أقلام أستاذ جامعي

TT

د. عبد العزيز بن سعيد الغامدي في نهاية محاضرة عامة عن «الصدق في المعاملة» دُعي اليها الجميع عبر وسائل الاعلام المقروءة والمكتوبة، وبينما كان واقفا يحمل قلما مكسورا الى نصفين وينظر الى ساعة معصمه، قال الاستاذ الجامعي الشاب وكأنه يخاطب الزمن: «كنت منذ بداية معرفتي بالجامعة صريحا في كل ما فعلت وقلت وكتبت لان قلمي الاكاديمي انتصر على قلمي الاجتماعي بالضربة القاضية وحصل على حزام البطولة بعد معركة قوية شهدها العديد من انواع اقلامي وتحت اشراف مباشر للاتحاد الدولي لبطولة الاقلام برئاسة السيد حق ومساعدته السيدة امانة وعضوية مندوب هيئة الاقلام المتحدة السيد صدق ومندوب اقلام عدم الانحياز السيد اخلاص، وكانت حجة قلمي الاكاديمي التي استخدمها كسلاح فتاك لا مجال ابدا لمقاومته والتي صفقت لها الجماهير التي حضرت المباراة كثيرا، هي قوله: «ان كلمة الحق التي في حدود (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) لا بد ان تقال بكل صدق وصراحة ووضوح»، وقد قررت بعد ذلك ومن مبدأ توازن القوى، ان اقوم باعادة تأهيل قلمي الاجتماعي، فهو لطيف جدا ويجيد فن المجاملة ولكنه للاسف الى هذه الساعة لم ينتصر على قلمي الاكاديمي في اي معركة لان قلمي الاجتماعي عاطفي وبراهينه دائما او لنقل حتى الآن، مملة وساذجة وضعيفة، فان كانت صراحة قلمي الاكاديمي تغضبكم، فعتبكم عليه، فلقد طلبت منه مرارا وتكرارا المشاركة في مقرر «النفاق الاجتماعي» الذي يقوم بتدريسه السيد «مجتمع»، ولكنه متمرد وعاص ولا يستمع إليّ ولا يفعل الا ما يرضي ضميره، ولهذا ربما تكون هناك حاجة لتكوين لجنة لدراسة اسباب عدم مشاركته في هذا المقرر، واتخاذ قرار بايقافه عن العمل ومحاصرته اقتصاديا، وتهديده بعد ذلك بايقاف ضميره عن العمل ان لم يرتدع عن قول كلمة الحق، وأعدكم، لانه يغضبكم، ان اقاطعه من الآن الى اليوم الذي يكون لي فيه بحث او كتاب او خطاب، اما ان كانت صراحته تعجبكم، فالشكر لي انا وليس له، فأنا استاذه، وانا من علمّه منذ ان كان يحبو في تعلم كتابة الحروف الهجائية، وأعدكم ان يكون دائما هكذا، لا يغلق الباب ولا يزيد النصاب، فحالي معه ليس كحال الأم التي تدفع طفلها الرضيع بيديها وهو في عربته ينظر هنا وهناك وهي لا تدري ان كان يفكر وهو يسير محمولا ام انه يسير محمولا ولا يفكر، وانما كحال المبصر الذي يقود اعمى».

وهم جالسون في قاعة محاضرات كبرى تتسع لاكثر من خمسة آلاف مشارك وينظرون الى ساعة الحائط المعلقة على يمين الاستاذ الجامعي والتي لا تعمل وكأنهم يستمعون الى الزمن، رد عليه جميع الحضور وهم سبعة من الطلبة الجامعيين الذكور الذين لا يزيد عمر الواحد منهم عن عشرين عاما والذين هم من طلبة احد المقررات الدراسية التي يقوم هذا الاستاذ الجامعي بتدريسها بقولهم: «شكرا لك على هذه الحكاية».

فقال لهم وهو ما زال على حاله واقفا وينظر الى ساعة معصمه وبيده قلمه المكسور الى نصفين: «بل شكرا لكم على هذا الاستماع». وسأل نفسه همسا: «لماذا قالوا: «على هذه الحكاية»، ولم يقولوا: «على هذه الحقيقة»؟»، ولماذا قلت انا لهم: «على هذا الاستماع» ولم اقل: «على الاستماع»؟ ثم قال لهم وهو يستعد لمغادرة القاعة: «تذكروا دائما هذه الحقيقة».

ردوا عليه بصوت عال وهم ما زالوا جالسين على مقاعدهم وينظرون الى ساعة الحائط التي لا تعمل: «نعدك ان نفعل ذلك، لن ننسى ابدا هذه الحكاية».

غادر بعد ذلك القاعة وهو يتساءل بصوت لا تكاد تسمعه أذناه: «حكاية؟»، «حقيقة؟»، «حقيقة حكاية؟»، «حكاية حقيقة؟»، وفجأة وفي خلال اقل من دقيقة عاد مسرعا وكأنه خلق يطير على قدمين ولا يسير عليهما الى القاعة وبدأ من قبل ان يصل الى باب القاعة يقول بأعلى صوته: «انها حقيقة حكاية حقيقية وليست حكاية حقيقة حكاية»، وكرر هذا القول مرة، واخرى، وثالثة، ورابعة الى ان وصل الى باب القاعة، نظر الى الداخل، الى اليمين، الى الشمال، الى الاعلى، الى الاسفل، لا احد، لقد غادر الحضور القاعة، نظر مرة اخرى، تأمل القاعة، صمت قليلا، نظر الى المقاعد وقال وهو يتأوه: «انها حقيقة حكاية حقيقة وليست حكاية حقيقة حكاية»، وجلس على احد المقاعد واعاد قلمه المكسور الى نصفين الى جيبه الذي على صدره من الجهة اليسرى.

* كاتب سعودي