سنوات جيمس جويس في ألمانيا

وصل صاحب «يوليسيس» إلى زيوريخ أثناء الحرب العالمية الأولى وتركها إلى باريس ثم عاد إليها ليموت فيها

TT

حسونة المصباحي في يونيو (حزيران) 1915، وصل جيمس جويس إلى زيوريخ مصحوباً بزوجته نورا وابنه جيورجيو وابنته لوسيا التي ستهيم حباً بصموئيل بيكت حين يصبح سكرتيراً لوالدها في باريس وتمضي بقية حياتها في احدى المصحات المتخصصة في الامراض العقلية. كانت الحرب الكونية الأولى تحرق الاخضر واليابس في القارة العجوز، وكانت ايطاليا قد دخلت الحرب فاصلة ترياست حيث كان يقيم جيمس منذ عام 1904 عن الامبراطورية النمساوية التي كانت مظاهر تفككها وانهيارها تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. ومن الأكيد ان جويس غادر ترياست وهو على مضض ذلك ان هذه المدينة الهادئة باتت «وطنه الثاني» كما كان يقول لاصدقائه، كما انها سمحت له بإنهاء «صورة الفنان شابا» ومجموعته الشعرية اليتيمة «موسيقى الغرفة» ومسرحيته اليتيمة هي أيضاً «المنفيون». وفيها شرع في كتابة رائعته يوليسيس. بالاضافة إلى ذلك، لم يكن جويس معادياً للامبراطورية النمساوية المترامية الاطراف مثل كل المثقفين التقدميين والديمقراطيين في ذلك الوقت بل كان يكن لها وداً خاصاً. وفي ما بعد قال لأحد اصدقائه: «هم يقولون انها امبراطورية متداعية ـ يقصد الامبراطورية النمساوية ـ غير اني كنت اتمنى ان يكون هناك كثير مثلها».

كان أول شيء واجهه جويس عند وصوله إلى زيوريخ هو المتاعب العادية، إذ بالكاد كان قادراً على تلبية حاجيات عائلته. وعندما علم بذلك عزرا باوند الذي لم يكن قد التقاه حتى ذلك الحين غير انه كان واثقاً من «عبقريته» حسب تعبيره، بدأ يتحرك لايجاد حل سريع للمسألة. وبعد اتصالات استمرت شهوراً طويلة، حصل جويس على مساعدة مالية (75 جنيهاً تدفع له على مدى تسعة شهور) من سندات الخزينة الادبية الملكية.

في البداية، لم يحب جويس ولا زوجته نورا زيوريخ بسبب الرطوبة، لكن شيئاً فشيئاً اصبحت صلتهما بها حميمة وقوية. وقد يعود ذلك الى انها ـ اي زيوريخ، كانت تعج بالمنفيين وبالاجانب واللاجئين السياسيين والفنانين المتمردين المتطلعين إلى فن جديد يعارض الفنون السائدة أو يتصدى إلى بشاعة الحرب الدائرة بين الامبراطوريات الرأسمالية والتي كانت تنشر الدمار والموت في كل مكان. ومثل هذه الأجواء سوف تثري خيال جويس وهو يكتب «يوليسيس». بالاضافة إلى ذلك اكتسب جويس اصدقاء جدداً سوف يكون لهم تأثير على مسار روايته الآنفة الذكر. وكان اوتو كاردا فايس الذي كان قد درس الاقتصاد السياسي في ترياست، احد هؤلاء. وكان رجلاً نحيفاً، انيقاً، جميلاً، فارع القامة، وعلى معرفة عالية بالأدب والموسيقى. ومعاً كانا يحضران حفلات موسيقية ويرتادان المسارح ويتجادلان في أمور شتى خصوصاً حول الادب والسياسة. احياناً كانا يتجولان على ضفاف البحيرة. ويبدو ان أفضل لقاءاتهما كانت تلك التي يتبادلان خلالها طرائف مشحونة بالدعابة السوداء. ومن المؤكد ان جويس استفاد كثيراً من هذه الطرائف إذ اننا نعثر على آثار البعض منها في «يوليسيس»، خصوصاً تلك التي تعكس الحفاظ على رباطة الجأش في الاوضاع الاشد تعقيداً وصعوبة. ولانه كان قد اختار يهودياً، هو ليوبولد بلوم، كشخصية محورية في «يوليسيس»، فان جويس كان يظهر اهتماماً كبيراً باليهود وبتاريخهم وبطبائعهم. وكان يقول ان هناك قواسم مشتركة بينهم وبين الايرلنديين. فمثل هؤلاء هم عصبيون، واسعو الخيال، متعودون على التفكير الجماعي، راغبون في نظام عقلاني. وكان يحمل معه دائماً كتاباً صغيراً يحتوي على صور ليهود صينيين بضفائر، ويهود مغربيين، غير انه لم يكن يعرف كثيراً عن الحركة الصهيونية التي كانت قد بدأت آنئذ تنتشر بين يهود أوروبا. ومرة راداً بنبرة جافة على فايس الذي كان يتحدث عن امكانية انشاء دولة لليهود في فلسطين، قال جويس: «هذا شيء جميل، لكن ثق ان باخرة حربية يقودها واحد اسمه كانالجنز ومساعده افتار دوفت ربما ستكون الشيء الاكثر طرافة والذي لم يعرف البحر المتوسط القديم مثيلاً له من قبل أبداً».

وكان واضحاً ان عوالم «يوليسيس» كانت مسيطرة على خيال وعقل جويس سيطرة شبه كاملة. لذا كان يتحدث عن ذلك طول الوقت تقريباً. وفي مذكراته بتاريخ الأول من اغسطس (آب) 1917، كتب جيورج بوراش، وهو احد الحريصين على حضور جلسات جويس في مقهى «باوون» (الطاووس) يقول: «في هذا اليوم تحدث جويس بشكل مسهب واشار إلى ان الموضوع الاكثر جمالاً والذي يتطرق إلى كل شيء هو «الاوديسة»، انه اكثر عظمة، واكثر انسانية من موضوع هاملت ودون كيخوته ودانتي وفاوست. ان اعادة الشباب لفاوست لا تروق لي. اما دانتي فيتعب قارئه بسرعة، لكأن هذا القارئ ينظر في عين الشمس. الملامح الاشد جمالاً وانسانية هي تلك التي توجد في «الاوديسة». كنت في الثانية عشرة من عمري حين باشرنا دراسة حرب طروادة في الفصل. ومنذ ذلك الحين اصبحت «الاوديسة» راسخة في ذاكرتي. ولا بد ان اكون صريحاً: في الثانية عشرة من عمري احببت يوليسيس. وعندما كتبت «اهالي دبلن» كنت اريد ان اختار له في البداية هذا العنوان: «اوليسيس في دبلن» غير انني تخليت عن الفكرة في ما بعد. وفي روما، حين اكملت نصف «صورة الفنان شابا» أدركت انه لا بد له من اضافة وشرعت في كتابة يوليسيس».

الصديق الآخر الذي اكتسبه جويس في زيوريخ، واصبح من الملازمين له هو البريطاني فرانك بودجن الذي عمل بحاراً قبل ان يصبح رساماً. وكان بودجن مولعاً بالادب إلى حد كبير وعارفاً بخفاياه وأصوله، الشيء الذي سيساعده على اختراق عالم جويس الصعب والمكتنف بالألغاز والغموض. وبإحدى السهرات، اسر جويس لصديقه بانه يكتب عملاً روائياً مستوحى من «الاوديسة» تدور احداثه في يوم واحد فقط. وكأنه اراد ان يوضح اكثر طبيعة عمله الجديد، اضاف قائلاً:

ـ اعتقد يا بودجن انك قرأت كثيراً. هل تعرف شخصية كاملة وصفها كاتب ما؟

ـ فاوست؟ هاملت؟

ـ فاوست! إنه ابعد من ان يكون كاملاً. انه ليس رجلاً ابداً. هل هو عجوز ام شاب؟

أين بيته؟ أين عائلته؟ نحن لا نعلم عن ذلك شيئاً. ثم انه لا يستطيع ان يكون كاملاً لانه لا يستطيع ان يبقى وحيداً. ان مايفستو يتعقبه طول الوقت.

ـ شخصيتك الكاملة اذن هي يوليسيس؟

ـ نعم. فاوست بلا سن محددة وليس انساناً. لقد اشرت إلى هاملت. هاملت كائن بشري لكنه ليس سوى ابن. اما يوليسيس فهو ابن ووالد لتيليمياخ وزوج بينيلوب وعشيق لكاليبسو، ومحارب في جيش الاغريق امام طروادة، وملك ايثاكا. لقد امتحن بتجارب عدة غير انه انتصر فيها جميعا بحكمة وشجاعة. لا تنس انه حاول الفرار من الخدمة العسكرية متظاهراً بالجنون.

وكان بامكانه الا يذهب للقتال غير ان الضابط المكلف بالتجنيد كان اكثر ذكاء، اذ انه سارع بوضع تيليمياخ امام المحراث، وعندما اندلعت الحرب، اصبح المعارض لها، اي يوليسيس، من اشد المدافعين عن مواصلتها حتى النهاية. وفي حين كان الآخرون يرغبون في رفع الحصار، ألح هو على مواصلة القتال حتى سقوط طروادة. هناك شيء آخر ارغب في التأكيد عليه. قصة يوليسيس لا تنتهي مع الحرب. انها تبدأ فعلاً عندما يعود ابطال الاغريق الآخرون للعيش في سلام. اذن يمكن القول انه كان اول رجل حقيقي في اوروبا متقدماً باتجاه الاميرة الشابة، اخفى عن عينيها العفيفتين الاجزاء الهامة في جسده التي كانت ترشح ماء مالحا، الموشاة بشعار البحر. ثم انه كان مكتشفا ـ الدبابة كانت من اختراعه.

* وماذا تعني بالرجل الكامل؟ مثلا «حين ينحت نحات ما جسد رجل فلا يعني بالضرورة انه كامل بمعنى المثال. كل الاجساد ناقصة، محدودة بطريقة او باخرى، فماذا عن «اوليسيسك» اذن؟

ـ انه كامل. مثل تمثال، ثم انه كامل من حيث انه رجل خير.

ولم تكن المتاعب العادية هي الوحيدة التي كانت ترهق جويس بل ايضا سعيه الدؤوب لكي يحظى عمله «صورة الفنان شابا» بالتقدير الجدير به.

وبالرغم من مساعدات اصدقائه، خصوصا عزرا باوند، وبالرغم من ان شاعر ايرلندا الاكبر في ذلك الوقت، ويليام بتلر ييتس، كان قد نوّه بالعمل المذكور في الكثير من المناسبات، فان اعداد النسخ التي بيعت منه ظلت محدودة للغاية. بالاضافة الى ذلك ارسل جويس مسرحيته «المنفيون» الى العديد من المسارح الاوروبية، غير ان الجميع رفضوها معتبرينها صعبة على مستوى الاخراج. لكن بسعي من الكاتب النمساوي الكبير ستيفان زفايج، قبل احد مسارح ميونيخ عرض «المنفيون» وذلك من السابع من شهر اغسطس 1918. غير ان العرض كان كارثة حقيقية، اذ شنت صحف ميونيخ حملة عنيفة ضد المسرحية واصفة اياه بـ«حساء ايرلندي رديء» غير ان جويس لم يصب بالاحباط بسبب ذلك، بل واصل كتابة «اوليسيس» واثقا من نفسه ومن موهبته الخارقة.

خلال الشتاء الفاصل بين عامي 1917 و1918 كان جويس في لوكارنو يقضي بصحبة عائلته الصغيرة فترة نقاهة بعد اصابته بمرض في عينيه سوف يظل يؤرقه حتى نهاية حياته حين التقى الغانية، من بروسيا الشرقية، جارترود كايمبفير في السادسة والعشرين من عمرهما. ومن النظرة الاولى خفق قلبه حبا لها. وذات يوم تمكن من لقائها لوحدها ومعا تجولا قليلا. وقبل الفراق، امسك بيدها لعدة دقائق ثم همس لها: «كم احب يدك الناعمة» بعدها اهداها نسخة من صورة الفنان شابا، وفي الايام التالية، التقيا من جديد.

وفي النهاية مزقت جارترود جميع تلك الرسائل حتى لا يطلع عليها احد. وحين تأكد جويس بأن حبه بلا مستقبل، انقطع نهائيا عن الكتابة اليها، لكن في ما بعد سوف يتذكرها ويطلق اسمها على الشابة الشاحبة التي يخفق لها قلب بلوم حبا حين يشاهدها للمرة الاولى.

عند انتهاء الحرب، بدأت زيوريخ تفرغ من المنفيين وباتت مضجرة وخالية من الاثارة. عندئذ حزم جويس حقائبه وقفل عائدا بصحبة عائلته الى ترياست. غير انه لم يمكث فيها طويلا، اذ كان عليه ان يسافر الى باريس ليمضي هناك عشرين عاما.

****** كان جيمس جويس قد اكمل في باريس عمليه الاساسيين «اوليسيس» و«يقظة فينجين» وكان قد اصبح بنفوذ واسع لدى الاوساط الادبية العالمية، وبشيء من الشهرة لدى القراء لما اندلعت الحرب الكونية الثانية، ليجد نفسه من جديد امام التعقيدات البيروقراطية التي يواجهها المنفيون امثاله في ظروف حالات كهذه. فقد كان عليه ان يغادر باريس خصوصا بعد ان احتل جيش الرايخ الثالث فرنسا في وقت قصير للغاية. وعقب محاولات ومجهودات مضنية، سمحت السلطات السويسرية لجويس وعائلته بالعودة الى زيوريخ التي وصلوها في خريف 1940، وفي رسالة بعث بها الى عمدة المدينة، كتب جويس يقول: «ان الروابط التي تجمعني بمدينتكم تمتد الى اربعين عاما. وفي الظروف القاسية التي يعيشها العالم حاليا، اجد نفسي مشرفا بوجودي هنا. هذا الوجود الذي يعود فيه الفضل للمواطن الاول في هذه المدينة».

في زيوريخ، التقى جويس من جديد اصدقاءه القدامى، وفي كل ظهيرة تقريبا كان يخرج ليتجول وحيدا في الثلج او على ضفاف البحيرة، وكان يشاهد بقامته الفارعة، وبقبعته السوداء، ومعطفه الاسود، وهو يمشي غارقا في افكاره، لا يكاد ينتبه الى اي شيء من حوله. احيانا كان يتوقف ليسجل ملاحظاته عن الحرب الدائرة في دفتر كان يحمله معه دائما. وفي السهرات مع عائلته، او مع اصدقائه كان يبدو مفعما بالقنوط والحزن.

بل انه قال لاحدهم يوم عيد الميلاد بأنه ربما لن يكون هنا العام المقبل! وفي 15 يناير (كانون الثاني) 1941، كان الثلج يتهاطل مصحوبا بالمطر. ذهب جويس الى المطعم الذي اعتاد ان يرتاده بصحبة عائلته. وطوال الساعات التي امضوها هناك، ظل جويس صامتا، ولم يأكل الا قليلا. عند العودة الى البيت، قبل منتصف الليل بقليل، احس فجأة بآلام مبرحة في معدته. على عجل حمل الى المستشفى. وفي الثالث عشر من الشهر والعام المذكورين، عند الساعة الثانية والربع فارق جويس الحياة ودفن عقب يومين على ذلك، في مقبرة «فلوتارن» الواقعة فوق احدى الهضاب المطلة على مدينة زيوريخ.