«الفردية» سبب الكارثة الاقتصادية

«مدينة الخيام» تصعق الاسترخاء الأميركي

TT

ينظر الأميركيون بعين الأسى والخوف إلى «مدينة الخيام» التي باتت جزءا من واقعهم. هذه المدينة التي تضم مواطنين فقدوا منازلهم وأعمالهم وباتوا أشبه بلاجئين هاربين من الحروب في العالم الثالث. ويتساءل الأميركيون وهم يعاينون مشهد التشرد والعوز ما الذي أوصلهم إلى هذه الهاوية؟.. وبما أن إجابات الخبراء الماليين لم تعد تكفي، فقد دخل المفكرون على خط التحليل للمساعدة على فهم أسباب كارثة، يخشى أن تطيح بالنظام الاقتصادي الأميركي عن بكرة أبيه. فما الذي يقوله المفكرون؟

يشاهد زوار قسم «أدفنشر» (مغامرة) في متنزه «ديزني ويرلد» في أورلاندو (ولاية فلوريدا)، قاعة «سبيريت أوف أميركا» (روح أميركا). إنها قاعة دائرية يحيط بها اثنا عشر تمثالا، كل واحد يرمز إلى الآتي: معرفة، عطف، مغامرة، اكتشاف، طليعة، استقلال، فردية، إبداع، اعتماد على النفس، تراث، فخر، الغد. تشبه هذه التماثيل «الآلهة» اليونانية القديمة، وإن كان متنزه «ديزني» لا يقول ذلك بشكل معلن.

وبعد تمثيلية تاريخية عن «روح أميركا»، تصدح الموسيقى بأغنية «غولدن دريم» (الحلم الذهبي)، التي تقول «جئنا من كل مكان، لتحقيق حلم واحد. نقدر على أن نشترك معا. ليس هناك أفضل من هنا. كل يوم نرى معجزات أمام أعيننا. أحيانا، أصعب شيء في الحياة هو أن نفهم. لهذا نبكي. لكن، نستطيع معا أن نكمل المشوار. عندنا أجنحة لنطير في الفضاء إلى ما لا نهاية، لنصل إلى الشمس، لنبني سلالم نحو النجوم».

مع أنغام الأغنية، ينزل الناس إلى الطابق الأرضي، ليشتروا أعلاما، وقبعات، وقمصانا، وليأكلوا «هامبورغر» و«هوت دوغ».

عن هذا المنظر الذي يتكرر كل يوم في «ديزني»، كتب دومينيك مويسي، أستاذ علوم سياسية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب جديد عنوانه «جيوبولتكز أوف امشون» (جغرافية سياسية للعاطفة) أن «الفردية الأميركية واحدة من (آلهة) قاعة (ديزني)، وأنها تظل القوة الدافعة في الثقافة الأميركية، وتقف وراء الاستقلالية، والإبداع، والأمل، لكنها خلقت نوعا من الأنانية». ويقول أيضا إن «الثقافة الأميركية التي ظلت تفخر بالعقلانية والبعد عن العواطف، صارت تتحول تدريجيا نحو ثقافة يحركها الطمع وحب المال وتفضيل النفس على الآخرين».

انضم كتاب «جغرافية سياسية للعاطفة» إلى نقاش يدور وسط مثقفين أميركيين عن الأسباب الثقافية (لا الاقتصادية) وراء الكارثة المالية التي بدأت في أميركا قبل سنة ونصف السنة. واتفق كل هؤلاء، تقريبا، على أن الكارثة بدأت تدريجيا قبل عشر سنوات، وبعد استفحال ظاهرة الـ«شوبنغ» أو التسوق، والتي تطورت لأكثر من سبب:

أولا: بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001، وموجة الخوف التي عمت أميركا. وعندما قال الرئيس السابق جورج بوش الابن للأميركيين: «لا تخافوا. سافروا، اشتروا وتمتعوا».

ثانيا: بسبب البضائع الرخيصة التي انهمرت على أميركا من الصين، حيث ذهبت شركات أميركية عملاقة لتستغل أجور العمال الرخيصة هناك.

ثالثا: وجدت البنوك فرصا لتقديم ديون وقروض للأميركيين ليشتروا ويستهلكوا، خاصة باستعمال «كريديت كارد» (بطاقة الائتمان).

ويوم 13ـ11ـ2008، ألقى بوش خطابا للشعب الأميركي في التلفزيون قال فيه «ليست الرأسمالية نظاما مثاليا، لكنها أحسن نظام موجود». لكنه لم يقل إنه قاد الأميركيين في رحلة شراء وبذخ وديون. وصار واضحا أن النظام الرأسمالي «العقلاني» يواجه تحديا لم يكن متوقعا. وهو أن الناس والبنوك والشركات والحكومات «عاطفيون»: يخافون، ويطمعون، ويبالغون، وينتقمون، ويفرحون، ويغضبون. وأن هذه التصرفات كانت من أسباب الكارثة الاقتصادية.

قارن دومينيك مويسي بين الثقافتين الأميركية والأوروبية، فوجد أنه:

أولا: بقدر ما يفتخر الأميركيون بالفردية، وبالأمل في المستقبل والمجهول، يخافون أكثر. وبقدر ما يقل الأمل في «أوروبا القديمة»، التي تعيش في الماضي، يقل خوف الأوروبيين.

ثانيا: تأسست الولايات المتحدة على حرية الفرد ليفعل ما يريد، ثم يتحد المواطنون إذا قامت حروب، وهي قليلة. في الجانب الآخر، يمتلئ التاريخ الأوروبي بحروب الفرنسيين والبريطانيين والألمان والروس بعضهم ضد بعض. لهذا، يتكاتفون ويتعاونون أكثر.

ثالثا: يرى الأوروبيون أن الأميركي «مغامر». ويرى الأميركيون أن الأوروبي «قديم».

رابعا، بقدر ما يحتاج الأميركيون إلى رابط اجتماعي مثل الذي يربط الأوروبيين ببعضهم، يحتاج الأوروبيون إلى نظام سياسي يتجدد ويتنوع. وفيه «أمل» و«فردية» و«مغامرة»، مثل «آلهة» متنزه ديزني.

قبل أسبوعين، كتبت مجلة «إيكونوميست» عن «تنت سيتي» (مدينة الخيام) في ولاية كاليفورنيا، حيث يعيش ضحايا الكارثة الاقتصادية الذين فقدوا وظائفهم، وفشلوا في دفع أقساط قروض منازلهم، وصادرت البنوك المنازل، فاضطروا، وبعضهم مع زوجاتهم وأولادهم، للسكن في مدينة الخيام.

قالت المجلة «لن يحدث مثل هذا في بريطانيا. هؤلاء ليسوا لاجئين هاربين من حرب، أو ضحايا زلزال أو فيضان. هذه مدينة كاملة لضحايا مغامرات رأسمالية». وأضافت المجلة «هم ليسوا ضحايا الرأسمالية، ولكنهم ضحايا مغامراتها الفردية. هزمت الفردية الفرديين أصحابها».

ونشرت المجلة تحقيقا يسرد قصص الحزن والبكاء والعطالة والشحاذة، وعن منازل فقدت، وزيجات انهارت، وأطفال بلا تعليم أو علاج. وكررت نظرية تحول الفردية إلى أنانية. وقالت إن خوف الفرد أقوى من خوف المجتمع، لأن الفرد يخاف من ألا ينقذه المجتمع إذا انهار (كما حدث في مدينة الخيام). لكن، من جانب آخر، يخاف المجتمع أقل من خوف الفرد لأنه، طبعا، يعتمد على تعاون الأفراد.

وقبل أسبوعين أيضا، نشرت مجلة «تايم» الأميركية موضوعا على غلافها عنوانه «سيفتي نيت» (شبكة الأمان)، إشارة إلى نظرية أن هناك شبكة اجتماعية يقع عليها كل من يسقط من مكان عال، أي كل من تحدث له مشكلة.

وتحدثت المجلة عن ارتفاع نسبة البطالة إلى 10 في المائة، وقالت إن النظام الاقتصادي الأميركي يواجه تحديات وسؤالا جوهريا هو: هل سيقدر هذا النظام على حل مشاكله، أم أنه سينهار؟

وتحدثت المجلة عن خوف الفرد الأميركي من المجهول، وأضافت أن الإعلام يزيد من هذا الخوف، لأنه يسأل «هل ستفقد وظيفتك؟ إذا فقدت وظيفتك، هل ستحصل على وظيفة أخرى؟ هل عندك تأمين صحي؟ إذا لم يكن عندك، ماذا ستفعل عندما تمرض؟».

ومنذ عدة أسابيع، قدمت إذاعة «إن بي آر» نقاشا عن «بريست فير» (خوف الثدي)، إشارة إلى تقرير صدر عن وزارة الصحة الأميركية ربما سيتقرر بعده أن المرأة التي في الأربعين من عمرها ليس ضروريا أن تجري فحوصات للكشف عن سرطان الثدي مرة كل سنة، كما جرت العادة، وأن الكشف يجب أن يبدأ بعد أن تبلغ الخمسين.

لكن، وفي إثارة إعلامية مكثفة، بكت نساء، وحذر أطباء، وتكررت صور أثداء في التلفزيون، خوفا من أن عدم الكشف المبكر سيزيد من إصابات سرطان الثدي.

وقال مويسي عن تناقضات المجتمع الأميركي التالي «نشتري البنادق لندافع عن أنفسنا، لكننا لا نعرف ماذا نفعل إذا مرضنا. نفتخر بأننا استقلاليون، لكننا نريد من الحكومة أن تجد لنا وظائف عندما نفقد وظائفنا. نعيش في عقلانية صرفة، لكننا لا نعرف كيف نفسر المرض والموت. نريد من أولادنا وبناتنا أن يكونوا استقلاليين مثلنا، لكننا نريدهم قريبين منا، خاصة إذا كبرنا في السن أو مرضنا».

وقال إن الأوروبي «يعمل ليعيش»، بينما الأميركي «يعيش ليعمل». أي أن الأوروبي يرى العمل جزءا من أشياء أخرى في الحياة، بينما يرى الأميركي أنه لا حياة من دون عمل.

وقال إن الأوروبي أكبر «سنا»، ولهذا يتهكم أكثر، ويعرف أن السياسيين يأتون ويذهبون ويبقى المجتمع، بينما الأميركي أصغر «سنا» وأقل نضجا، ولهذا يجدد الأمل في كل سياسي، ثم يصاب بخيبة.

ما هي الـ«إنديفيديواليزم» (الفردية)؟

بدأ فلاسفة بريطانيون يستعملون الكلمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لكن، كان فلاسفة ألمان يستعملونها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. كانت جزاء من «رومانتيسيزم» (الرومانسية) التي جاءت بعد عصر النهضة الذي سيطرت عليه نخب ثقافية وأرستقراطيون. وركزت على الأجيال الجديدة والأفكار الجديدة، وتمردت على الحياة الرتيبة والتقليدية، وشجعت الناس على تأمل الطبيعة التي تحيط بهم، وأفرزت لوحات فنية طبيعية، وقطعا موسيقية وروايات عن جمال الطبيعة.

وشجعت الرومانسية الأجواء الطبيعية، والفردية، ليعتمد الإنسان على فطرته الطبيعية، وليثق بنفسه، وليحدد هويته ودوافعه، ولا يحددها له شخص آخر.

لكن خلال المائة سنة التالية، انتشرت الفردية في الولايات المتحدة أكثر منها في أوروبا، وذلك بسبب التقليدية الأوروبية بالمقارنة مع التجديد الأميركي. طبعا، الولايات المتحدة نفسها قامت على فردية المهاجرين الأوائل الذين تمردوا على الحياة التقليدية في أوروبا.

خلال القرن العشرين، ظهرت الفردية المتطرفة، أو ما يسمى الأنانية. طبعا، ليست الأنانية واحدة من «آلهة» متنزه «ديزني»:

أولا: لأنها سلبية.

ثانيا: لأنها عاطفة وليست عقلانية.

لكنها حقيقة. وهذا ما اعترفت به ايان راند، أم الأنانية. هذه الروسية اليهودية التي هاجرت إلى أميركا، وصارت جامعية، وغيرت اسمها الذي كان اليسا روزنبوم.

كتبت ايان راند أربعة كتب، ويوضح اسم كل منها حلقة في سلسلة تفكيرها:

أولا: كتاب «فضائل الأنانية».. يجب أن يكون الناس واقعيين، ويعترفوا بأن الأنانية صفة طبيعية، وبدل أن ينكروها، يجب أن يؤمنوا بها.

ثانيا: كتاب «الرأسمالية: مثالية مجهولة».. مثالية لأنها تؤمن بأن الإنسان يقدر أن يكون عقلانيا وهو يشتري ويبيع وينتج ويستهلك. لكن هذا ليس ممكنا في الواقع.

ثالثا: كتاب «إنترودكشن تو أوبجكتيفيزم» (مقدمة الموضوعية).. وهذه كلمة مهذبة لكلمة أنانية.

لهذا، كما قال مويسي، بالغ الأميركيون في فرديتهم، وصارت أنانية، أو شبه أنانية. وساهمت الأنانية في صنع الكارثة الاقتصادية الحالية. ولهذا في الوقت الحاضر، يتهكم الأوروبيون على الأميركيين، ويرون أنهم كانوا قادرين على تفادي الكارثة الاقتصادية لو كانت ثقافتهم أكثر اجتماعية وأقل فردية.