بحث عن قبائل وثقافات منسية

3 مغامرين أميركيين أدركوا قوة تسجيل الأحداث للأجيال المقبلة

«العشب: قصص مسكوت عنها» تأليف: باهمان ماغسودلو ـ 348 صفحة ـ دار نشر: مازدا ببليشرز، كاليفورنيا، 2009
TT

سلطت الأزمة السياسية الأخيرة في إيران الضوء على المصاعب التي تواجهها جهود تغطية ما يدور داخل بلاد تراودها رغبة كبيرة في الانفتاح على العالم الخارجي، وفي الوقت ذاته يساورها خوف بالغ حيال ذلك. في الوقت الحاضر، تعمد السلطات الإيرانية إلى طرد ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية، لعدم رغبتها في أن تسجل كاميرات التلفزيون الغضب المشتعل في الشوارع. وبالمثل، أبدت السلطات الإيرانية عام 1925 توجسا إزاء الكاميرات البدائية التي كان يجري استخدامها في إنتاج الجيل الأول من الأفلام الوثائقية، وذلك لعدم رغبتها في أن يشاهد العالم الفقر المدقع المهيمن على أراضيها.

كانت واحدة من هذه الكاميرات ملكا لفريق يضم ثلاثة مغامرين أميركيين، أدركوا قوة الفيلم على تسجيل الأحداث وعرضها، وأخيرا، فرض الرؤية المتبدلة للواقع حتى في أكثر المناطق القاصية من العالم.

أما الفريق الثلاثي سالف الذكر، فتألف من اثنين من مخرجي الأفلام الوثائقية، ميريان سي.كوبر، طيار بالقوات الجوية، وإرنست شودساك، مصور كان يعمل لحساب الجيش، ومارغريت هاريسون، إحدى رائدات المراسلات الصحافيات.

سعيا وراء فكرة مبهمة دارت حول البحث عن «القبائل المفقودة والثقافات المنسية»، انتقل الثلاثة إلى الشرق الأوسط، وعمدوا إلى استكشاف أجزاء واسعة من منطقة الأناضول في أعقاب تفكك الإمبراطورية العثمانية، ثم وصلوا إلى العراق المحرر حديثا دون أن يلقوا بطريقهم أي قبائل مفقودة أو ثقافات منسية. وعند كل مرحلة من الرحلة، كان يتم إخبار أعضاء الفريق الثلاثي أن باستطاعتهم الوصول إلى هدفهم المنشود إذا ما تحركوا باتجاه الشرق. داخل أرض العراق، نما إلى مسامع أعضاء الفريق للمرة الأولى وجود «قبيلة غامضة» لم يتبدل أسلوب حياة أبنائها منذ فجر التاريخ.

كانت هذه القبيلة في حقيقة الأمر اتحادا من مجموعة عشائر، والتي رغم ما يجمعها من روابط دم منذ عصور قديمة، فإنها تشكل كوكبة من أساليب الحياة والتقاليد المتباينة. عرف هذا الاتحاد باسم «بختياري»، ونجح في استيطان جانبي «زارد كو» (الجبل الأصفر)، المتفرع من «زاغروس»، وهي سلسلة جبال تبدأ في جنوب تركيا، وتمر عبر إقليم كردستان العراقي، وتستمر في جنوب وسط إيران وصولا إلى الحدود مع المنطقة التي تشغلها باكستان حاليا.

أجرى الفريق الأميركي اتصالات مع زعماء القبائل ونجحوا في الحصول عل تصريح بمرافقة الاتحاد خلال رحلة انتقالهم السنوية من مناطق الإقامة الشتوية إلى الأخرى الصيفية. وجاءت النتيجة في صورة أول أعظم الأفلام الوثائقية على الإطلاق، وهو فيلم كلاسيكي يعد، بجانب فيلم «نانوك أوف ذي نورث» لروبرت جيه. فلاهرتي، نموذجا مثاليا من نوعه.

في كتابه المشوق المثير، يخصص باهمان ماغسودلو، وهو إيراني معني بالمجال السينمائي يعيش حاليا في الولايات المتحدة، النصف الأول لتقديم الفريق الثلاثي في إطار الحرب وحالة الفوضى العالمية التي كانت قائمة آنذاك. أما النصف الثاني من الكتاب فيتناول جهود إخراج الفيلم الوثائقي ذاته، ومروره عبر عقود من الإهمال، وإعادة اكتشافه كنموذج رائع لإخراج الأفلام الوثائقية.

ويمكن قراءة الجزء الثاني من الكتاب المتعلق بسرد الرحلات بالغة الإثارة التي قام بها الفريق على ثلاثة مستويات.

المستوى الأول: سرد القصة ذاتها، بكل ما حوته من إثارة وأخطار بكل مرحلة من مراحلها. وخلال قراءة هذا الجزء، يتعرف المرء على الكثير من المعلومات بخصوص شخصيات أعضاء الفريق. فيما بعد، أصبح كوبر وشودساك مخرجين ذائعي الصيت، وقدما إلى السينما العالمية أعمالا كلاسيكية مثل «كنغ كونغ». أما هاريسون، التي عملت لحساب الاستخبارات الأميركية في ألمانيا وروسيا خلال الحرب العالمية الثانية، فبنت حياة مهنية جديدة ومتميزة لها كمراسلة متجولة. على المستوى الثاني، يعتبر الكتاب، المعتمد على الفيلم الوثائقي، المتاح حاليا في صورة اسطوانات فيديو رقمية، نموذجا رفيع المستوى في الكتابة عن علم الإنسان الوصفي (الإثنوغرافيا). ومن هذا المنظور، تزداد أهمية هذا الفيلم في وقتنا الحاضر، نظرا لأن حياة البدو التي يسجلها أصبحت في ذمة التاريخ. يذكر أن «بختياري» لا يزالون موجودين في جنوب وسط إيران، ولا يزال البعض منهم يقوم برحلات الهجرة السنوية بحثا عن العشب اللازم للإبقاء على أغنامهم. إلا أنه في واقع الأمر، يعد الوضع الراهن مجرد ظل باهت للمجد القديم للقبيلة. وتحول «بختياري» الآن، مثلما أوضح محسن ماخملباف في فيلمه الرائع «غبه»، إلى رمز للتزيين يرتبط بالفلكلور أكثر منه ثقافة نشطة.

ويرتبط المستوى الثالث بالضوء الذي يركزه الكتاب على التاريخ الإيراني خلال فترة جوهرية. في ذلك الوقت، كانت البلاد قد شهدت للتو انقلابا عسكريا تمخض عن تولي حكومة إصلاحية جديدة مقاليد السلطة بقيادة رئيس الوزراء سيد ضياء الدين طبطبائي. وضمت الحكومة الجديدة في صفوفها شخص عسكري واحد: رضا خان، قائد فرقة القوزاق، بمنصب وزير للدفاع.

خلال فترة صنع الفيلم الوثائقي، ترقى رضا خان إلى منصب رئيس الوزراء، بعد نجاحه في خلع ضياء الدين، الذي افتقرت شخصيته إلى الفعالية رغم نشاطه. وتمثلت واحدة من أبرز أولويات رضا خان في خلق حكومة مركزية قوية مقرها طهران. واستلزم ذلك وضع نهاية للنظام القديم القائم على الولاءات القبلية.

في الوقت الذي كان الفريق الثلاثي يعكف على صنع الفيلم الوثائقي، كان رضا خان قد نجح بالفعل في إخضاع «لور»، واحدة من القبائل الشقيقة لـ«بختياري»، وكان يتهيأ للتحرك ضد الأخيرة. وتكمن المفارقة الكبرى في أن «بختياري» هي التي عاونت رضا خان على الوصول إلى سدة الحكم، غير مدركة أنها سطرت بذلك لعنة كبرى أصابتها.

ومن جانبه، يعرض ماغسودلو القصة بأسلوب سينمائي مميز، يتضمن لقطات مقربة ومشاهد ارتجاعية. ومع أن سعي «بختياري» وراء العشب ربما يكون قد ولى منذ أمد بعيد، فإن السجل الخاص بنضال القبيلة الملحمي من أجل البقاء يبقى قائما.