عودة مظفرة لأفلام الستينات إلى البيوت السورية

حين يبدأ التغرير بالمشاهد من «الأفيش»

دريد لحام وهويدا في مشهد من فيلم «زوجتي من الهيبيز»
TT

فجأة عادت أفلام الستينات إلى الشاشات، بل أيضا إلى البسطات السورية، حيث يعثر الراغب على تلك الأشرطة التي كانت حكرا على فئة معينة، وفي صالات لا تدخلها العائلات أو تعرفها الشريحة المحافظة. ظهرت أقنية تلفزيونية متخصصة في السينما، ونبشت إرثا كان يعتبر «شعبيا» لا بل و«بذيئا» في بعض الأحيان، فدخل البيوت من أوسع أبوابها، ثم انتشر على أقراص «دي في دي»، بأسعار خيالية. فأي إرث سينمائي نسترجع اليوم، وما سر حماستنا له؟

أفيشات الأفلام التجارية السورية التي تغطي أغلفة الـ«دي في دي»، المعروضة على بسطة صغيرة أثارت فضولها، وهي تمر بقربها على الرصيف، خاصة أنها ممهورة بعبارة: «بدون حذف». فهي تعرف أن هذه الأفلام كانت حتى وقت قريب جدا، محصورة مشاهدتها بصالات عرض أقل ما يقال فيها إنها غير صالحة لارتياد العائلات. سألت شيرين عن سعر قرص «دي في دي»، المتضمن نحو سبعة أفلام مضغوطة، والتي كان ينادي عليها البائع «كولكشن سوري» أي عدة أفلام على قرص واحد. كان السعر أقل بكثير من المتوقع: خمسين ليرة فقط (نحو دولار واحد). بعد المفاصلة تمكنت شيرين من الحصول على مجموعة أقراص تحوي نحو أربعين فيلما بنصف السعر. لم تفاجأ شيرين بالمستوى الهابط لتلك الأفلام، فالأسماء والصور تدل على ذلك بوضوح تام، لكنها لم تتوقع أن تحتوي على مشاهد لممثلات سوريات وعربيات عاريات تماما!! فهذه الأفلام تعود إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي.

إلى جانب أحدث الأفلام العربية والعالمية والمسلسلات الدرامية السورية، عادت أفلام السينما التجارية لتتربع على عرش سوق الـ«دي في دي»، والمفارقة أن وسائل تسويقها وترويجها القديمة، مثل وضع العناوين الصارخة والصور العاطفية الساخنة، أو الصور الفاضحة للأبطال، لا تزال سارية المفعول، وأن هناك من يقبل على شرائها من المراهقين، وأيضا النقاد والصحافيين والمهتمين بتاريخ السينما. ويقول أحمد ـ صاحب كشك لبيع الأفلام وسط العاصمة دمشق ـ إن لهذه الأفلام زبائن كغيرها من الأفلام العربية والعلمية، وتلقى رواجا، كما أن هناك أفلاما نفدت على الفور؛ ويُرجع أحمد سبب ذلك إلى أن قنوات الأفلام الفضائية العربية تعيد عرض بعضها، بعد حذف المشاهد الفاضحة جدا، مما أيقظ فضول المتابعين. يضيف أحمد: «جاءني عجوز تجاوز السبعين من العمر يطلب كل أفلام الممثلة السورية (إغراء)، وقال لي إنها ممثلة كان لها عز، وفي تلك الأيام كانت أهم من هيفاء، تكتظ الصالات لمشاهدتها، وذكر أن شباب المحافظات الأخرى كانوا يأتون إلى دمشق لمشاهدة أحدث أفلامها». محدثنا أحمد (27 عاما) لم يسمع باسم «إغراء» إلا قبل عامين، كان يعتبر أن تلك الأفلام «تافهة»، وما زال على هذا الرأي، لكن أحكام السوق لا تأخذ برأيه.

مع أن تجربة السينما السورية متعثرة جدا، إلا أن الحقبة من منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات شهدت ازدهارا في الإنتاج التجاري، حيث استفادت من تأميم قطاع السينما المصرية والتي سبقت تأميمها في سورية بعدة سنوات، كانت الفترة الفاصلة بينهما فترة نزوح الممثلين والسينمائيين المصريين باتجاه سورية ولبنان، وتم إنتاج عشرات الأفلام، سورية ـ مصرية ـ لبنانية. كانت الفاتحة بفيلم «عقد اللولو» في عام 1964 الذي أخرجه يوسف معلوف، ولعبت دور البطولة فيه صباح، وظهر فيه للمرة الأولى الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي بالزي الشعبي السوري على الشاشة الكبيرة، ليكون بادئة لسلسلة أفلام كوميدية كانا من نجومها. ومع أن هذا الفيلم لا يعد بين الأفلام التجارية الهابطة فقد «استوفى شروط السينما الحقيقية القائمة على تقاليد فنية معروفة» بحسب رأي الناقد السينمائي بشار إبراهيم، كما مثل «فاتحة لمرحلة اتسمت بغزارة الإنتاج السينمائي الخاص الذي لم ينقطع كما هو الحال في العقود الثلاثة السابقة التي لم تشهد سوى سبعة أفلام عبارة عن محاولات فردية، في مجال فني جديد على المجتمع». وخلال نحو ثلاثة عقود ونصف عقد، منذ منتصف الستينات، أنتج القطاع الخاص نحو مائة وخمسين فيلما، وفي بعض السنوات كان ينتج أكثر من 14 فيلما. فقد ظهرت في هذه الفترة تسع عشرة شركة خاصة للإنتاج السينمائي، منها «أفلام تحسين قوادري»، «أفلام محمد زرزور»، «أفلام محمد فاروق», «أفلام زياد مولوي»، «أفلام سمير عنيني»، «زنوبيا فيلم»، «طارق فيلم»، «أفلام فايز سلكا»، «الغانم للسينما»، «أفلام فتنة وإغراء»، «سيريا فيلم»، «أفلام أحمد أبو سعدة»، «أفلام خالد الغزي»، «شام فيلم»، «سميراميس فيلم»، «أفلام قبلاوي وزلط»، «أفلام محمد السردار»، «أفلام طيارة وأكتع». ويمكن القول إنه في هذه الفترة أنتج القطاع الخاص حوالي نصف ما أنتجته السينما السورية من أفلام بكل قطاعاتها، منذ بداياتها وحتى الآن.

اتسمت غالبية الأفلام المنتجة في تلك الفترة بالخفة والسذاجة، وهدفت إلى الربح بالدرجة الأولى، إلا أنها كانت تتسم بالجرأة أيضا، وبعضها لامس قضايا بالغة الحساسية لكن بمعالجة سطحية، حيث كانت تتوسل هذه الأفلام تحقيق الرواج من خلال التركيز على القصص الاجتماعية المثيرة لبنات الليل مثل «امرأة في الهاوية» من تأليف وتمثيل إغراء، أو العلاقات الشاذة وحياة الشباب «الهيبز» كفيلم «قطط شارع الحمرا»، و«الحب الحرام» عن حب الزوج لابنة زوجته من زواج سابق، وغيرها عشرات الأفلام التي كانت بعدما تسرح وتمرح بعرض المشاهد الساخنة تختتم الفيلم بعبرة أخلاقية عن المصير الأسود الذي ينتظر المخطئين والضالين. ويمكن القول إن أفلام تلك الفترة تضمنت عناصر الترويج الذهبية، بتلفيق أحداث، تستعرض فيها الممثلات في حمامات السباحة، وغرف النوم، وهناك مناظر في الخيام البدوية، بهدف تقديم أغان استعراضية، وذلك عبر إقحام قصة داخل القصة، كتصوير فيلم أو ما شابه، أو مشاهد تلصص البطل على البطلة وهي تغير ملابسها، هذا بالإضافة لمشاهد الملاحقات والأكشن. والمفارقة الكبرى هي في مشاهد التعري التي غالبا ما يستعان بممثلة بديلة لتأديتها، أو إقحام دور ثانوي لممثلة مجهولة تظهر في لقطة لا تتجاوز الثانية وهي مكشوفة، بدون أي مبرر درامي مقنع. وهذه اللقطة هي التي توضع على الأفيش للتغرير بالمشاهدين والمراهقين. وهذا نراه في فيلم «حبيبي مجنون جدا» من إنتاج وبطولة زياد مولوي، الممثل السوري المعروف بشخصيته البدينة الطريفة والبسيطة، لكنه في هذا الفيلم يحاول الظهور كدونجوان، لا يتوقف عن الحلم بالنساء، في مشاهد مثيرة، ولا يختلف عن ذلك فيلمه «حب وكاراتيه».

لا شك أن أي قرص «دي في دي» أو «كولكشن سوري»، يتضمن وجبة أفلام مثل «الانتقام حبا» و«بدوية في باريس» و«باريس والحب» و«زوجتي من الهيبز» و«الاستعراض الكبير» و«نساء للشتاء» و«الخاطئون» و«امرأة لا تبيع الحب» و«أبطال ونساء».. هي وجبة مغرية جدا، ليس على صعيد الإثارة المفتعلة أو القصص الملفقة بسذاجة فقط، وإنما على صعيد قراءة التوجهات الثقافية والفكرية الاجتماعية في تلك الفترة والتي كان سوق الإنتاج السينمائي الخاص يستثمر فيها، فما قد نعتبره جرأة أو تجاوزا للخطوط الحمراء الآن، مما قد لا نلمحه حتى في أكثر الأفلام انحطاطا، كان في تلك الفترة واحدا من انعكاسات التأثر بحركات التحرر التي شهدتها المجتمعات في تلك الفترة. ويقول «فائز ن» (60 عاما)، وهو متابع ومهتم بالسينما، إن موضوعات الأفلام في تلك الفترة «كانت تخضع لتأثير الوجودية، ومفاهيم الحرية، وارتدادات دعوات التحرر الاجتماعي، والثورة الجنسية التي شهدها الغرب، وشكلت باعثا للحركات الثقافية الفكرية. فظهرت تلك التأثيرات في الأدب والثقافة على نحو راق، كما مثلت مجالا صالحا للاستثمار التجاري من خلال الفن السينمائي». لكن بعد التوصل إلى صيغة أخلاقية مضادة، إذ تحت عنوان «رفض التعري» تمرر المشاهد الفاضحة، وتحت عنوان استنكار العلاقات خارج إطار الزواج تعرض تلك العلاقات قبل الكشف عن عواقبها الوخيمة. وبذلك يتحقق الهدفان التجاري والأخلاقي، لكن على حساب المستوى الفني والمعالجة العميقة.

يشبّه ازدهار صناعة السينما في ذلك الوقت، بفورة الفضائيات التي يشهدها العالم العربي اليوم. ويقول فائز إن ما تقدمه غالبية القنوات الفضائية الترفيهية وحتى التربوية «لا يختلف كثير عما كانت تقدمه السينما التجارية، من حيث العقلية الفكرية والتجارية. فكلاهما يعتمد على متلازمة جمع المتناقضين: الصورة المبتذلة والوازع الأخلاقي». ويضيف فائز أنه إذا كانت «سمات تلك المرحلة هي التهافت الفني والفكري والرغبة في الربح السريع بأقل كلفة ممكنة، فهي لا تزال كذلك مع الفضائيات التي لا تتورع عن إعادة عرض تلك الأفلام، علما بأنها في السابق كانت محدودة التأثير كونها حكرا على صالات العرض ومشاهدتها تتم قصدا وعن سابق إصرار وتصميم، عندما يقصدها المشاهد. لكن بذل هذه الأفلام في الفضاء، جعل التعرض لها عفويا ومتاحا للجميع، من دون استثناء الكبار أو الصغار، المراهقين أو العجائز، ومن دون أي عوائق أو رقابة».

قد يبدو تهافت الفضائيات على عرض تلك الأفلام مبررا لملء ساعات البث الطويلة (24/24) بأفلام رخيصة، لكن المستغرب أو غير المفهوم هو عودة تلك الأفلام إلى سوق الـ«دي في دي» إلى جانب الإنتاج السينمائي العربي والغربي الجديد، والأغرب أن يكون لها جمهور بين الشباب. فهل ذلك مؤشر على أن المستوى الفكري لدى الأجيال الجديدة لم ينضج وما زال يراوح مكانه، ولم تفلح معه جهود النخب الثقافية.. أم أن هناك حاجة متنامية إلى «مشاهدة قصص وأفلام ساذجة، لا تحرض العقل ولا تحتاج إلى تفكير، بقصد الهروب من واقع متأزم يزداد تعقيدا يوما بعد آخر»، كما تقول ميرنا التي باتت مدمنة لهذا النوع من الأفلام بهدف «ترييض العقل»؟!.. سؤال يستدعي من نخبنا الثقافية والإعلامية العربية العاملة نبش طبقات عقولنا للإجابة عنه.