هتلر قارئا

أحرق الكتب.. لكن كان يمتلك 16 ألف كتاب

الكتاب: «مكتبة هتلر الخاصة» المؤلف: تيموثي ريباك الناشر: «بودلي هيد»، لندن 2009
TT

ذات مرة كتب الشاعر الألماني هاينريش هاينه، من القرن الثامن عشر، يقول: «حيث تحترق الكتب، يحترق الإنسان». هذه الشهادة المنذرة، ربما انسحبت كثيرا على الطغيان الهتلري. فالمعروف عن الزعيم النازي أدولف هتلر، أنه أحرق أكواما من كتب الأدباء والمفكرين الألمان أمام دار أوبرا الدولة في برلين حال استلامه رئاسة المستشارية الألمانية. ولكن من المفارقات أن هتلر وفي وقت انتحاره في مخبئه البرليني عام 1945، كان يمتلك 16 ألف كتاب كانت موزعة في مقرات إقامته في برلين وميونيخ وأوبرسالزبيرغ. وعلى الرغم من أن كثيرا من هذه الكتب بقي غير مقروء، فإن الشهادات تذهب إلى سنوات هتلر المبكرة التي تؤكد على أنه كان قارئا شرها وانتقائيا.

ثلاثة آلاف كتاب من هذه الكتب وجدت في بافاريا، و1200 كتاب منها تحولت إلى قسم الكتب النادرة في مكتبة الكونغرس الأميركي في واشنطن العاصمة حيث شكلت مادة عمل الكاتب تيموثي ريباك لكتابه «مكتبة هتلر الشخصية». وحسب الرأي القائل: «إن أردت معرفة شخص ما أكثر، عليك التفتيش عن مكتبته» انكبّ ريباك، وهو مؤرخ متخصص بتاريخ الرايخ الثالث، على دراسة وتفحص هذه الكتب، لكي يكشف مزيدا من جوانب شخصية هتلر، وبالذات الأدبية، التي لم تزل غامضة حتى الآن. هذا الكتاب ليس مسحا لمكتبة هتلر، بل هو كتاب يناقش محطات حياة هتلر والناس اللذين تأثر بهم من خلال هذه الكتب وتسببوا في قيامه بأعمال خطيرة مختلفة. وبعض هذه الكتب يخفي وراءه قصصا مثيرة مثل علاقة هتلر بديتريش أكارت، الرجل الخفي والنازي الأقدم ومع الفاشستي السويدي سفين هدين. من هنا نجد أن أغلبية كتب المكتبة تشتمل على موضوعات كان لها أثر مدمر على العالم. كما هناك كثير من المجلدات العسكرية وكتب حول مواصفات المعادن العسكرية المختلفة، خاصة تلك التي تمتلكها دول أخرى غير ألمانيا. ثم كتب حول اليهود، ضمنها الكتب التي تحتوي على صفحات مصورة توضح نماذج اليهود، وكيف يمكن للعضو النشيط من العنصر السامي أن يحدد هويتهم.

يبدأ ريباك كتابه من عام 1915، حيث هتلر جنديا على الجبهة الغربية. وبعد أن يلقي نظرة طويلة على مستقبل هتلر، يشرع بشرح نسخة هتلر المهترئة من كتاب ماكس أوزبون في دليل الفخامة المعمارية لبرلين، وهو كتاب جيب، يبدو أن هتلر كان يحتفظ به حتى خلال نيران الخنادق، ليذكره بأشياء يعتبرها مهمة بالنسبة إليه، وإنه أيضا الكتاب الذي أنقذ من الحرق أثناء حملة حرق كتب العلماء والمفكرين التقدميين الألمان، لأن هتلر كان يرغب في الاحتفاظ به لنفسه. ثم يتناول الكاتب كتب السحر والتنجيم وكتب إيكارت والكتب الدينية. ويأتي أيضا بكثير من الصور الفوتوغرافية لبعض هذه الكتب، ودراسات هتلر، وأين كان يعمل، ومكان هذه الكتب. ويذكر الكاتب أن هتلر وحيثما يكون «إن كان في أرض المعركة، على الحدود البلجيكية، أو على وشك انطلاق هجوم على الغرب، أو خارج الجبهة الشرقية، فإن الكتاب لا يفارقه: كان الجنرال في الغرفة المجاورة له في مقرات الجيش الغربية الرئيسية، يسمع صوت تصفح الكتاب أثناء الليل». مكتبة هتلر الخاصة منظمة بشكل تسلسل تاريخي، تبتدئ بخبرة هتلر كجندي على الخط الأمامي في الحرب العالمية الأولى. ومع أن هتلر ادعى، في ما بعد، أنه قد أمضى كل هذه السنوات يقرأ شوبنهاور، إلا أن ذلك لا يبدو محتملا، كما يرى المؤلف ريباك، لأن هناك ملاحظات من سنوات ميونيخ توضح أن هتلر كان باستمرار يخطئ في كتابة اسم هذا الفيلسوف. الفصول التالية من الكتاب تغطي تعامل هتلر مع قضايا النشر والتأليف حينما كتب الجزأين من «كفاحي»، وتكملتهما «الكتاب الثالث» الذي لم ينشر. ملاحظة هذا الجانب، ربما يشكل العقدة الداخلية لطموحات هتلر الثقافية وافتقاده إلى التعليم المدرسي. وعلى الرغم من أنه «غازل» كتابات الفلاسفة قيشته، ونيتشه، وشوبنهاور، فإن هتلر كان يغرق نفسه في الغيبيات والمعتقدات الرخيصة. وعند الاستغراق في مادة مجموعات هتلر الغيبية، يستنتج ريباك أن جوهر هتلر «كان أقل كثافة لفلسفة شوبنهاور أو نيتشه مما إلى النظرية الجاهزة العادية المتأتية من الكتب الرخيصة ذات الأغلفة الورقية».

عرف عن هتلر بأنه منذ عمر مبكر كان قارئا نهما، لكن ذلك، في قسم كبير منه، كان بدافع وعي شديد بقابلياته الأكاديمية وغيرته من رفاقه الأكثر ثقافة في صفوف اليمين الألماني الذين عزلهم في النهاية وقام بتصفيتهم. بعد ذلك أخذ هتلر يكتب من خلال رغبته في التعويض أو الثأر. في كتابه «كفاحي»، يصبح العريف المندحر وقائد عصيان «بير هول»، أو «حانة الجعة» في ميونيخ، الذي باء بالفشل، بطل حياته الشخصية «هذا «النصف رجل ونصف الإله» لم يثر إلا حماس قارئ واحد فقط هو جوزيف غوبلز، وزير دعايته في ما بعد، بينما الآخرون كانوا أقل إعجابا «كانت مسودات هتلر نصوصا كابوسية: مشتتة، مفككة ومملوءة بالأخطاء النحوية والإملائية الأساسية». وعلى الرغم من رداءة سمعة هتلر، فإنه رخيص ككاتب «أنا لست كاتبا» اعترف هتلر بذلك في لحظة صفاء ووضوح فكر، فأبعد المجلد الثالث من ثلاثيته المبرمج لها، حيث كان قد أتم قبل ذلك كتابي «كفاحي» و«الكتاب الثاني». ولكن بعد كارثة وول ستريت المالية، كان صعود هتلر المثير نحو السلطة قد وضع حدا لمسألة إنتاجه الأدبي. في الواقع يعتبر هتلر نفسه رجل أعمال وليس أقوال، ومكتبته مملوءة بالكتب التي تروي طموحه في توجيه الكلمة وفق إرادته. الكتب التي تتناول السحر والتنجيم والعلاقات بين النصوص الروحية والفيزيائية لا تظهر اهتمام هتلر بالدين فحسب ـ إذ إنه كشاب، كانت أقوى رغباته أن يصبح رئيس دير للرهبان ـ وإنما أيضا اعتقاده بالإنسان الخلاق الذي يمكن أن يحول قوة خياله إلى واقع. لم يكمل هتلر أي دراسة رسمية، لكن صديقه من أيام فيينا المبكرة أوغست كوبيتسك يقول إن الكتب لم تكن تفارق هتلر «ولا أستطيع أن أتصور أدولف من دون كتاب». وكما يعرض ريباك، فإن هتلر في بداية العشرينات من القرن الماضي كان يلتهم مئات الكتب التاريخية والعنصرية لكي يدعم صدقه الآيديولوجي كقائد للحزب النازي الناشئ ووضع قوانين له. قام هتلر بتهيئة قائمة بالقراءات المقترحة وثبتها على بطاقات عضوية الحزب بالحبر الأسود البارز، وهي قائمة «الكتب التي ينبغي أن يعرفها كل اشتراكي قومي»، مثل كتاب هنري فورد «اليهودي العالمي» وكتاب ألفريد روزنبيرغ «الصهيونية كعدو للدولة».

حينما اكتشفت مكتبة هتلر من قبل الألمان في بداية الأمر، لم يجدوا فيها أعمالا فلسفية وفكرية فقط مثل أعمال شوبنهاور الذي كان يفضله على نيتشه وأعمال فيشته وأدب التشكيك بالعنصر، وإنما أيضا طنا من الروايات البوليسية وكتب أدغار وولس ووايلد ويست الذي يتعاطف هتلر معه كثيرا. من الواضح أن ثقافة هتلر ونظرته إلى العالم تشكلت في غالبيتها من خلال هذه الكتب التي تيسر له قراءتها والمملوءة بملاحظاته وخطوط تأكيداته وهوامشه، إضافة إلى علامات التعجب والتعليقات على بعض النصوص والجمل التي حاول الكاتب ريباك تفسيرها وفك أسرارها وتعقب طريق مفتاح التعابير والأفكار التي ضمنها هتلر في كتاباته وخطاباته ومناقشاته وأعماله. من خلال هذه الكتب، نرى هتلر كيف يتقمص شخصية دون كيشوت، أو روبنسون كروسو، أو شخصيات مسرحيات شكسبير. نحن نرى كيف أن بحثا غامضا ألهم مستقبله السياسي، أو تفسيرا خاصا لملحمة الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن «بير جنت» الشعرية، ساهم في قولبة طموحه العنيف. كما أعجب هتلر بكراسة هنري فورد اللاسامية «اليهودي العالمي» التي عمم قراءتها على أعضاء حزبه. وتعلمنا هذه الكتب أيضا كيف أن قراءاته الشاملة في الأديان والسحر والتنجيم قد أمدته بمخطط فكرته الغامضة عن العناية الإلهية، وكيف أن كلمات نيتشه وشوبنهاور أعاد بعثها من جديد كتعابير نازية مشينة. ثم كيف أن ببليوغرافية فردريك الكبير لكارلايل قد مارست فعلها التعصبي المدمر عليه للاستمرار في القتال في الحرب العالمية الثانية، فيما كان الجميع متأكدا أن النصر بات بعيدا عن ألمانيا.