التصنيف الفكري لم يعد وسيلة للإقصاء

باحثون وكتاب يناقشون تطورات المشهد الثقافي في السعودية

التصنيف لم يعد فزاعة («الشرق الاوسط»)
TT

على الرغم من أن وجود تيارات ثقافية وفكرية في السعودية أمر واقع، فقد أحدث إشكالية على مدى ثلاثين عاما في إمكانية تعايش المجتمع مع مبدأ التعددية، وبالتالي ظلت الممانعة تتخذ سلوك الفرز والتصنيف كوسيلة من وسائل العزل والإقصاء ضد الآخر، خصوصا فيما يتعلق بالأفكار الحداثية في مجتمع محافظ، فكريا ودينيا. وأكثر الذين اشتكوا من التصنيف باعتباره وسيلة لعزلهم كانت الفئة التي (وصمت) بأنها «علمانية» أو «ليبرالية» أو حتى «حداثية».

لكن الحقيقة أن ثمة تطورا طرأ على المشهد الثقافي، فالإقرار بالتعددية كأمر واقع، يجعل من التصنيف اليوم أقل حدية من السابق. وفي واحدة من المؤشرات على هذا التحول، ما يمكن رصده من مرونة لدى مشايخ الصحوة الذين اشتهروا بسل سيف التصنيف ضد خصومهم، وتتجسد هذه المرونة في تليين خطاب الممانعة، وهو أمر ربما فرضته شروط التحول نحو العولمة الإعلامية التي ساقتها جاذبية البث الفضائي، أكثر من كونها قناعة راسخة بحق الآخر في التعبير والانتماء.

من بين المشايخ الأكثر جدلية في موضوع التصنيف، الشيخ عوض القرني، الباحث الإسلامي الذي كتب في الثمانينات كتابه المثير للجدل (الحداثة في ميزان الإسلام) وشن من خلاله هجوما على خصومه غير الإسلاميين باعتبارهم يمثلون رأس الحربة في مشروع تغريبي يهدف إلى تغيير ثقافة المجتمع.

اليوم، يبدو القرني أقل حدية في تعاطيه مع خصومه القدامى. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن سبب هذا التأزم في التصنيف يعود إلى أن المجتمع السعودي بصفة عامة توفرت له العديد من المعطيات التي جعلته يقف موقف المستريب من التصنيف».

ويشرح الدكتور القرني المعطيات التي ساعدت على تأزيم النظرة للتصنيف بقوله إن المجتمع باعتباره مسلما بالكامل جعل أفراده يحرصون على الحفاظ على هذه الهوية، مشيرا إلى أن «التصنيفات داخل الإطار الإسلامي مرفوضة. وتؤدي إلى الفرقة». لكنه لاحظ أن تمسك المجتمع المحلي بأنماط فكرية أو دينية جاء غالبا بسبب التعود عليها على مدى مئات السنين، كما هو الحال في صيغة التدين السائد، وكذلك فيما يتعلق بالانتماء القومي، وكل ذلك « أدى إلى رفض أية صيغة أخرى بسبب الجهل بها».

وطرح القرني أسبابا أخرى دفعت بالتصنيف الفكري إلى زاوية التخوين، ومن جملة هذه الأسباب، كما يقول، إن «التنوع الطائفي في المجتمع السعودي كان على الهامش طوال الفترات الماضية ولم يظهر هذا التنوع إلا في فترات متأخرة، كذلك للمكون الجغرافي دور أساسي في هذا الجانب، فكون البيئة إما صحراوية أو جبلية، جعل المجتمع منغلقا على نفسه بعيدا عن الصيغ الحضارية والدينية والفكرية الأخرى».

ويعتبر القرني أن «التصنيف يكون مشكلة إذا كان موجها لظلم الآخرين أو بسبب الجهل، ولكن على كل من اختار أن يسلك مسلكا فكريا أو ثقافيا أن يتحمل تبعات هذا الاختيار».

ويضيف: «إذا كان انتماء الفرد إلى توجه فكري معين بصدق فهذا معيار تنوع المجتمع، وتبقى مسألة رفض الفكر الذي ينتهجه أمرا آخر، فمن الطبيعي أن يكون هناك رفض لكثير من الأفكار داخل المجتمع الواحد، حتى في المجتمعات المنفتحة فكريا، فالليبرالية ترفض الماركسية، والماركسية ترفض الليبرالية والرأسمالية، والحرب الباردة كانت بسبب صراع الأفكار. ولا يجوز بحال من الأحوال عند رفض مبدأ معين أو مذهب من المذاهب أن نسلبه حقا من حقوقه، وإذا فهمنا هذا الأساس في التعامل مع الآخر سنكون مجتمعا متنوعا».

* التصنيف السلبي

* ويقول الدكتور مسفر القحطاني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن: «إن أسهل طريقة في التعامل مع الخصم الفكري، هو تصنيفه وتحديده بمحددات دينية أو سياسية يتحمل تبعاتها، فعندما نصنف أي شخص نضعه في إطار معين ونستحضر في ذات الوقت تبعات هذا التصنيف لتكون بمثابة الجرم الذي يحمله حين نستعرض شخصيته أو موقفه، سواء كان ذلك التصنيف صحيحا أو غير صحيح».

ويضيف أن الوضع الاجتماعي والديني في السعودية غير متاح للتنوع الذي نجده في المجتمعات الأخرى، وبالتالي فالتصنيف يعني التخوين أو التهوين من الناحيتين الدينية أو السياسية، لأن هناك من يرفض التعدديات العقدية، والجانب الآخر إصباغ تهمة تشير إلى التحزب مما يعني مواجهة أخرى ذات طابع سياسي.

ويرى القحطاني أن التصنيف بهذه الطريقة يلجأ له المختلفون فكريا في مجتمعنا المحلي لوضع الآخر في مواجهة مباشرة مع الجهات الدينية أو السياسية، لضربه في العمق ونقل الخلاف إلى مستوى اتهامات خطيرة، وسيكون هذا الشخص في موضع الدفاع عن النفس، عوضا عن أن يكون ندا وطرفا مساويا في الطرح الفكري، لذلك يعتبر التصنيف السلبي أسهل الطرق في التعامل مع الخصم والحد من تأثير طروحاته الفكرية.

ويعتبر القحطاني هذه التصنيفات القائمة على التعددية الشرعية كالمذاهب واجتهادات العلماء ليست خالية من الصحة: «فنحن جزء من العالم والطروحات الفكرية العالمية لها وجود لدينا، لكنها ليست بذات الدرجة الموجودة لدى الآخرين، ويمكن أن يكون ما لدينا هو مجرد انتماءات فكرية أكثر منها تنظيمية، خصوصا في إطار الجماعات والأحزاب، وأعتقد أن عدم وجودها ينبغي أن يكون مبادرة من قناعة الناس حول أهمية التعلق بالأمة الواحدة والوطن المشترك، وتغول التصنيفات والتحزبات قد يؤدي إلى التفرق والضعف، أما المقبول منها فهو في دائرة العمل في إطار الثوابت الشرعية والمسلمات الوطنية».

* مع أو ضد

* ويقول الدكتور عبد الرحمن الوابلي أستاذ التاريخ بكلية الملك خالد العسكرية، والكاتب الدرامي: «من الناحية الثقافية، المجتمع لا يقبل التنوع لذلك يتخذ من المغاير موقفا وعلى الأخص موقفا دينيا».

وهذا التوجس من المغاير، كما يرى، حصر التصنيفات الفكرية لدى المجتمع السعودي في التوجه الديني فقط، وأغفل الجوانب الأخرى الأهم للتصنيف وهي الجانب الفكري والجانب الثقافي. ولأن المجتمع السعودي يعتبر مجتمعا منغلقا على نفسه، فإن الأشياء ترى فيه من زاوية (مع أو ضد).أما في المجتمعات المنفتحة فلا أحد يمتلك الحقيقة لذلك عند تحليل الأفكار والتوجهات تتخذ كمعيار فكري وثقافي لتحديد توجهات الكتاب والمثقفين. ويضيف: «لذلك لا تجد أحدا يتنصل من ليبراليته، أو علمانيته، أو يساريته، لأنه يشعر أنه يقدم فائدة للمجتمع الذي يعيش فيه من خلال توجهه الفكري».

ويضيف أن المجتمعات المتحضرة تعتبر التنوع الفكري والثقافي ثراءً تحتفي به، وهذا ما قامت عليه الحضارة الإسلامية في العصور السابقة.

* المستفيدون من التصنيف

* ويعتقد الروائي عبد الحفيظ الشمري أن التجربة الثقافية السعودية ارتبطت ارتباطا وثيقا بما يطرحه المشروع الإعلامي، الذي يتقمص دور الواعظ ودور المحافظ على التقاليد بطريقة مفزعة، «جعلتنا نتهادى على هذا الطريق دون أن نخرج من شرنقة المشروع التقليدي». ويضيف الشمري: «إن ثقافة التصنيف وما تنتجه من صدامات فكرية تجاوزتها المجتمعات الأخرى بسنوات طويلة بينما لا نزال نعاني من الصدامات ذاتها. والسبب هو أن مشروعنا الثقافي مشروع بسيط يسيطر عليه العقل التقليدي الذي حرف التصنيف الثقافي والفكري إلى جوانب أخرى مثل الجانب الديني، وهو يستخدم التصنيف لتحديد مواقف الآخرين من قضايا أكبر قد لا يخوضون فيها أو ليست ضمن أفقهم الثقافي».

والتصنيف هذا، كما يضيف، لم يشمل الأفراد بل وصل إلى الإنتاج الثقافي لهم فهناك أدب إسلامي وأدب غير إسلامي. ويحمل الشمري على النقاد بقوله إنهم السبب في إنتاج هذه الظاهرة، «كأن من يكتب هذا النوع من الأدب تنزع عنهم صفة الانتساب للدين الإسلامي كدين».

ويرى الشمري أن لتقليدية المجتمع دورا في تقبل ظاهرة التصنيف وتفشيها، والسبب سيطرة العقل التقليدي، لذلك تجد التقليديين هم الأقرب للمجتمع والأكثر تغلغلا فيه، والسبب أنهم يغذون هذا المجتمع بما يدعم ثقافته من التشكيك والظن والتكفير والفرز الديني وغيرها من المغذيات الفكرية التي تلقى قبولا.