أمبيرتو إيكو.. الوجه الحقيقي لإيطاليا

يعتقد معظم الناس أن برلسكوني يمثل البلد بسبب سيطرته على معظم الفضائيات التلفزيونية والصحف

غلاف الكتاب
TT

يشغل برلسكوني وسائل الإعلام بفضائحه الجنسية وتصريحاته المشبوهة التي تشي بالعنصرية أحيانا، إلى درجة أن أوباما منزعج منه كما يقال. ويعتقد الناس بسبب إمبراطوريته المالية التي تسيطر على معظم الفضائيات التلفزيونية والجرائد أنه يمثل إيطاليا، كل إيطاليا، بالفعل. والواقع أنه ظاهرة من الظواهر التي لا يستهان بها، فالرجل متعدد الجوانب وصاحب مواهب وإلا لما استطاع السيطرة على الحياة السياسية الإيطالية بمثل هذا الشكل. ولكن الوجه الحقيقي لإيطاليا، الوجه الحضاري والأخلاقي، موجود في مكان آخر. فإيطاليا بلد عريق في النزعة الإنسانية والحضارية منذ عصر النهضة كما هو معلوم. إيطاليا هي بلد بيترارك ودانتي ومايكل أنغلو ورافائيلو وليوناردو دافنشي وغاليليو ومارسيل فيشان وبيك الميراندولي الذي كان معجبا بحضارتنا إبان العصر الذهبي، والذي كان يقول: قرأت في كتب العرب أنه لا شيء أجمل ولا أعظم من الإنسان..

كما أن إيطاليا هي بلد بنديتو كروتشيه وغرامشي وفيليني وبازوليني وفيسكونتي وغيرهم من الوجوه اللامعة. ربما كان أمبيرتو إيكو أشهر مثقف إيطالي في الوقت الحاضر، وبما أن الكثير من مثقفي أوروبا وفلاسفتها نزلوا إلى الساحة على إثر ضربة 11 سبتمبر (أيلول)، وبعد أن احتدمت المعركة، فإنه أدلى بدلوه بين الدلاء. وقال بما معناه: كل الحروب المذهبية أو الدينية التي أدمت العالم تعتمد على متضادات تبسيطية من نوع: نحن/والآخرون، أو نحن الأخيار/والآخرون الأشرار، أو نحن البيض/وهم السود، إلخ... وإذا كانت الثقافة الغربية قد أثبتت خصوبتها فذلك لأنها فكّكت هذه الأطروحات التبسيطية على ضوء البحث العلمي والروح النقدية، ولكنها لم تكن دائما خصبة أو نقدية أو متسامحة على عكس ما يزعم برلسكوني وسواه. فهتلر مثلا حرق الكتب مثله في ذلك مثل أي همجي آخر، وكذلك فعلت الفاشية الإيطالية التي لا يمكن القول ـ وليعذرنا برلسكوني ـ إنها كانت حضارية!

هذا الكلام يعتبر ردا على تصريحات برلسكوني بعد 11 سبتمبر والتي قال فيها إن الحضارة الغربية متفوقة على الحضارة العربية أو الإسلامية. ومعلوم أن هذه التصريحات أثارت ردود فعل هائجة في وقتها، فقد اعتبرها الكثيرون غير لائقة أو عنجهية واستفزازية وربما عنصرية. وعندئذ تصدى له الناقد والفيلسوف أمبيرتو إيكو لكي يقول إن الحضارة الغربية لم تكن دائما متفوقة على غيرها، وإنها ارتكبت الكثير من الجرائم إبان المرحلة الاستعمارية أو حتى في القرن العشرين في أثناء سيطرة الفاشية والنازية.

فقد علمتنا الفاشية في المدارس أيام موسوليني أن الله يلعن الإنجليز! لماذا؟ لأنهم يأكلون خمس مرات في اليوم، في حين أننا نحن الإيطاليين لا نأكل إلا ثلاث مرات وبشكل خفيف وبسيط.. وبالتالي فليس كل شيء مشرقا في الحضارة الغربية. ولكن هناك جوانب أخرى لحسن الحظ في هذه الحضارة. هنالك التنوير، والعقلانية، والتسامح، وحقوق الإنسان، والتعددية الفكرية والعقائدية، وحرية الصحافة، والفكر النقدي، إلخ... ولكن الشيء المؤلم فعلا هو أن الحضارة الغربية خانت هذه المبادئ النبيلة بالذات عندما استعمرت الجزائر وسواها. وقد كان ذلك عملا مضادا للشعار شبه المقدس للجمهورية الفرنسية، والمتمثل في الكلمات الثلاث المحفورة على واجهة كل المدارس والمباني الحكومية الفرنسية: حرية، مساواة، إخاء، بين جميع البشر..

في الواقع إنه إذا ما ألقينا نظرة على التاريخ وجدنا أن الغرب كان دائما راغبا في معرفة الحضارات الأخرى، وذلك لأسباب اقتصادية غالبا، فهو يريد أن يتوسع ويغتني، ولكي يحصل على ذلك كان ينبغي عليه أن يتعرف على ثقافات أخرى غريبة عليه، ولكنه كثيرا ما نظر إلى هذه الثقافات باحتقار. فالإغريق مثلا، وهم أصل الغرب، كانوا يدعون كل من لا يتكلم لغتهم بالبرابرة! وحدهم الرواقيون اعترفوا بأن البرابرة يتحدثون لغة أخرى ويستخدمون كلمات أخرى للدلالة على نفس الشيء، وبالتالي فهم يستحقون الاحترام مثلنا لا أكثر ولا أقل.. وربما فعل الرواقيون ذلك لأنهم كانوا من أصل فينيقي.

بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورت الأنثروبولوجيا الثقافية في الغرب بصفتها علما يريد شفاء الغرب من عنهجيته واحتقاره للحضارات الأخرى. وكان هدف هذا العلم أن يبرهن على وجود فكر آخر غير الفكر الغربي ومنطق آخر غير المنطق الغربي، وبالتالي فينبغي احترام هذا الآخر وعدم احتقاره بصفته بدائيا، أو متوحشا، أو همجيا. ينبغي أن نعلم أن كل شعب يعتبر عاداته وتقاليده بمثابة المثالية أو المطلقة، وكل من يخرج عليها يعتبر همجيا أو بربريا أو متخلفا. وحتى داخل العالم الغربي نفسه نلاحظ أن الأميركان يسخرون من الفرنسيين لأنهم يأكلون الضفادع!.. ولكن هناك بعض المعايير الموضوعية للمقارنة بين الحضارات البشرية المختلفة، فإذا ما أخذنا التفوق العلمي أو التكنولوجي كمعيار فمن الواضح أن الحضارة الغربية متفوقة على غيرها بما لا يقاس. ولكن هناك من يقول إن التكنولوجيا تقضي على الطبيعة وتسمّم الأجواء، ويفضل العيش في قرية صغيرة هادئة بعيدا عن ضجيج العالم الصناعي ودخانه. وبهذا المعنى فإن الحضارة الغربية تصبح أدنى مستوى من غيرها، وإذن فكل شيء يعتمد على المقياس الذي نتخذه كمعيار حضاري أو كمعيار للحضارات.

سوف أضرب أيضا المثل التالي الذي يخص بلدي إيطاليا. الكل يعلم أن باكستان تمتلك القنبلة الذرية في حين أن إيطاليا لا تمتلكها، فهل يعني ذلك أن باكستان أكثر حضارية من إيطاليا؟ وهل يعني أن العيش في إسلام آباد أفضل من العيش في ميلان أو روما؟ لا أعتقد أن الكثيرين سيردون بالإيجاب على هذا السؤال، مع احترامي لباكستان والحياة الباكستانية..

ويرى أمبيرتو إيكو أن الحضارة الإسلامية كانت متفوقة في لحظة ما من تاريخها. كانت متفوقة على الغرب عندما أنجبت مفكرين كبارا من أمثال ابن سينا، وابن رشد، وابن الطفيل، وابن باجة، وابن خلدون، والكندي، إلخ... وكانت متفوقة عندما كان عرب إسبانيا يطورون علم الجغرافيا، والفلك، والرياضيات، والطب، والفلسفة. وفي ذات الوقت كانت الحضارة المسيحية الأوروبية متخلفة جدا بالقياس إليهم، وكان عرب إسبانيا أكثر تسامحا مع المسيحيين واليهود. كل هذا صحيح، ولكنه يخص الماضي لا الحاضر. في الوقت الحاضر نلاحظ أن الأمور انعكست وأصبحت الحضارة الغربية هي المتفوقة، وهي التي تعترف بقيم التعددية، والفكر النقدي، وتحترم حق الاختلاف في العقيدة والمذهب، وتحمي حرية الرأي والرأي المضاد. وهذا يعني أن التاريخ مدّ وجزر، يوم لك ويوم عليك. والحضارة ليست حكرا على شعب دون آخر، أو على منطقة دون أخرى. وإنما هي تنتقل من نطاق جغرافي إلى آخر بحسب الظروف والمنعطفات التاريخية. وبالأمس كانت عند الإغريق، ثم انتقلت إلى العرب ـ المسلمين، ومنهم إلى الأوروبيين، وغدا قد تكون عند الصينيين أو الهنود، إلخ...

ثم يردف أمبيرتو إيكو قائلا هذا الكلام الهام: إن المقارنة ضرورية لفهم ما يجري حاليا. فلو درس المتطرفون الإسلاميون حركات التطرف في المسيحية فلربما فهموا أنفسهم أكثر وتراجعوا عن نظرتهم الأحادية الجانب، ولربما وسّعوا عقولهم أكثر وتخلوا عن التعصب والإكراه في الدين. فنحن أيضا كان عندنا أصوليون متطرفون مثلهم، وكانوا يدعون إلى الحرب المقدسة تماما كما يفعل بن لادن أو الطالبان الآن فيما يخص الحض على الجهاد ضد الكفار: أي نحن بالذات! وبالتالي فلا يخلو أي دين من مجموعات صغيرة تشوهه أو تفهمه بشكل متطرف وخاطئ وعنيف.

ويرى الناقد الإيطالي الشهير أنه إذا كان هناك من تفوق للحضارة الغربية على الحضارات الأخرى فإنه حديث العهد ولا يعود إلى أكثر من ستين سنة. وهو راجع إلى عدة أسباب: أولها التفوق العلمي والتكنولوجي، وثانيها التنظيم العقلاني لكل مناحي الحياة، وثالثها حرية التفكير والنقد حتى في المجالات الحساسة كالدين والجنس والسياسة. فلا شيء يعلو على المراجعة والنقد كما كان يقول فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كانط، والأمم التي ترفض ذلك تجمد فكريا وتتكلس وتتحجر كما حصل للعرب بعد الدخول في عصور الانحطاط الطويلة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا بشكل من الأشكال. وأكبر دليل على ذلك انبثاق الحركات السلفية الأصولية بمثل هذه الضخامة والقوة واكتساحها للشارع العربي والإيراني والباكستاني... ورابعها الاعتراف بالتعددية السياسية والصحافية وحق الاختلاف في الدين والمعتقد وبقية القيم الديمقراطية. فنحن نقبل بإنشاء أكبر المساجد والمراكز الإسلامية في روما وباريس وبروكسيل وسواها من عواصم الغرب، في حين أنه ممنوع منعا باتا إقامة أي كنيسة في الكثير من البلدان العربية والإسلامية. ونحن نقبل بأن يعيش معنا أناس ينتمون إلى أديان غير ديننا وعقائد غير عقائدنا، في حين أن هذا شبه مستحيل في بلدان إسلامية كثيرة، بل نحن نقبل بأن يعيش البوذي إلى جانب المسيحي إلى جانب المسلم أو اليهودي ونعتبرهم جميعا مواطنين يستحقون نفس المعاملة ونفس الاحترام بشرط أن لا يعتدي أحد على الآخرين وأن لا يحتقر عقائدهم أو يحاول إجبارهم على تغييرها واعتناق دينه، بل نحن نقبل بغير المتدينين على الإطلاق ونعاملهم كبشر لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات تجاه المجتمع. والواقع أن غير المتدينين أصبحوا هم الأكثرية في أوروبا حاليا. فالذين يذهبون إلى الكنيسة ويؤدون الفرائض الدينية أصبحوا أقلية قليلة في إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو بقية الأمم المتقدمة. في فرنسا ما عادوا يتجاوزون نسبة 8 في المائة، وأكثرهم من المعمرين. والإنسان عندنا لم يعد يحاسب على مدى تدينه أو عدم تدينه وإنما على مدى خدمته للمجتمع أو عدم خدمته.. أما مسألة التدين فقد أصبحت مسألة شخصية بينك وبين ربك ولا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يحاسبك عليها. فالله هو وحده العلام بذات الصدور.