المثقفون الروس.. تقاطعات مع المثقفين العرب

علاقتهم بالغرب إعجابا وتأثرا أم كرها ونبذا ؟

TT

مؤلف هذا الكتاب هو أول من أسس في جامعة السوربون «مركز أبحاث جماليات الفن الإسلامي». وهو أول مركز من نوعه في العالم. وقد أصبح كتابه عن «الإسلام والفن الإسلامي» بمثابة مرجع لكل الباحثين. كما أنه ألف عدة كتب عن فلسفة سبينوزا وبيرغسون والنزعة الإنسانية المعاصرة. وهو أحد كبار الخبراء العارفين بالعقلية الروسية والفكر الروسي. ولذلك فإن كتابه هذا يسد نقصا في المكتبة العالمية. فنحن لا نعرف إلا القليل عن الفلسفة الروسية.

كان الباحث الكسندر بابا دوبولو من أوائل من نشروا كتابا كاملا عن الفلسفة الروسية باللغة الفرنسية. ويرجع اهتمامه بالموضوع إلى أسباب شخصية. فهو من مواليد مدينة كييف ومن أم روسية، وحائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. وفي الواقع، يهدف هذا الكتاب إلى تحقيق غاية مزدوجة. فهو أولا يريد أن يثبت أنه توجد فلسفة في روسيا. بمعنى آخر فإن الفلسفة الروسية ليست مجرد صدى شاحب للفلسفة الأوروبية أو الغربية. ولكنه من ناحية ثانية يبين لنا مدى تأثر هذه الفلسفة الروسية بالفلسفة الغربية ذاتها. ولذا فإنه يقدم لنا مدخلا واسعا إلى هذه الفلسفة من خلال القرون الثلاثة الماضية. ويتحدث لنا عن أسماء مشهورة من أمثال هيرزين، غوغول، تولستوي، دوستيوفسكي، بيرداييف، باكونين، لينين، سولغنستين. ولكنه يتحدث أيضا عن أسماء أقل شهرة من أمثال: لومونوسوف، كومياكوف، سولوفيف، بليخانوف، إلخ... وهذه الفلسفة محض روسية. فهي تعبر عن الروح الوطنية العميقة لروسيا السلافية. وإذا ما اطلعنا عليها رأينا كيف ينظر الروسي إلى الحياة والموت، إلى العدل والظلم، إلى الأخلاق والدين، إلى الجمال والفن، إلى التاريخ والمعنى. إن الموقف من كل ذلك عبرت عنه سلسلة من الفلاسفة السلافيين والمفكرين الدينيين المتعلقين كثيرا بالمذهب الأرثوذكسي: أي الدين الوطني لروسيا. ولكن هناك فئة ثانية من الفلاسفة الروس الذين تأثروا بالفلسفة الأوروبية والغرب ولذلك دعوهم بـ«المستغربين». ولكن على الرغم من تأثرهم بفلاسفة ألمانيا وفرنسا وإنجلترا إلا أنهم ظلوا في أعماقهم روسيين. هكذا نجد أن فلاسفة روسيا يشبهون الفلاسفة العرب والمسلمين المعاصرين. فنحن أيضا نعاني من مسألة الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة. ونحن أيضا متأثرون بمصدرين أساسيين للفكر: تراثنا العربي ـ الإسلامي العريق من جهة، والتراث الأوروبي الحديث من جهة أخرى. نحن أيضا مقسومون إلى قسمين: قسم أقرب إلى الأصولية الدينية أو القومية بدرجات متفاوتة، وقسم أقرب إلى الليبرالية والأفكار الحديثة بدرجات متفاوتة أيضا. ويمكن كتابة رسالة دكتوراه ضخمة عن أوجه الشبه بين المثقفين الروس والمثقفين العرب من حيث علاقتهم بالغرب إعجابا وتأثرا، أو كرها ونبذا.

ويبدو أن روسيا بدأت تعاني من نفس المشكلة، أي مشكلة الصراع بين التراث والحداثة، بعد أن أدخلها القيصر بطرس الأكبر في مناخ العصور الحديثة ومحاولة تقليد الغرب. (نفس الدور سيلعبه محمد علي بالنسبة للنهضة المصرية والعربية لاحقا). ولكن بعض فلاسفة الروس تأثروا كثيرا بالتيارات الفلسفية الغربية إلى درجة أنهم فقدوا روحهم أو أصالتهم الروسية. وهذا ما اتهم به بعض المثقفين العرب أيضا. نضرب عليهم مثلا أتباع الفلسفة الوضعية، والمادية، والمثالية، والنقدية الجديدة.. إلخ. وهؤلاء لا يهتم بهم المؤلف باعتبار أنه كان بإمكانهم أن يكتبوا مؤلفاتهم خارج روسيا. فليس لهم من روسيا إلا الاسم. إن المؤلف يريد أن يثبت لنا أنه توجد في روسيا صورة متوازنة عن الفلسفة، وأنه لا يمكن اختزال فلاسفة الروس إلى فئتين اثنتين: فئة الصوفيين المتدينين، وفئة الماركسيين. فهناك تيارات أخرى متعددة للفكر في روسيا.

يضاف إلى ذلك أن روسيا منذ أن دخلت في عصر التحديث على يد القيصر بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر أخذت تشهد ظهور علماء كبار في الطبيعة والفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات.. وهؤلاء لهم أيضا آراؤهم الفلسفية عن الوجود والحياة. ومجرد وجودهم يثبت أن الروس ليسوا جميعا مثاليين حالمين أو شرقيين كما تقول الصورة الشائعة: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. وإنما فيهم واقعيون يمتلكون ناصية العلم ويسيطرون على المنطق والابستمولوجيا أي فلسفة المعرفة أو فلسفة العلوم. ولولا ذلك لما استطاعوا الوصول إلى القمر وبناء المركبات الفضائية ومنافسة الأميركان في صناعة الأسلحة.. ويرى المؤلف أن الدين المسيحي في مذهبه الأرثوذكسي لعب دورا كبيرا في تشكيل الثقافة والعقلية الروسية. ولا يمكن أن نفهم كتابا كبارا من أمثال تولستوي ودوستيوفسكي إذا لم نأخذ ذلك بعين الاعتبار. نقول ذلك على الرغم من تأثر كليهما بالفكر الأوروبي وتياراته الروائية والفلسفية وشخصياته. وقد وصل الأمر بتولستوي من حيث الإعجاب إلى حد أنه كان يضع صورة جان جاك روسو في ميدالية ذهبية ويعلقها في صدره..

يفتتح المؤلف الفصل الأول من كتابه بالعنوان التالي: القرن الثامن عشر وتأثير الفلسفة الفرنسية. ويقول بما فحواه: بدءا من بطرس الأكبر وخلفائه وبخاصة الإمبراطورة كاترين الثانية راح المجتمع الروسي يتعلق بوله بكل ما يجيء من جهة الغرب وبالأخص من جهة فرنسا تحديدا. ولم يتأثر عندئذ فقط بالأفكار والعلوم والآداب والفنون الفرنسية، وإنما تأثر أيضا بالأخلاق والعادات وحتى الأزياء واللباس. وكان تقليد الغرب يصل أحيانا إلى درجة مضحكة من العبودية. وكان الصحافيون والكتاب الروس يسخرون من هذه الطريقة الكاريكاتيرية في تقليد الثقافة الفرنسية، ويعتبرونها طفولية. ولكن تأثير فرنسا كان قويا جدا بسبب إعجاب الإمبراطورة كاترين الثانية بفلاسفة التنوير الكبار مثل فولتير، وديدرو، والموسوعيين بشكل عام. ومن المعلوم أن كاترين الثانية هي التي قدمت المعونة المادية لديدرو من أجل إخراج الموسوعة الفرنسية الشهيرة. وقد ترجمت هذه الموسوعة إلى اللغة الروسية فيما بعد. كما اشترت منه مكتبته بثمن باهظ وتركتها له لكي يستمتع بها طيلة حياته. بعدئذ نقلت إلى روسيا وهي الآن جزء من المكتبة الوطنية للبلاد. وهكذا أنقذته ماديا فعاش مرتاحا في حين أن صديقه القديم جان جاك روسو كان يعيش أحيانا على حافة الجوع. نعم لقد كان المثقفون الروس آنذاك مهووسين بجان جاك روسو، ومونتسكيو، وبيير بايل، وفينيلون وآخرين. وكان سفير روسيا في باريس هو الذي نظم رحلة الفيلسوف ديدرو إلى روسيا لمقابلة الإمبراطورة كاترين الثانية التي كانت معجبة به أشد الإعجاب كما ذكرنا. وبقي عندها 6 أشهر حيث استقبلته استقبالا عظيما وطلبت منه أن يقدم لها مخططا عاما من أجل النهوض بروسيا وثقافتها وعلومها. ومعلوم أنها وجهت نفس الدعوة إلى فولتير ولكنه اعتذر عن تلبيتها بسبب كبر سنه واعتلال صحته. يضاف إلى ذلك أن فولتير كان مليونيرا وليس بحاجة إلى أموال إضافية رغم حبه للمال وبراعته في كسبها على عكس غريمه روسو الذي كان أغبى خلق الله في هذا المجال.

ينبغي ألا ننسى أن المجتمع الأرستقراطي والبورجوازي في سان بطرسبورغ وموسكو كان يعرف الفرنسية جيدا ويتكلمها بطلاقة. وبالتالي فكان يقرأ الفلاسفة الفرنسيين في النص الأصلي دون حاجة إلى الترجمة.

. ولكن الترجمة كانت ضرورية من أجل الطبقات الدنيا في المحافظات والأقاليم. وقد ترجم أحد الدبلوماسيين الروس المقيمين في باريس بعض كتب مونتسكيو ثم كتاب فونتنيل «محاورات حول تعددية العوالم». وقد تمت مصادرة هذا الكتاب الأخير بحجة أنه يحتوي على أفكار مضادة للدين. ثم راح الكثيرون من كتاب روسيا يبسّطون أفكار فلاسفة التنوير من فلسفية وعلمية وثورية ويشيعونها في مختلف الأوساط الشعبية.

ولكن مثقفي روسيا لم يكتفوا بتقليد فرنسا والتأثر بثقافتها. وإنما راحوا يترجمون مفكري الإنجليز أيضا من أمثال: شكسبير، توماس مور، جون لوك، هوبز، نيوتن، إلخ... وكانت الترجمة ضرورية جدا لأن القليل من الروس آنذاك كانوا يعرفون الإنجليزية. ينبغي العلم بأن لغة الثقافة والحضارة في كل أنحاء أوروبا آنذاك كانت هي اللغة الفرنسية. وذلك طيلة عصر التنوير العظيم: أي طيلة القرن الثامن عشر. وأما فيما يخص الثقافة الألمانية فكانت معروفة سابقا بسبب العديد من الألمان المقيمين في روسيا وبسبب القرب الجغرافي بين ألمانيا وروسيا. وكانت العلاقات وثيقة بين البلدين. وكان أول فيلسوف روسي يدعى لومونوسوف (1711 ـ 1765). وقد درس الفلسفة في ألمانيا على يد «وولف» تلميذ لايبنتز وأستاذ كانط في بداياته الأولى على الأقل. وهكذا دخلت الفلسفة الألمانية الحديثة إلى روسيا. وإذا كان مثقفو روسيا يهيمن عليهم التأثير الفرنسي في القرن الثامن عشر، فإن الفلسفة الألمانية هي التي ستهيمن عليهم في القرن التاسع عشر. وهكذا راح الفيلسوف الألماني شيلينغ يهيمن على الفكر الروسي. ولكن لا يمكن أن نهمل أيضا تأثير هيغل وآخرين.

في القرن الثامن عشر تشكلت طبقة اجتماعية تدعى: الانتلجنسيا. وهي كلمة روسية الأصل عممت بعدئذ عالميا حتى عندنا نحن العرب. والمقصود بها طبقة المثقفين: أي كل أولئك المفكرين الذين استفادوا من علمنة المشاكل الفلسفية للإنسان وعلمنة الفكر الخاص بمعنى التاريخ وتنظيم المجتمع. وهذه المشاكل جميعها كانت مصبوغة بالصبغة اللاهوتية في الماضي ومن اختصاص رجال الدين المسيحي الأرثوذكسي. وكل الترجمات التي تحدثنا عنها وكل التأثيرات الفلسفية الغربية تمت خارج اللاهوت والكنيسة، بل وضدهما أيضا. هكذا وقع الصراع بين التراثيين والحداثيين داخل الثقافة الروسية. وانقسم الناس إلى قسمين: الأول ينادي بتقليد الغرب والأخذ عنه، والثاني يرفض ذلك بحجة المحافظة على الخصوصية والأصالة. ثم نشأ بعدئذ تيار ثالث يحاول المصالحة بينهما. وكان المثقفون الروس يتناقشون طوال الليل حول أفكار فولتير وروسو وشيلينغ وهيغل.. وقد اشتهر المثقفون الروس بالهوس بالأفكار والتطاحن حولها والتطرف في اعتناقها مثلنا نحن المثقفين العرب. ونجد أصداء كل ذلك في الروايات الخالدة لدوستيوفسكي.

كان أهم تيار فلسفي حديث زرع في روسيا هو التيار الفولتيري (نسبة إلى فولتير). وقد أزعج رجال الدين الأرثوذكس كثيرا وحاولوا محاربته، ولكنه انتشر انتشار النار في الهشيم بسبب حاجة المثقفين الروس إلى التحرر أو التخلص من قبضة رجال الدين. فقد كانوا يشعرون بالاختناق من هيمنة الكنيسة الأرثوذكسية والأصولية الدينية عليهم. وضاقوا ذرعا بالكتب التراثية الصفراء التي تكرر نفس الشيء مع شروحاتها وشروحات شروحاتها على مدار القرون. وملوا من الكاهن الأرثوذكسي الذي يهيمن على الشعب البسيط والعقلية الروسية تاريخيا. ومن أفضل من فولتير لكي يخفف عنهم وطأة رجال الدين وتجهمهم وغلظتهم وإرهابهم أيضا؟ ثم تلاه شيلينغ والرومانتيكية الألمانية في القرن التاسع عشر. وأما تأثير جان جاك روسو فكان مختلفا. فقد ارتبط بنشر قيم الطيبة والعدالة وحب الطبيعية، ونشر قيم الدين الطبيعي والقانون الطبيعي أيضا: أي الدين القائم على العقل والقلب والضمير الداخلي لا على الوحي والمعجزات والخرافات. وكلها قيم مستمدة من فلسفة روسو عن طبيعة الإنسان العاقل والطيب بطبيعته ولكن الذي أفسدته مؤسسات المجتمع الظالم والفاسد والظلامي المستبد. وفي عام 1769 نشر الفيلسوف الروسي انيتشيكوف كتابا بعنوان «الدين الطبيعي» أي الدين الكوني القائم على العقل فقط والحس الصائب والطيبة الداخلية ولكنه أُحرق من قبل الكنيسة بتهمة الإلحاد. وقد أثرت هذه الكتب والترجمات على الأجواء السياسية في روسيا. بل وتجرأ بعضهم على طرح الأسئلة حول مشروعية السلطة القائمة: أي سلطة القياصرة والأباطرة التي كانت مسيطرة قبل العهد الشيوعي. ومعلوم أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت تخلع عليها المشروعية الدينية أو الإلهية تماما كما كان يحصل في أرض الإسلام بل ولا يزال يحصل حتى الآن. انظر الحاكمية للمودودي، أو ولاية الفقيه للخميني، أو غير ذلك.