كتاب مصريون: لا تثقوا بأرقام التوزيع

ظاهرة الكتب الأكثر مبيعا.. عربيا

علاء الاسواني
TT

يتبرم المبدعون والكُتاب دائما في كتاباتهم وأحاديثهم اليومية، وحتى في حواراتهم من أزمة القراءة وتقاعس النقد، ولا يخفون استياءهم مما يعرف بظاهرة الكتب الأكثر مبيعا. ترى هل توجد وصفة سحرية لا يعرفها إلا القليلون أم أن هناك خللا ما؟ ولماذا مثل هذه الكتب بالذات يتجاهلها النقاد مع سبق الإصرار والترصد؟ ما معنى أن يحقق كتاب ما ـ وغالبا ما يكون رواية ـ أعلى رقم توزيعا ومبيعا؟

* مثال الأسواني

* الروائي والناقد المصري إبراهيم فرغلي يرى أن «هذه الظاهرة تخلق حالة من التشوش الإبداعي التي أسهمت في دخول حقل الكتابة يوميا من قبل مدعين يكتبون نصوصا صدرت وتم الاحتفاء بها، ولا ترقى للمنافسة مع أي نص إبداعي كبير مما يشيع في الغرب»، مشيرا إلى أن بعض المحسوبين على الوسط الثقافي يسعون إلى تدجين الكاتب ودوره، وتحويله من صاحب دور طليعي، ورؤى كاشفة وعميقة إلى واجهة إعلامية، مستخدما خطابا سطحيا ونسيجا لغويا دعائيا يداعب مشاعر الجمهور، مؤكدا أنها: «تروج لفكرة ربط الخفة والبساطة والحكي المباشر بانتشار العمل الأدبي، وتقدم نموذجا فجا للدعائية، صورتها نجومية الكاتب بأسلوب مستدعى من نجوم الفن والسينما، بعيدا عن صورة الكاتب الأصيلة، كمفكر، قادر على التقاط المعاني مما يراه».

ويستشهد بكتاب لقيت رواياتهم رواجا مثل إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وإسماعيل ولي الدين، وكان محفوظ وإدريس موجودين: «لكن المناخ النقدي كان يضع كل نوع من تلك الأعمال في مكانه الطبيعي، ولم يفسر انتشار أعمال إحسان بين الجمهور خاصة المراهقات، بأنه دليل أو معيار قيمة. في الولايات المتحدة سنجد أن كاتبا مثل دان براون صاحب «شفرة دافنشي» قد باع من كتبه عشرات الملايين، لكنه لا يصنف أدبيا مع كبار الكتاب أمثال فيليب روث، أو بول أوستر، كما لا يقارن أيضا بهيمنغواي أو ميللر، ولا يزعم هو أكثر مما يفعله».

وهو يرى أن ظاهرة علاء الأسواني ـ كمثال ـ « لها ميزة إيجابية تمثلت في استعادة الجمهور للقراءة، وهو جمهور كان موجودا ينتظر مناخا يوفر له الكتاب عموما، لكني أظن أن الأدب الرفيع هو الذي سيستفيد مما قدمه علاء الأسواني بترويجه لرواياته».

* الطويلة: لعبة التشويق

* أما القاص والروائي وحيد الطويلة فيرى أن الخلل في أحد جوانبه يتعلق بالنظرة للأكثر مبيعا، ويتعلق في جوانب أخرى بالنقد والتعليم والقراءة. فانهيار مستوى التعليم، في مصر مثلا، قد ساهم في وجود شريحة كبيرة لم تتعلم ولم تتثقف استفادت من تلك الكتابات التي تسعى لمجرد التشويق على طول النص بلغة تناسب تماما مستوى هؤلاء القراء».

في العالم العربي منذ فترة، كان هناك متن يلعب فيه أصحاب تجارب مختلفة، وهامش يصلح للنزق والاستمتاع وللأكثر مبيعا، (يظهر ذلك بوضوح في مجال الغناء)، وعندما انتقل الهامش الرديء إلى المتن أكل المتن وأكل الهامش، ولم تعد هناك فرصة لظهور موهبة حقيقية. لكن ذلك لا يصح ولا يجب حين يتعلق بالكتابة».

* القعيد: مصداقية أرقام التوزيع

* أما الأديب الستيني محمد يوسف القعيد فلا يخفي شكه في تلك الظاهرة «ما دامت لا توجد في العالم العربي مؤسسات تتحقق من الانتشار والتوزيع، وهذه المؤسسات موجودة في الغرب ومستقلة استقلالا تاما، وتعلن أرقاما دقيقة. لا أثق في أي أرقام كانت لتوزيع أي كتب»، مضيفا أن مؤسسات الصحافة في الغرب تعرف بوسائلها الخاصة كم طبع من كل طبعة: «وهذا غير موجود عندنا، وأنا لست معجبا بالغرب، لكن من دون وجود مثل هذه المؤسسات، لا يمكن أن نتأكد من عدد المطبوع ولا من عدد الطبعات ولا من أكثر الكتب مبيعا. لابد من وجود مؤسسة محايدة نحتكم لها، لا أصدق كلام المؤلف ولا ناشره، لأن لهما مصلحة في مثل هذا الرواج الوهمي، غير العادي. الوطن العربي مليء بالأمية، مليء باللامبالاة، مليء بعدم القراءة، ولا بد أن تكون هناك مؤسسة تكون مهمتها الوحيدة القيام العلمي الدقيق.. كم طبع من هذا الكتاب، كم طبع من كل طبعة، كم وزع، كم ارتجع، هذا موجود في الغرب لكن - للأسف - لا يوجد في الوطن العربي كله مؤسسة لهذا الشأن.

في الستينات كان هناك مشروع لهيكل بدار المعارف لإنشاء مؤسسة اسمها «أراك» لكنها صُـفـيّت بعد ذلك».

* الصاوي: الكتابة للنخبة

* الكاتب والفنان خالد الصاوي يرى أننا «نعاني في العالم العربي من مشكلة كبيرة بخصوص الكتاب، إضافة إلى ما يعرف بـ«كهنوت الكتابة».

ففي إنجلترا أو فرنسا تجد عددا من الكتب التي تنقل خبرات الناس العاديين، حيث تجد كتابا لربة بيت أو عامل. أنا لا أفكر في رواج الكتاب في العالم العربي من دون أن أفكر في كل هذه الأشياء. لدينا أزمة معقدة ومركبة تخص صناعة الكتاب وترجمته، وطرق تسويقه وتداوله».

وعن ظاهرة «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني التي تراها «النخبة الأدبية» ـ بتعبير الصاوي ـ عملا ضعيف المستوى، يقول: «أنا قرأت الرواية وأقرأها مثلما قرأها الملايين ممن أعجبوا بها.

لماذا أعجبوا بها؟ لأن الكتابة الروائية تحولت في الفترة الأخيرة إلى الانغلاق على ذاتها وإلى الكهنوتية والنخبوية. والرواية بالنسبة لي يجب أن تخاطب الناس بلغة واضحة وسلسة وبجرأة تفتقدها الكثير من روايات النخبة. وهذا ما يحتاجه الشارع، والأولى الاستماع إلى الشارع وليس النخبة الأدبية، فالكتاب الكبار في العالم بأسره كانوا جماهيريين، ولم يكونوا نخبويين كما هو الحال مع باولو كويلو وغابريال غارسيا ماركيز»، وكدليل على التناقض بين اختيارات الجماهير وبين اختيارات النقاد، يستشهد خالد الصاوي بالأفلام التي تنجح جماهيريا ولا تشارك في المهرجانات، والعكس صحيح.

* القمحاوي: محفوظ وظاهرة أرماني

* أما مدير تحرير جريدة «أخبار الأدب» الكاتب عزت القمحاوي فهو ليس ضد وجود ظاهرة «الأكثر مبيعا» بحد ذاتها، فقد تكون مفيدة في تثبيت عادة القراءة في المجتمع، حيث ترتقي نسبة من قراء هذه الكتب إلى ما هو أعمق فيما بعد. ويضيف: «جميع الثقافات تعرف ظاهرة «البست سيلر»، وليس صحيحا أننا عرفناها متأخرا مع موجة التسليع في السنوات الأخيرة. في مصر كان عزيز أرماني يوزع عشرات الآلاف من كتب مثل «أسرار ليلة الزفاف»، بينما تكافح رواية محفوظ لتوزيع ألف نسخة في العام. وكان إسماعيل ولي الدين يطبع من رواياته سبعين ألف نسخة دفعة واحدة، وتتحول فورا إلى أفلام، ولم يعد لإسماعيل ولي الدين من ذكر إلا في السينما بفيلم «حمام الملاطيلي»، لأنه قدم أوسع مساحة عري في السينما المصرية!».

لم يمثل عزيز أرماني مشكلة بالنسبة لنجيب محفوظ، ولم يمثل إسماعيل ولي الدين أزمة بالنسبة لجيل الستينات المصري. الأمر نفسه ينطبق على الفرق بين خوسيه سارماجو وباولو كويليو، للأول رصانة الأدب والاهتمام النقدي الذي أوصله إلى نوبل، وللثاني السوق الواسعة وألـم عدم الاعتراف الأدبي. هذا الوعي بقلة قيمة الكتب الأكثر انتشارا، هو الذي جعل كاتبا مثل أمبرتو إيكو يحاول نحت مصطلح جديد «الجيد الرائج»، وكأنه يريد أن يجد عذرا لرواج رواياته، وتحديدا «اسم الوردة».

وقد تحدث بالفعل المصادفة السعيدة في مرات نادرة فتقترن الجودة مع الانتشار الكبير. لكن هذا الاستثناء يؤكد قاعدة الخصام بين القيمة والانتشار. وهذا لا ينفي التعايش أيضا، بحيث تبقى المسارات واضحة والحدود معروفة». ويرجع الخلل والفوضى التي تعم الساحة العربية، حيث تختلط كتب البست سيلر مع الكتب الأدبية، إلى ثلاث سلطات تتداخل فيما بينها: سلطة النقد، ولا يتورع القمحاوي عن اتهامها بالكسل والفساد، حيث المقالات التي تهلل للروايات الأكثر مبيعا. أما السلطة الثانية فهي سلطة «جوائز الخليج». والسلطة الثالثة هي سلطة الترجمة إلى الغرب المتشوق لمعرفة البيئة التي أنجبت بن لادن.

ولكن هذه الترجمة لأهداف بعيدة عن الأدب تعيد توطين البست سيلر في بلاده، وعلى الكاتب المؤمن بخياراته الفنية الابتعاد عن كل ذلك الضجيج، فليس من الحكمة تبديد الجهد في حرب عبثية حول مفهوم الكتابة، مع كاتب البست سيلر المدعوم بقوة قتل ثلاثية!».

* عكاشة: التوزيع ليس مقياسا

* وينصح الكاتب والسيناريست أسامة أنور عكاشة بالابتعاد عن الادعاءات الفارغة، لأن: «الأدب الرصين والجميل والأصيل لا يقاس بالتوزيع، بينما كتب (البورنو) توزع أكثر. إنها مظاهر خادعة، فهناك من الأدب والفكر الرفيع ما لا يوزع، لكنه في حقيقته روح الحقيقة وروح الأمة. لا أريد أن يكون مقياسنا من يوزع أكثر مِن من. كُتاب الأعمال التافهة، والمثيرة للغرائز، التي تدعي الخروج عن السائد توزع أكثر لأنها تثير الانتباه، فحينما يكتب أحدهم رواية أو كتابا فيه مساس بالدين أو المقدسات يوزع أكثر، لأن فضول الناس هو الذي يحكم عملية التوزيع، وحين تنظم لرواية ما دعاية جيدة وتغطية دعائية عريضة توزع أكثر من رواية أفضل منها. المقياس لا يجب أن يكون بالتوزيع».