المواطنية الأميركية استفزازية!

مظاهرها استعراضية ومضمونها تاريخي

TT

يبالغ الأميركيون في التباهي بوطنيتهم، ويكثرون من رفع علمهم، والتعبير عن عظمة قيمهم بشكل يبدو استفزازيا للآخرين، وكأنما الأميركي يعشق وطنه كما لا يفعل أي مواطن على وجه البسيطة. هذا السلوك له أسباب تاريخية تعود إلى أيام إعلان الاستقلال، ولا يزال النقاش حوله مستمرا إلى اليوم. فأوباما مشكوك في مواطنيته عند البعض مثلا، لأسباب تتعلق بطريقته في التعبير عن انتمائه إلى أميركا، مما يتسبب في ردود فعل متناقضة في الولايات المتحدة اليوم، تثير أسئلة كثيرة. فما هي المواطنية الأميركية؟ ولماذا يظن الأميركيون أنهم يحبون وطنهم أكثر مما يفعل الآخرون؟

بعد أن خاطب الرئيس باراك أوباما، العالم الإسلامي من القاهرة، انتقده مثقفون أميركيون، بخاصة مؤيدين لإسرائيل، ومنهم، فرانك غافني، مدير مركز «سيكيوريتي بوليسي» (السياسة الأمنية) في واشنطن، الذي قال إن أوباما: «مسلم في السر». ومن المنتقدين أيضا شارلز كراوتهامر، كاتب تعليقات في جريدة «واشنطن بوست»، وقد شكك في وطنية أوباما.

أثار هذا الاتهام الأخير غضب مثقفين أميركيين، خاصة بعض السود. ويبدو أن النقاش سوف يتصاعد، وربما يصير ساخنا، خاصة بسبب اختلافات تاريخية وعرقية واجتماعية بين السود واليهود في أميركا.

ففي الوقت الذي يتهم فيه أميركيون بعضهم بعضا بعدم الوطنية، أو بالمغالاة في الوطنية، يتهم كثير من الأجانب، الأميركيين بالمغالاة في الوطنية أيضا. ويقول هؤلاء إن الأميركيين يتصرفون وكأنهم أكثر وطنية من غيرهم أو كأنهم يحبون وطنهم أكثر من حب الآخرين لأوطانهم. فهل هذا صحيح؟

نفت ذلك لـ«الشرق الأوسط» د. ودين تيتشاوت، أستاذة تاريخ في كلية «يونيتي» في ولاية مين، وقالت: «لا يستطيع أي عاقل أن يقول إن شخصا ما يحب وطنه أكثر من حب شخص آخر لوطنه. يشبه هذا قولنا إن فلانا يحب والدته أكثر من حب شخص آخر لوالدته». لكنها قالت إن الوطنية الأميركية تختلف عن وطنيات أخرى لأنها وطنية دولة ووطنية روح في الوقت نفسه.

تخصصت تيتشاوت في الحضارة الأميركية منذ أن نالت ماجستير ودكتواره من جامعة هارفارد. وكانت رسالتها عن «الوطنية والتاريخ الأميركيين». ومؤخرا، أصدرت كتابا يحمل عنوان «رفع العلم: تاريخ حب الوطن في الولايات المتحدة». وقالت في الكتاب إن الوطنية الأميركية نوعان:

أولا: «وطنية سياسية» تتمثل في حب الوطن، واحترام علم الوطن، والدفاع عن حكومة الوطن (خاصة في الخارج وأمام الأجانب، رغم الاختلافات الحزبية الداخلية).

ثانيا: «وطنية فكرية» تتمثل في تأييد مبادئ روحية إنسانية عامة، يمكن أن تكون أميركية أو غير أميركية.

طبعا لا يمكن القول إن الأميركي يحب وطنه أكثر من حب الآخرين لأوطانهم، لكن يمكن القول إن الأميركيين يرفعون علمهم أكثر مما ترفع الشعوب الأخرى أعلامها. وظهر هذا واضحا بعد هجوم 11 سبتمبر (سنة 2001).

حتى قبل الهجوم، وفي الأوقات العادية، ربما لم يكن يوجد مبنى حكومي أو مبني لشركة كبيرة لا يرفع العلم. وقد لا يبدأ مؤتمر أو احتفال وطني، قبل رفع العلم، وقد يقرن ذلك بقسم الولاء، وأحيانا، يدخل حرس عسكري قاعة الاجتماعات وهو يحمل العلم، ثم يقف الحاضرون، ويضعون أيديهم اليمنى فوق قلوبهم، ويقسمون قسم الولاء.

وكان العلم يرفع عاليا فوق المدارس والمستشفيات والملاعب الرياضية، ولا تبدأ مباراة رياضية قبل رفع العلم وقسم الولاء.

وكان العلم يرفع أيضا في أماكن أخرى يوم عيد الاستقلال الرابع من يوليو، (تموز)، مثل معارض بيع السيارات، ومحطات البنزين، والمطاعم والمقاهي، وكذلك فوق أبواب أغلبية المنازل. وتغرس جمعيات أو شركات عقارية علما صغيرا أمام كثير من المنازل. وبعد هجوم 11 سبتمبر ولسنوات طويلة، بدا وكأن العلم رفع أمام كل منزل ومبني، ووضعت ملصقاته على كل سيارة وشاحنة. وتنافس السياسيون على وضع أعلام صغيرة على صدورهم. في البداية، بدا الرئيس السابق بوش والحزب الجمهوري وكأنهما يحتكران العلم، وانتقدوا قادة الحزب الديمقراطي، الذين لم يضعوا أعلاما صغيرة على صدورهم. وظهرت اتهامات بخيانة الوطن. ولم يسلم من ذلك الرئيس أوباما، لأنه، خلال المعركة الانتخابية، رفض أن يفعل مثل غيره. لكنه، الآن كرئيس للجمهورية يضعه أحيانا، كما فعل عندما سافر إلى القاهرة، وخاطب العالم الإسلامي من هناك. عن هذا، قالت د. تيتشاوت: «في الولايات المتحدة، توجد صلة قوية، تاريخية ونفسية، بين الوطنية والعلم. هل يعني إلحاحنا على رفعنا لعلمنا، أكثر مما يفعل الآخرون، أننا أكثر منهم وطنية؟ لا أعتقد ذلك! أعتقد أن العلم، بالنسبة لنا، يمثل جانبي الوطنية: السياسية والفكرية. نرفعه كثيرا لأننا وطنيون سياسيون، نفتخر بالوطن الذي أسسناه. ونرفعه كثيرا لأننا وطنيون فكريون إنسانيون، نفتخر بالروح التي أسسنا عليها وطننا».

وركزت د. تيتشاوت على كلمة «حب»، وقالت: «صار حب الوطن جزءا من الولاء للوطن. وصارت العاطفة جزءا من العقلانية».

في عصر التلفزيون، صار عاديا أن تصور الكاميرات أميركيين يبكون وهم يقفون ويحيون العلم وينشدون: «قل هل ترى، مع ضوء الفجر الباكر، كيف رحب بنا في آخر وميض الشفق؟ من هو صاحب الشرائط العريضة والنجوم البراقة (في العلم الأميركي) التي ترفرف في بسالة خلال القتال المميت، الذي شاهدناه فوق القلعة؟ عندما أكد، خلال الليل، وهج الصواريخ الأحمر، والقنابل التي تنفجر في الهواء، إن علمنا لا يزال مرفوعا. قل ألا يرفرف علم النجوم فوق أرض الأحرار ووطن الشجعان؟». أصل هذا القسم قصيدة من سنة 1816، عندما قاوم الأميركيون محاولة غزو بريطانية. وهي، حقيقة، أشهر قصيدة أميركية.

وبالعودة إلى «الوطنية الفكرية» و«الوطنية الروحانية»، فالأمر يعود إلى فترة إعلان الاستقلال، وميثاق الحقوق. فمن جانب، يمكن اعتبار إعلان الاستقلال أساس الوطنية السياسية، التي تأسست عليها الدولة، ومن جانب آخر، يمكن اعتبار وثيقة حقوق الإنسان أساس الفكر (أو الروح) الذي تأسست عليه الدولة.

سنة 1776، أجاز الكونغرس إعلان الاستقلال بعد الانتصار على بريطانيا. وفي سنة 1787، أجاز الكونغرس الدستور، وبعد سنتين أجاز إدخال ميثاق حقوق الإنسان في الدستور. لكن، الميثاق كتب قبل الدستور، وقبل الاستقلال، كتبه جورج مايسون، سياسي من ولاية فرجينيا، ويسمى «أبو حقوق الإنسان»، شاركه جيمس ماديسون، من الولاية نفسها. أما السياسي الثالث من فرجينيا، فهو توماس جفرسون، ويسمى «أبو الاستقلال»، لأنه كتب إعلان الاستقلال. وهنا يأتي الفرق الفكري: ركز جفرسون على «الاستقلال»، ومايسون على «الحقوق». ركز الأول على «الفعل» وقال الثاني الذي ركز على «الروح» إن حقوق سكان ولاية فرجينيا أهم من استقلالهم، لأن الحقوق هي التي تقود إلى الاستقلال، وليس العكس.

واعتمد مايسون على «ماغنا كارتا» البريطانية (سنة 1215). وتقول في بدايتها: «توكلنا على الله أن تكون كنيسة بريطانيا حرة، وأن تعتمد على حقوقنا المدرجة هنا». معنى ذلك أن أساس وثيقة حقوق الإنسان كان روحيا، ودعا لحقوق دينية في مواجهة ظلم الملوك. ومعنى هذا أن مايسون اعتبر أن حقوق الإنسان «هي من السماء» وأهم من الاستقلال.» قالت تيتشاوت: «هناك نوعان من الوطنية الأميركية: الأولى، وطنية جفرسون والاستقلال. والثانية، وطنية مايسون والحقوق، الوطنية الروحية، التي قال مايسون إنها من عند الله». وأضافت: «تركز وطنية الاستقلال، على العلمانية، وفصل الدين عن الدولة. وتركز الوطنية الفكرية على حقوق الإنسان»

لكن الدستور الأميركي، منع الحكومة من التدخل في الدين، ومنع الكنيسة من العمل السياسي. «خط جفرسون، كاتب الدستور، خطا وسطا. وقال إن الإيمان بالله أساس الفكر الذي تأسست الدولة عليه. لكن، بسبب اختلاف الناس حول الله، لا بد من فصل الفكر عن الدولة».

لهذا، قالت تيتشاوت: «ليس سرا أن أغلبية الأميركيين يشكون في الحكومة. ولا يتحمسون للاشتراكية والبرامج الاجتماعية الحكومية، ليس لأننا غير إنسانيين أو لأننا رأسماليون. بالعكس، نشك في الحكومة لأننا إنسانيون، ونرى أن حقوق الإنسان أهم من الحكومة، وأن روح أميركا أهم من حكومة أميركا، ولأننا نخشى أن حكومتنا ـ وهي حكومة بشر ـ تريد يوما ما أن تؤثر على حقوقنا، وهي حقوق أساسها روحي سماوي».

لهذا، يبدو أن الأميركيين يريدون ربط الوطنية بمبادئ تعلو على الوطن. في بريطانيا، رغم أن الكنيسة هي رأس الدولة، لا يوجد دستور مكتوب يحدد ذلك «هل لهذا تحاشى البريطانيون كتابة دستور؟». وفي روسيا، كانت الدولة جزءا من الفكر الشيوعي. وفي وقت لاحق، كانت الدولة ستذوب، ويبقى الفكر الشيوعي. لكن، ظل قادة أميركا يكررون بأن هناك مبدأ إنسانيا أعلى من الوطن، وسموه «سبيريت أوف أميركا» أي: (روح أميركا). وقالوا إن الذي يؤمن بهذه الروح يكون أعلى من الوطن، ويستطيع أن يخدم الوطن أكثر من المواطن العادي.

قال جفرسون: «قبل الحكومة، كل الناس ولدوا متساوين». قال لنكون: «الحكومة ليست لحكم الناس، ولكن لرفع مستواهم». وقال كنيدي: «لا تسأل ماذا يقدم لك وطنك، اسأل ماذا تقدم لوطنك. قال ريغان: «روح أميركا تنهمر مثل نهر قوي، لتروي أرضنا«. وقالت تيتشاوت: «لسنا أكثر وطنية من غيرنا، لكننا نحب وطننا، ونحب الروح التي تأسس عليها، وربما أننا وطنيون مرتين، لا مرة واحدة».