الفن في خدمة السياسة التركية

400 ألف يورو كلفة العرض البصري المرافق لفتح الحدود مع سورية

TT

تركيا قوة صاعدة، هذا أمر لا جدال فيه. لكن قلة من ينتبهون إلى أن أنقره تولي أهمية قصوى للفنون كوسيلة سريعة عابرة للقلوب والقوميات، لتغزو من خلالها مشاعر المنطقة المحيطة بها وربما العالم. ومنذ أسبوعين انتهزت تركيا فرصة فتح الحدود مع سورية، لتقدم استعراضا بصريا فنيا يجسد رؤيتها لنفسها ومحيطها، كلفته ما يقارب 400 ألف يورو. جهد استثنائي لإقناع السوريين أن عهد النزاعات بين البلدين قد ولّى، ودخل العرب والأتراك عهد الشراكة والأخوة.

في احتفال توقيع اتفاقية إلغاء سمات الدخول بين سورية وتركيا الذي أقيم في مدينة «غازي عنتاب» التركية (62 كلم عن الحدود المشتركة)، لم يكن الاحتفال مناسبة سياسية وحسب، بل خاتمة سعيدة لمرحلة كاملة من العلاقات المتحفظة بين البلدين، وبداية لمرحلة جديدة يلوح أفقها في المنطقة.

استعان الجانب التركي بعدة أنواع من الفنون لصناعة مشهد بصري مبهر يوازي أهمية الحدث السياسي، فحضرت الثقافة (سينما وموسيقى ومسرح ورقص فلكلوري وشعر) في حفل، غُلفت رسائله السياسية بمسحة راقية مؤثرة، ترافقت مع سلوك دبلوماسي برع في التقاط الفرص لجذب انتباه الكاميرات إلى ما يراد تقديمه إلى العالم. فالموكب الرسمي لرتل السيارات السورية ـ التركية الذي انطلق من حلب، بعد اجتماع هناك وغداء، تجاوز الأربعمائة سيارة، وعبر القرى الحدودية وسط تصفيق الأهالي. وفي قرية إعزاز السورية ترجل وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو من السيارة وصافح الأهالي وتبادل معهم الحديث حول مطالبهم بخصوص تسهيل العبور بين البلدين. هذا المشهد وإن دل على تواضع الوزير التركي فإنه يدل على حس إعلامي يجيد استغلال التفاصيل، للتأثير في الرأي العام. ويعكس وجود رؤية تركية جديدة للسياسة والثقافة، كان الفن الرفيع هو الأداة الأفضل للتعبير عنها ببلاغة.

وما إن عبر عشرات المشاركين من بوابة (السلامة) الحدودية باتجاه الأراضي التركية، حتى بدا كل شيء جديدا ومدهشا تماما، كأن المكان يتهيأ لاحتضان حفل عرس بهيج، في مسلسل تركي يعتني بحيثيات جمالية. ظهرت الجدران مكسوة بقماش الأورغانزا الأبيض المضموم بأكاليل الزهور الملونة، وقبل السير نحو الحاجز الحدودي جلس نحو 24 وزيرا مع أكثر من خمسمائة شخص بينهم عدد كبير من الإعلاميين، يستريحون، فيما أخذت فرقة محلية من منطقة (اونشو بينار) بتقديم فقرة رقص فلكلوري، كانت بمثابة الاستقبال. بعدها سار الجمع نحو الحاجز الحدودي، في لقطة تاريخية ظهر فيها الوزراء من البلدين يرفعون الحاجز وهم يتقدمون سيرا على الأقدام على طريق زُرعت على جانبيه لوحات تحذر من وجود حقول ألغام. وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو علق لاحقا في المؤتمر الصحافي: «بعد الآن لا حدود ولا أسلاك شائكة ولا ألغام». عقب ما يقارب قرن من العلاقات الشائكة والمتحفزة بلغت شفير الحرب عام 1998، أدرك البلدان ضرورة التصالح حول الماضي وتجاوزه نحو بناء مستقبل على أساس المصالح. لكن إذا تمت هذه المصالحة سياسيا وعلى الورق بيسر وسهولة، فهل هي كذلك على الأرض وفي نفوس أجيال تربت على متلازمة «الاستبداد والعثملية»؟

لعل هذا ما كان حاضرا في أذهان المسؤولين الأتراك، جماعة «حزب العدالة والتنمية» المتطلعين إلى إقامة حوض استراتيجي اقتصادي في المنطقة، بحيث إنه مهما بلغت حيوية العلاقات السياسية والاقتصادية، لا بد لها من عمق ثقافي يسوغها ويجعل الضمير الجمعي متقبلا لها. لهذا لم يكن اعتباطا، استهلال حفل التوقيع على اتفاقية إلغاء سمات الدخول، بعرض فيلم عن العلاقات بين الشعبين السوري والتركي على جانبي الحدود، يركز على المعاناة التي كانوا يعيشونها، جراء وجود الكثير من الحواجز والأسلاك الشائكة والألغام، مع استعراض للتاريخ الثقافي المشترك بين العرب والأتراك، بدءا من جلال الدين الرومي وانتهاء بنزار قباني، استخدم لعرضه ثلاث شاشات ضخمة بالغة الوضوح. هذه الشاشات العملاقة أحاطت بساحة فرشت بالسجاد الأحمر، تصدرتها لوحة ضخمة باللون الأزرق البحري كُتب عليها عنوان المناسبة مع العلمين التركي والسوري، تحتها جلس وزراء البلدين، لتبدأ المراسم بلوحات رقص فلكلورية قدمها طلاب جامعة «غازي عنتاب» الذين أوكلت إليهم مهمة تقديم العروض الفنية. إلا أن أكثر ما شد الانتباه مشهد مسرحي راقص أدته فتاتان متوجتان تشيران إلى حضارة البلدين ترتديان عباءتين جرى فردهما على الأرض ليظهر علما البلدين متعانقين. كما لفت الانتباه أيضا استخدام المؤثرات الموسيقية، فترافق التوقيع مع معزوفة موسيقية تركية. ولدى الانتهاء والمصافحة بين الجانبين انطلقت موسيقى إيطالية مرحة أشاعت في الأجواء الكثير من البهجة.

عدد من مصوري القنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء والصحف القادمين من سورية، عبروا عن ذهولهم بالتنظيم، ليس من جانب الدقة وحسب، بل من زاوية مهنية بحتة. إذ أمكن المصورون وهم واقفون في المكان المحدد لهم، وكيفما أداروا عدسة الكاميرا الحصول على كادر ممتاز يحتوي على كافة العناصر المعبرة عن المناسبة. أحمد مصور في مكتب دمشق لقناة تلفزيونية أجنبية، تحدث بإعجاب كبير عن التفاصيل الكثيرة التي وفرها المشهد البصري المعد بطريقة مسرحية تفرد المشهد كاملا على الخشبة، قال: «تمكنت من التقاط الكثير من الكادرات المميزة»، وأضاف «عادة في المناسبات السياسية المشابهة نجد صعوبة في إيجاد ستاند مناسب يعبر عن الحدث. في هذه المناسبة، شعرت أن المكان جهز كمسرح، وأينما وقف المراسل سيكون ذلك مناسبا للكاميرا ولإعداد رسالة تلفزيونية حية تنقل الواقع بشموليته. حتى صورة أسراب الحمام وهي تنطلق فوق المنصة مع البالونات الحمراء كانت مناسبة لتلوين لقطة الحدث السياسي بمضامين ومعان أبعد من الحدث نفسه». مراسل إذاعة ناطقة بالعربية، قال إنه «سجل صوت الموسيقى التركية ليبدأ بها تقريره الإخباري لنشرة الأخبار السياسية». فيما موظف حكومي سوري رفض ذكر اسمه تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن حضوره لعدد من المؤتمرات العربية والدولية السياسية، وقال إنه لم ير شيئا مشابها في البلاد العربية، لهذا المشهد البصري في الهواء الطلق، والمعد بعناية وتقنية إعلامية وإعلانية، بينما رأى مشهدا مماثلا في باريس لدى الاحتفال بتسلم فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي، وإطلاق مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» في يوليو (تموز) 2007، لكن لم يتم استخدام تقنيات السينما وفنون الرقص والموسيقى على هذا النحو.

صحافيون أتراك كانوا يتداولون فيما بينهم حول تكاليف تنظيم اجتماعات اللقاء الوزاري الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي التركي ـ السوري، والاحتفال الذي استمر لمدة يوم كامل بين مدينتي حلب السورية وغازي عنتاب التركية، وقالوا إن هذه التكاليف تجاوزت 400 ألف يورو، ومنها ما يقارب 60 ألف يورو لحفل التوقيع وحده.

لا شك أن قنوات للدخل المادي، ومؤسسات تجارية، فتحت أبوابها للعاملين في الحقل الثقافي، لضرب عصفورين بحجر: تمويل الحدث والاستفادة منه دعائيا. هذه البوابة كانت مفتوحة سابقا إلا أن الأولوية، كانت تعطى للفنون التشكيلية وما يتصل بتصميم الملصقات، إلا أن هذا المجال يشهد تقاليد جديدة، باتت سمة لعصر التقنيات، جاء تطورها لينعكس إيجابا على سائر أنواع الفنون بدءا من التشكيل وفن الإعلان، وليس انتهاء بالسينما والمسرح والشعر، كلها باتت صالحة للاستثمار في صناعة الدعاية السياسية لإغناء المشهدية السمعية ـ البصرية. وإذا عدنا لاستخدامات الفنون والأنواع الثقافية في هذه المجالات، سنجد أنها تتجاوز غايتها الإعلامية، نحو تقديم تصور مستقبلي للمتغيرات من خلال تعدد زوايا الرؤية للأشخاص والأحداث، ومن خلال إعداد كادر بانورامي يتوسطه الشخص الهدف، فيما الكاميرا تدور برشاقة تلتقط صورها من كافة الزوايا أمام وخلف فوق وتحت ووسط موسيقى ومؤثرات صوتية لا تقل تأثيرا عن تلك التي تشاهد في حفلات مشاهير الغناء الشبابي. فالصورة النمطية المتقشفة التي كان يقف فيها السياسي على المنبر وأمامه الجماهير تحت زينات بسيطة من الأعلام والرايات، مع تحرك مقيد للكاميرا تجهد لتأتي بصورة معبرة، وسط مسرح غير مسيطر عليه بما يعنيه ذلك من مفاجآت، هو أمر لم يعد يؤثر في المتفرج. وهو أمر كان الأميركيون أول من أدركه، وظهر بوضوح في تنظيم حفلات الحملات الانتخابية، باستعارة تقنيات المسرح والسينما، بكل ما تملكه من أدوات فنية وتعبيرية، لصناعة مشاهد بصرية جاهزة تبذل رسائلها بسخاء أمام الكاميرات، في عملية بلا شك تتطلب رصد ميزانيات ضخمة وشركات متخصصة في هذه الصناعة، وعدا ذلك تتطلب قناعة من أصحاب العلاقة بتأثير تلك المشهدية المبهرة جماهيريا.

ولعل هذا ما جعل العرب يتأخرون في استيراد هذه الطرائق والأساليب، اللهم باستثناء لبنان، حيث برزت هذه الظاهرة على نحو محدود في الانتخابات النيابية الأخيرة، مع مرشَحَين بذلا الكثير من المال على الحملة الإعلامية، وظهرت صورهما وهما يتوسطان الجماهير أو يعتليان المسارح ضمن مؤثرات صوتية وموسيقية وضوئية، وكأننا أمام مشهد انتخابي في أميركا لا لبنان. ملاحظة توقف عندها الكثيرون لما حملته من إتقان وبراعة في إعادة إنتاج الزخم الشعبي للمرشح، وكأنه نجم هوليوودي، فيما ما زالت تقتصر الانتخابات النيابية في غالبية البلدان العربية على استخدام الفنون البصرية في تصميم الملصقات الإعلانية والصور الشخصية، وفي ابتكار شعارات بنكهة أدبية.

«تركيا الجديدة أشبه بعملاق أفاق من نومه على شواطئ مضيق البوسفور»، كما وصفتها الصحافية الألمانية كريستيانا شلوتسر وهي تتحدث عن التحول في الحضور الثقافي لتركيا في أوروبا، المترافق مع التحول الاقتصادي الذي منحها كثيرا من الجاذبية والسحر. وتقول الصحافية الألمانية: «حققت تركيا هذا العام تقدما هائلا بخصوص سمعتها، ولم يكن لها من قبل تمثيل بهذا القدر. هذا التمثيل الكبير ينم عن عملية رد اعتبار كبير لبلد ثقافي كان يُنظر إليه باستهانة». ولفتت إلى أن «الاقتصاد يتفاعل مع الموقف»، لدى إشارتها إلى أن رابطة رجال الأعمال الأتراك المسماة بـ«توسياد»، أصدرت كراسة دعاية من الورق الفاخر وزعته على نطاق واسع في ألمانيا. وكانت هذه حركة جيدة «حازت إعجاب أخصائيي العلاقات العامة الألمان». هذه الكراسة لم تحتو إلا على كلمات مفردة «ذات نبرات ممتعة ومطبوعة باللون الأزرق المريح للنفس»، مثل: شاي، نشاط، شباب، انطلاقة، حمّام، نمو، إلهام، طروادة، حداثة، سعادة، متعة، جيرة... إلخ. كل ذلك وأكثر، تجتهد أنقره لإعادة إنتاجه لتصدره للعالم صورة عن تركيا الصاعدة، صورة لا تغيب عنها الثقافة.. لا بل إن الفنون هي العمود الفقري لتعريف الآخر بنفسها ولتمرير رؤيتها السياسية الجديدة لمحيطها.