات سريعة وعابرة إلى دور أوروبا في الاستعباد، وإلى أوروبا الاستعمارية والكولونيالية ونهب الثروات..

ـ العامل الحاسم بالنسبة إلى أوروبا لم يكن نهب الثروات. بالعكس. انظر إلى إسبانيا. نهبت إسبانيا قارة أميركا الجنوبية، ولكن ذلك لم يجنبها الوقوع في انحطاط اقتصادي وعلمي كبير. وكذلك البرتغال. وانظر إلى إيطاليا، وقد استعمرت البندقية وجنوى ومناطق واسعة في المتوسط في القرون الوسطى. عرفت إيطاليا نهضة ثقافية وفنية وموسيقية، ولكنها تخلفت اقتصاديا عن سائر أوروبا. المستعمرات كانت عبئا. بعض الفئات في أوروبا استفادت من المستعمرات، ولكن على العموم كانت الحروب في الخارج عبئا. المجال الذي استفادت فيه أوروبا اقتصاديا كان في تصدير ما كان عندها من فائض ديموغرافي إلى الخارج، مما ساعد على تخفيف حدة الكثافة السكانية الناتجة عن ارتفاع مستوى المعيشة.

* ما من شك في أن أوروبا استفادت من المشروع الاستعماري بشكل عام..

ـ هذا في الجانب المظلم من هذا المشروع. ولكني أنا ابتعدت عن التبسيطات الماركسية السابقة، عن نظرة ماركس المظلمة للمستعمرات.

* في فصل مهم في الكتاب في عنوان «من موزار إلى هتلر، ماذا حدث؟»، تطرح سؤالا كبيرا: كيف تحولت أوروبا التنوير والإبداع والفن والموسيقى التي أنجبت موزار وعبقريته، إلى أوروبا هتلر؟ وتتوسع جدا في الحديث عن ظاهرة هتلر والنازية والمحرقة. لماذا هذا التوسع الكبير حول هذه المسائل التي أشبعت درسا؟ هناك أطنان من الأدبيات حول هتلر والنازية والمحرقة، ومع ذلك تتوقف أنت مطولا عندها في حين أنك تكاد تمر بشكل سريع على كارثة كبرى من إنتاج أوروبي هي اغتصاب فلسطين وقيام الدولة العبرية وتشريد الشعب الفلسطيني..

ـ أعتقد أنه يجب علينا أن نقاوم الطريقة التي يعالج فيها الغرب السياسي الإمبريالي المسألة الهتلرية وإبادة اليهود. إلى ماذا يسعى سيل الأدبيات التي ذكرتها؟ إنها تهدف إلى تحميل العالم بأسره مآسي إبادة اليهود في أوروبا، وجعل المحرقة معيارا في تسيير النظام الدولي. وأنا أستشهد هنا بكاتب ألماني هو أولريك بيك Ulrich BECK الذي يقول إنه يجب أن يكون الهولوكوست معيار العدالة الدولية. أنا عندي رد على ذلك. أولا هذه مسألة تعني الأوروبيين وحدهم ولا علاقة لنا نحن بها. فهذه صناعة أوروبية محضة، وهي ليست محصورة بظاهرة هتلر فحسب، إذ إن معظم الدراسات التاريخية تسعى، إما إلى حصر الظاهرة بأنها همجية ألمانية استثنائية حصلت خطأ، أو بتفسير أكثر انحرافا بكثير يذهب إلى أن الظاهرة الهتلرية كانت ظاهرة طبيعية جاءت كردة فعل على البلشفية في روسيا. أنا أقول لهم: لا أبدا. إبادة اليهود كانت متوقعة. أعود إلى التاريخ وأتناول كيف عاملت الأنظمة الأوروبية اليهود، بتأثير من المسيحية بداية، كجنس خاص يفتقر إلى الإنسانية الكاملة، أو بعد ذلك مع النظريات العنصرية في القرن التاسع عشر التي رأت في اليهود عنصرا ساميا غريبا عن نسيج العنصر الأوروبي يجب القضاء عليه أو إخراجه من أوروبا. هذه المواقف كانت منتشرة في الثقافات الأوروبية كافة. فالظاهرة لم تكن محصورة بألمانيا وحدها.

أردت من ذلك أن أقول للأوروبيين إنكم تفرضون المحرقة وبالشكل الذي فرضتموه، أولا بتأسيس دولة يهودية في فلسطين على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين الشرعيين بحجة أسطورة حقوق تاريخية لليهود على هذه الأرض، وأسطورة وحدة الشعب اليهودي، بينما اليهود ينتمون إلى شعوب كثيرة في العالم. وقد صدر مؤخرا في إسرائيل كتابا أثار ضجة كبيرة من تأليف أستاذ جامعي إسرائيلي، تناول فيه ما سماه «اختراع الشعب الإسرائيلي». في كتابي أنا أقول للأوروبيين: يا جماعة هذه مشكلتكم، خذوها وعالجوها أنتم. هذا الكتاب ليس للدفاع مباشرة عن القضية الفلسطينية. فقد دافعت عن هذه القضية في أكثر من كتاب. أما في هذا الكتاب الجديد، فقد أردت أن أفتح ثغرة في الأساطير الغربية نفسها، عبر إعادة تأريخ أوروبا. وهو، بالتالي، إضافة في الجهد النقدي والتفكيكي للأساطير الغربية نفسها، لكي يعي الأوروبيون مدى الضرر الذي ألحقوه بغيرهم من الشعوب، ومدى سخافة السعي إلى فرض المحرقة كمعيار في العلاقات الدولية. وأعتقد أن هذا الأمر يفضح الجانب المظلم لأوروبا التي تريد أن تظهر وجها براقا في جعل الهولوكوست معيارا للعدالة الدولية، بينما الهولوكوست هو تتمة للجانب المظلم لأوروبا وهو يخدم المصالح الإمبريالية. وأنا أقول للأوروبيين انفصلوا عن أميركا، وانفصلوا عن إسرائيل.