مأساة المثقف في رواية إنجليزية مرشحة للفوز ببوكر

بيريل بينبريدج تكتب عن محنة العقل أمام صلادة الواقع

TT

للمرة الاولى في تاريخها، تعلن لجنة جائزة بوكر البريطانية للرواية عن «قائمة طويلة» للمرشحين ضمت اربعة وعشرين روائيا.

ويبدو انها فعلت ذلك، في محاولة لاطلاع اكبر عدد من النقاد والقراء على الروايات المرشحة، وتجنب الاتهامات التي تتكرر كل سنة حول مصداقية لجنة التحكيم.

وكانت المفاجأة في القائمة الطويلة استبعاد رواية سلمان رشدي الجديدة «العنف» من القائمة، بينما دخلها روائيون جدد ينشرون للمرة الاولى مثل راشيل شيفرت، ومانيل شوري، والافريقي الاصل عبد الرزاق قرنة اللاجئ في بريطانيا منذ الستينات. ومن الاسماء المعروفة رشح في أس نيبول، من جزر الكاريبي، وكان مرشحا بقوة السنة الماضية للفوز بجائزة نوبل للآداب، وكذلك نادين غورديمر التي سبق لها ان فازت بجائزة نوبل.

ومن المرشحين الآخرين جيمس كيلمان الذي سبق له ان فاز ببوكر، واندرو ميللر عن روايته «اوكسجين»، والاسترالي بيتر كيري عن روايته «التاريخ الحقيقي لكيلي جانج». ورشحت للمرة الاولى رواية للاطفال هي «التلسكوب الكهرماني» لفيليب بولمان، و«وفقاً لكويني» بيريل بينبريدج. وستختار لجنة التحكيم، كالعادة، ست روايات لقائمة الترشيح النهائية التي ستعلن في الثامن عشر من الشهر القادم، على ان يعلن اسم الفائز او الفائزة في اكتوبر (تشرين الاول). ومن المتوقع، على نطاق واسع، ان تفوز بها بيريل بينبريدج عن روايتها الجديدة «وفقا لكويني»، وهنا قراءة في هذه الرواية.

صموئيل جونسون الشاعر الانجليزي والمثقف الموسوعي ذو الصولات الثقافية الشهيرة في زمانه، منتصف القرن الثامن عشر، هو الشخصية الرئيسية في رواية «وفقا لكويني». وبينبريدج، بالمناسبة، مرشحة مزمنة لجائزة بوكر البريطانية للرواية، فقد رشحت خمس مرات من دون ان تفوز بها ويبدو ان حظوظها هذه المرة اقوى بكثير من المرات السابقة.

تلجأ بينبريدج في هذه الرواية لتحاكم عصر جونسون، وبالتالي عصرنا، من خلال قصة الفتاة كويني التي تضعها في مواجهة اشهر شخصيات تلك الفترة المزدهرة ثقافيا، الشاعر اوليفر جولدسميث، والممثل ديفيد جاريك، والرسام جوشا والفيزيائي صموئيل بينبر، وكاتب السيرة جيمس بوسويل، انهم زوار دائمون لآل ثريل، الذين يملكون محلا لصنع البيرة. ومن خلال تداخل الحيوات هذه، تركز الروائية على شخصية جونسون الذي يرتبط بعلاقة حب مع السيدة ثريل، وهي سيدة في منتهى الذكاء، وقاسية احيانا كابنتها، وتعاني من خيانة زوجها لها المستمرة. وفي هذه الفترة، يصدر جونسون قاموسه الشهير، وهو اول قاموس في اللغة الانجليزية. وشيئا فشيئا، يصبح جونسون فردا من العائلة، حتى انهم يفردون له غرفة في بيتهم.

وتصبح السيدة ثريل، ليس عشيقته فقط، وانما تلميذته ايضا.

وهنا تتداخل العاطفة بالعقل، والحياة الفكرية بالعملية، وبالتالي الخيال بالحقيقة فلا نعود نميز بينهما. ومن هنا، ايضا، تخرج الروائية بينبريدج من حدود التاريخ الى فضاء التخيل، وتجرد جونسون من واقعيته لتعيد رسم شخصيته وحتى تاريخه حسب منطق البناء الداخلي للرواية التي تصبح هي واقعا آخر. ان الخيال يتفوق على العقل كلما انغمر الانسان فيه اكثر، كما يقول جونسون للسيدة ثريل، وبذلك تعمل الرواية عمل الواقع. ينمو الخيال، اولا، بشكل ملح، ثم يصبح استبداديا مع مرور الوقت. والاعتقادات الكاذبة، كما يقول جونسون، تهاجم العقل حتى تحتله، وتتحول الحياة الى حلم ملؤه البهجة او الغضب.

ولجأت بينبريدج الى عدة رواة لتنقل لها احداث ذلك الماضي البعيد، وتعيد تشكيله. الراوية الاولى هي كويني التي اوحت الرواية، ابتداء من العنوان، انها تستند اليها في رواية الحدث، من خلال رسائل كانت تكتبها، الى لاتيشيا هوكنز، ابنة احد مرتادي حلقة جونسون. وكانت تبعث برسائلها بلا اكتراث بالرغم من علمها انها ستسبب آلاما كثيرة لعدة اشخاص وخاصة امها.

والراوية الآخر هو جونسون نفسه، واحيانا السيدة ثريل. وهي تلجأ لهذا التكتيك، الذي قد يبعث على الارتباك، لتضعنا امام مواجهة تصورات قد تكون متناقضة لكل راو، وبالتالي لكل شخصية من الشخصيات، وكل حدث من الاحداث حسب وجهة نظر الراوية.

في هذه الرواية، تستخدم بينبريدج كل مهاراتها، التي اكتسبتها من خلال اكثر من اثنتي عشرة رواية، بحذاقة وذكاء ودأب ايضا. واكثر من ذلك بمعرفة معمقة بالايقاع الخفي لحركة المجتمع في بريطانيا منتصف القرن الثامن عشر الذي لا يختلف، جوهريا، عن عالمنا اليوم. فقضية الفرد في علاقته مع ذاته، ومع المجتمع، و«هوس» النفوس الشفافة بالمعرفة والتغيير ما تزال هي هي وان تبدلت اشكالها وطرق التعبير عنها. ان صموئيل جونسون يعاني لانه يحاول «ان يمنح العالم معنى»، وان يضفي جوهرا للاشكال التي تتسرب من بين يديه دائما. ومن هنا لم تكتب بينبريدج رواية تارخية عن مثقف موسوعي مثل صموئيل جونسون، وانما رواية معاصرة عن كل مثقف حقيقي يحلم بتغيير العالم الذي يعيش فيه، ولا يكتفي بتفسيره.

انها «مشكلة العقل» كما يقول جونسون في السنة الاخيرة المؤلمة من حياته، هذا العقل الذي يجد نفسه، في النهاية، منهزما امام صلادة الواقع البغيض، وامام هشاشة الجسد ايضا.

معظم النقاد، كما ذكرنا، يرشحون هذه الرواية للفوز بجائزة بوكر لهذه السنة، ونعتقد ان بينبريدج تستحقها هذه المرة عن جدارة.