المثقفون الفرنسيون يدخلون دوامة الفقر

7500 باحث أكاديمي عاطل عن العمل وتسريح 16 ألف أستاذ جامعي

TT

أكثر من ثلاثة أرباع الباحثين الذين تخرجهم الجامعات الفرنسية عاطلون عن العمل. دار نشر «أشت» الشهيرة لجأت لأساليب جديدة مع العاملين معها لمداراة خسائرها. الصحافيون يعانون الاستغلال وسوء الأجر، و16 ألف أستاذ جامعي سيعودون إلى منازلهم هذا العام. باختصار المثقفون الفرنسيون، كما حملة الشهادات العليا، دخلوا دوامة الفقر، وهم إما بلا عمل أو مهددون جديا في أرزاقهم. نعم.. بلاد النور والديجور تعجز عن إنقاذ مثقفيها.

«إيرفيه» صحافي شاب تعرفت عليه في أحد اللقاءات، شديد النشاط، مثقف وطموح، حاور شخصيات فرنسية معروفة وأنجز تحقيقات شيقة. كانت مفاجأة كبيرة حين استأذن مني في إحدى المرات لكي يقصد عمله الثاني.. كساعٍ في أحد الفنادق. فعلى الرغم من خبرة سنوات في الصحافة، لم يتمكن هذا الشاب من العيش من المهنة التي اختارها. أمثال «إيرفيه» في فرنسا كثر. فهناك جيل كامل من الشباب المثقف المتعلم الذي لا يجد اليوم مكانه في سوق العمل: باحثون، أساتذة، فنانون، صحافيون، ناشرون، وغيرهم ممن يعانون البطالة وفقر الحال. هؤلاء لا يوجد في رصيدهم البنكي شيء، غير مجد الألقاب وتقدير المجتمع. فقصص المثقفين والعلماء الذين يتضورون جوعا ويقضون حياتهم في الفاقة والبأس ليست فقط من وحي الماضي القديم، بل باتت حقيقة يومية في المجتمعات الغربية التي تمجد العلم وتشجع الثقافة والمعرفة. دراسات حديثة في غاية الجدية والعلمية جاءت لتثبت ذلك. فذوي العلم والموهبة باتوا يحسبون من الشرائح الاجتماعية الأكثر فقرا وحاجة في المجتمع الفرنسي رغم شهاداتهم العالية ومهاراتهم الواسعة إلا أن وزنهم شبه معدوم في سوق العمل، ومعظمهم بالكاد يستطيع العيش من ثمرة كده. الدراسة الأخيرة التي قامت بها باحثتان فرنسيتان في علم الاجتماع: مارين وآن غرمباك والمنشورة في كتاب بعنوان «المثقفون: الفقراء الجدد» (دار نشر ستوك) أعادت الموضوع للواجهة وفتحت باب النقاش على مصراعيه. الجديد في هذه الدراسة أنها توصلت لأول مرة إلى الكشف بالأرقام عن حجم الفقر الذي بات يتخبط فيه المثقفون، كما رسمت ملامحهم معتمدة على إحصائيات وكالات الشغل الفرنسية وتحقيقات ميدانية. فهي تقيّم مثلا عدد المتعلمين ممن يعيشون وضعية مهنية ومادية غير مستقرة، وبمدخول يعادل أو يقل عن 900 يورو في الشهر بأكثر من 800.000 شخص بعد أن كانوا 200.000 حسب دراسة مماثلة ظهرت سنة 2001. كلهم من ذوي الشهادات العالية (بكالوريا+5) وهم شباب قضوا سنوات طويلة في الدراسة والبحث، تتراوح أعمارهم ما بين 25 إلى 35 سنة، اختاروا الاستقرار في المدن الكبيرة كباريس وضواحيها بحثا عن فرص العمل. وتفيد الدراسة بأن 50% من الأشخاص المسجلين كعاطلين عن العمل، منذ أكثر من سنتين، هم من ذوي الشهادات العلمية والفنية العالية. كما ترسم الدراسة ملامح دقيقة عن شخصيات هؤلاء وتقول: قد تجد عند معظمهم أحدث أجهزة الحاسوب وآخر الكتب والبرامج المعلوماتية، وتراهم لا يفوّتون على أنفسهم فرصة حضور أي تظاهرة ثقافية أو لقاء علمي أو فني مهم، ولكنهم بالكاد يستطيعون دفع إيجار منازلهم وملء ثلاجاتهم، وبعضهم محروم من العطل ومن التأمين الصحي.

الدراسة تكشف أيضا أن لعنة الفقر تلاحق مهنا واختصاصات معينة، فهي وإن كانت لا تعرف طريق الأطباء، والمهندسين، وخبراء الكمبيوتر، وموظفي البنوك وذوي المهن التقنية الذين يتمتعون بالاستقرار، فهي تنتشر وبكثرة بين أوساط الباحثين، والمدرسين، والفنانين التشكيليين، والناشرين، والصحافيين، وكتاب السيناريوهات وكثير من خريجي الفروع الأدبية والإنسانيات كالتاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع. فمعظم أصحاب هذه المهن الجميلة التي نحلم بها ونحن صغار، وتثير فينا مشاعر الإعجاب والتمني، يعيشون تناقضا صارخا في حياتهم اليومية، في وضعية أشبه ما تكون «بالشيزوفرينيا الاجتماعية». فالباحث الذي قضى سنوات طويلة في الدراسة والبحث حتى استحق لقبا ثقيل العيار مثل «دكتور» وتقديرا واحتراما من المجتمع، يعيش في أغلب الأحيان وضعية مادية هشة لا تليق بمقامه. فهو إن أفلت من أنياب البطالة، لا يجد الاستقرار المادي المنتظر ولا الحوافز المادية التي ترافق كل مسيرة مهنية. فراتب الأستاذ الجامعي الذي يبدأ بـ1800 يورو قد لا يتعدى الـ3000 يورو بعد 30 سنة خبرة.

الأرقام تنشرها جمعية «أنقذوا البحث العلمي» التي تهتم بتحسين وضعية الباحثين وتؤكد أنه من بين 10.000 باحث تشكلهم الجامعات الفرنسية سنويا، 2500 منهم فقط يجدون وظيفة في الجامعات ومراكز البحث العلمي. أما الـ7500 الآخرون فغالبا ما يبقون على هامش النشاط العلمي. فإما أن يكتفوا بالعمل على فترات متقطعة بعقود قصيرة المدى مع القطاع الخاص، وإما أن يتجهوا إلى ميدان مهني مختلف. أما القسم المتبقي فيختار طريق الهجرة إلى دول أخرى كالولايات المتحدة وكندا حيث تتوفر ظروف عمل أحسن للباحثين. تقول «إيزابيل بوميي» التي كتبت عن هذا الموضوع في كتاب بعنوان «الباحث الشاب: معاناة في الهوية وضياع اجتماعي» الصادر عن دار «لارماتان»: «الباحثون الشباب قوة فاعلة تساهم بصفة واضحة في تطوير مجال البحث وربما قليل جدا منا يعلم أن 70% من الدراسات المنشورة في كبريات المجلات العلمية هي من إنجاز طلبة يعملون في المختبرات في إطار التحضير لشهادات عليا (ماجستير ودكتوراه)». وتضيف بأنه «على الرغم من كل مهاراتهم العلمية فإن معظمهم ينتظر على الأقل خمس سنوات قبل أن يجد وظيفته الأولى، يكون خلالها قد تقلب مرارا وتكرارا، بين العمل المجاني في المختبرات والمهن الصغيرة المختلفة».

فقر الحال يلاحق أيضا وبصفة خاصة مهنة أخرى تثير الإعجاب وتستهوي الصغار والكبار وهي مهنة الصحافة. فبين الأجور الخرافية للصحافيين النجوم أمثال باتريك بوافر دارفور وكلير شازال والتي تصل إلى 45.000 يورو في الشهر والوضعية المادية للمغمورين منهم هناك حقيقة مرة. الأرقام لا تكذب فـ20% ممن يزاولون هذه المهنة، يعيشون بأقل من 700 يورو في الشهر بحسب إحصائيات CCIPJ اللجنة المكلفة بمنح الصحافيين المتمرسين بطاقات العمل. وهي الأرقام التي استخلصت بناء على بيانات الموارد التي يقدمها الصحافيون للحصول على بطاقاتهم. وسواء كانوا حاصلين على البطاقة المهنية أم لا (وهو حال معظم الصحافيين الأحرار) فإن الوضعية المادية لهؤلاء جد سيئة، فمعظمهم يلجأ لمهن أخرى جانبية كالتصحيح اللغوي، أو تقنيات التحرير، أو الترجمة، أو الدروس الخصوصية، أو يطلبون منح البطالة لتغطية مصاريفهم المعيشية. على أن السواد الأعظم منهم هم ممن يعملون بالقطعة وخاصة في قطاع الصحافة المكتوبة. الكاتب وخبير علم الاجتماع «آلان أكاردو» الذي اهتم بأوضاع هذه الشريحة المهنية في عدة دراسات، نُشرت آخرها في كتاب بعنوان «صحافيون فقراء: الواقع اليومي» (دار نشر أغون) يرجع تردي وضعية بعض الصحافيين الشباب إلى تعرضهم لاستغلال رؤسائهم في العمل، ويحمّل هؤلاء مسؤولية تدني نوعية العمل الإعلامي. ويقول أكاردو: «عامة الناس لا ترى من الصحافة سوى وجهها البراق، لكنهم يجهلون كيف أن أقلية تطلق على نفسها لقب (النخبة) وغالبا ما تلعب دور (ملقن الدروس) تتحكم في ظروف معيشة وعمل الشباب المتخرجين من مدارس الصحافة وتستغلها أشرس استغلال. وبكل عجرفة وتكبر تمكن هؤلاء (الكبار) من تحويل طموح الشباب إلى جري مستمر وراء ثرثرات تافهة لا هدف منها سوى إشباع غرور بعض الشخصيات السياسية والإعلامية».

كل من درس عن كثب ظاهرة فقر حال هذه الشريحة من المثقفين يصل إلى نفس الاستنتاج: إنه قانون السوق ومنطق المنافسة اللذان جعلا القطاع الثقافي مثل أي قطاع اقتصادي آخر يقع ضحية التطورات السريعة التي يشهدها العالم اليوم. فهو أيضا بات يعرف تسريح العاملين ويبحث عن اليد العاملة الرخيصة. شركات الصحافة المكتوبة وكثير من دور النشر أصبحت لا تستطيع الصمود أمام الأضرار الفادحة لـ«الثقافة المجانية» التي تنشرها وتروج لها الشبكة العنكبوتية. دار نشر «أشيت» المعروفة لجأت مثلا ـ لتفادي الإفلاس ـ إلى طريقة «العمل عن بعد» و«بالقطعة» لتخفيض مصاريف التسيير. دار نشر أخرى لا تعمل إلا بفضل متدربين شباب يتقاضون أجورا زهيدة، كما أن أكثر من نصف صحافيي الجرائد هم من المتدربين والمستكتبين الذين يعملون بالقطعة. «الخصخصة» لم تعد هي الأخرى مصطلحا دخيلا على عالم الثقافة والمعرفة. مجموعة الإصلاحات الجديدة التي سنتها حكومة ساركوزي الخاصة بقطاع التعليم والبحث العلمي توصي باستقلال الجامعات وتضع حدا للمساعدات الحكومية، مما يعني تقليصا أكبر في ميزانيتها، وبالتالي لجوءا أقل للتوظيف. علما بأن الحكومة كانت قد أعلنت عن تسريح أكثر من 16.000 أستاذ لسنة 2009. كما ربطت الإصلاحات الجديدة بين تقديم منح البحث العلمي وضرورة التوصل إلى نتائج ملموسة مما قد يصعب عمل بعض الباحثين المتخصصين في الفروع النظرية الذين لا يعرفون كيف لهم أن يقدموا نتائج ملموسة في اختصاصات كالتاريخ مثلا أو علم الاجتماع. المفارقة الكبيرة أن مسؤولي التربية والتعليم أنفسهم ونظرا لما آلت إليه أوضاع الشباب الذين يخوضون دراسات عليا، أصبحوا ينصحون المراهقين باختيار المعاهد التقنية حتى إن كانت معدلاتهم تؤهلهم لدخول الجامعة، أو اختيار دورات جامعية قصيرة لا تتعدى السنتين واستبدال السنوات المتبقية بخبرة مبكرة في ميدان العمل دون الخوض في دراسات عليا قد تجعل منهم في المستقبل مثقفين.. لكن فقراء.