تراث وأساطير

محيي الدين اللاذقاني

TT

مالئة الدنيا وشاغلة الناس قبل المتنبي وشكسبير ومايكل جاكسون ومادونا، امرأة رمزية اسمها عشتار، وهو ليس الاسم الوحيد لكنه الاجمل والاخصب وكيف لا يكون ومعناه بالبابلية عيش الأرض، وبلغات أخرى «مانحة الحياة».

والفرق الاساسي والشاسع بين عشتار بلاد الرافدين، وافروديت بنت الحضارات اللاحقة ان الثانية توقظ الحب الحسي والغرائز وحدها، أما عشتار واسمها عند السوريين (عشتروت وعستروت) فتضيف الى الحب الأمومة والخصوبة والتعاطف والحنان، فكأنها كون في شخص ورمز وقناع يلخص أجمل ما في الوجود الكوني من تجليات النبل والعطاء، والفتنة المقطرة.

ولا تسل من هي عشتار على وجه الدقة، فالتدقيق عمل المخابرات والباحثين في المختبرات، ومن شأن الاسطورة ان تشير وترمز وتوحي وبعدها لكل رؤيته وتفسيره وتشكيله الذي ترتاح اليه روحه بعد ان يتشارك في صنعه عقله وخياله.

ويعتقد صاحب أجمل وأغنى كتاب عن عشتار صديقنا فراس السواح مؤلف (لغز عشتار) ان جميع (العشتارات) من أصل واحد يعود بالبشرية الى عهد براءتها الأولى حين كانت (الأم الكبرى) هي القائدة والرائدة وغارسة بذور النماء والمحبة، فأنانا السومرية وهي أولهن هي عشتار البابلية وايزيس المصرية وعشتروت الفينيقية وارتميس اليونانية وديانا الرومانية وحتى عرب الجاهلية كان عندهم عشتارهم وهي العزى التي لازمتهم بضعة قرون قبل ان تتركهم وتتحول الى كوكب الزهرة، وهناك قصة مثيرة في كتاب الاصنام لابن الكلبي عن تحطيم خالد بن الوليد لتمثال عشتار العربية بوادي حراض.

وكي يزيدك السواح تشويقا وحيرة يبدأ كتابه بنص من مكتبة نجع الحمادي يستله مترجما من جيمس روبنسون. والنص يقرب اليك لغز عشتار ويدعوك لرفع براقعها لتزداد حيرة فوق حيرتك في فهم ذلك اللغز الابدي للأنوثة المتوارية والمولعة بالتناقضات والتحولات خلف اقنعة عديدة ووجه واحد يقبل التفسيرات كلها، كما في نص (عشتار تتحدث عن نفسها):

أنا الأول... وأنا الآخر أنا البغي... وأنا القديسة أنا الزوجة... وأنا العذراء أنا الأم... وأنا الابنة أنا العاقر... وكثر هم أبنائي أنا في عرس كبير ولم اتخذ زوجا انا القابلة ولم انجب احدا وأنا سلوة اتعاب حملي أنا العروس وأنا العريس وزوجي من انجبني أنا أم أبي... وأخت زوجي وهو من نسلي.

وقبل ان تختلط عليك الكائنات والاسماء والتفسيرات والرموز اطلب النجدة من علم النفس الحديث الذي اشتغل رواده على الاساطير وشخصياتها اكثر مما اشتغلوا على بشر ازمنتهم، وسوف تجد عند يونغ اسما جديدا للطاقة الايجابية عند الانسان غير «اللوغوس» هو «انيموس»، واسما آخر للطاقة السالبة هو «أنيما». وهذان مفتاحان عشتاريان يحيلان الى الانسان الأول قبل ان ينقسم الى سالب وموجب وذكر وأنثى فالانيموس رجل خفي داخل تكوين كل امرأة والانيما انثى مستترة داخل كل رجل.

* صيادون وصائدات ومن يونغ الى محمد عبده ـ ويا للمسافة ـ التي يسهل قطعها على ايقاع اغنية.

وما هجيت ان البراقع يفتنني لين شفت ظبي النفوذ مبرقعات لكنهن ـ وبالإذن من الشاعر والمغني ـ يفتن في كل الأزمنة والأمكنة والعصور، والأنثى الأصلية لمعرفتها بخطورة فتنتها الطاغية تحذر من رفع برقعها بلغة أشد من تحذير شكسبير في النص المكتوب على قاعدة قبره في ستراتفورد للذين يفكرون في تحريك رماده، فالشاعر الانجليزي الأشهر يكتفي بلعنهم الى آخر سلالة، أما المبرقعة الأولى أنثى الكون وحافظة اسراره فتحذر على لسان ايزيس كل من يرفع برقعها بالويل والثبور وبمصير يشابه مصير من رفع البرقع عن احد تماثيلها، فانعقد لسانه واصابه الخبال قبل مجنون ليلى وصحبه. وهذه عقوبة بسيطة اذا قيست بالعقوبة التي فرضتها ارتميس الاغريقية على الشاب الصياد اكتيون الذي اقتحم عزلتها وهي تستحم عارية، في بحيرة صفائها، فمسخته دون رحمة وحولته وعلاً، وبينما كانت كلابه تصطاد معه اندفعت خلفه، وطاردته بعد المسخ لتصطاده، ولم تتوقف الا بعد ان مزقته اربا.. فمع العشتارات المبرقعات، والسافرات انت تُصاد، ولا تصيد وان اوحت لك نفسك بالعكس فلا تصدقها وصدق المغني القائل: «أنا صياد رحت اصطاد صادوني»، فهذه المعاني اقرب الى روح ديانا الرومانية وهواياتها.

لقد كانت عشتار كاملة القوة والنفوذ في مرحلة الصيد قبل ان يتحضر الانسان ويزرع الأرض ويستقر، فلما فعل واستطابت النساء طقوس الحمل والولادة بدأت سلطاتهن المطلقة في المجتمع الطموطمي بالتناقص، وما بين عبارة الذكر الحانية: استريحي في البيت واهتمي بالاطفال وسأعتني بالارض نيابة عنك، وبين ارهاق الحمل والولادة والطمث الشهري أفاقت عشتار وحفيداتها ليجدن انفسهن دون حقوق لا مطلقة ولا مقيدة، فقد نجح الذكور في الاستيلاء على السلطة تدريجيا، ثم وجهوا اليهن الضربة القاصمة. اذ يعتقد فردريك انجلز ومعه ماركس في كتاب «أصل العائلة» ان اسقاط حق الام في النسب والتوريث كان الهزيمة الكبرى لعشتار وبناتها، فبعد تلك الهزيمة لم تقم لهن قائمة الا في ايام الثورة الجنسية في ستينات القرن العشرين، تلك الثورة التي اعادت الامازونيات الى المشهد العام بكل صخبهن وعنفهن وكرههن للرجال.

ويقترح مصنفو الاساطير، ومنهم صاحب كتاب «لغز عشتار» احتمال ان تكون حقبة اسطورة الامازونيات عن النساء اللواتي يعشن في مجتمعات مستقلة من دون رجال هي الحقبة التي تقع على الحدود الفاصلة بين مرحلة المجتمع الطوطمي «الامومي» ومرحلة المجتمع البطريركي «الابوي» حين تم انتقال السلطة الاجتماعية والسياسية من الجنس الاخصب، والاعذب الى الجنس الاشرس والاكذب.

* الأفعى وأخواتها وقد تكون ظاهرة الامازونيات، وهن بالمناسبة من جهات البحر الاسود ولا علاقة لهن بنهر الامازون، مرتبطة باحتجاج فريق من النساء على بدايات سيطرة الرجل واختيارهن العيش بعيدا عن مجال سطوته، فهن حسب الاسطورة مقاتلات شرسات وشجاعات وكن اذا اردن الحمل استلفن ذكور الجزر المجاورة لتخصيبهن، فإذا اتم الذكر مهامه جرى له ما يجري لذكور مملكة النحل الذين يتم التهامهم بعد ان يلقحن الملكة، وعند الامازونيات كان يتم وأد الصبي وتظل الانثى على قيد الحياة، وهو عكس ما كان يفعله عرب الجاهلية في الجزيرة العربية قبل قدوم الاسلام لانصاف الاناث وترشيد سطوة الذكور.

ان عشتار، كما تبدو في تماثيلها السورية والعراقية والمصرية والاغريقية والكريتية لا تظهر عليها ملامح العنف المرتبط بالامازونيات، فهي وديعة وحنونة وتمسك ثدييها العاريين بكفيها علامة على الاستعداد للعطاء، وكل من عبر «بوابة عشتار» في متحف بيرغامون الالماني في برلين لا بد ان يقف مندهشا امام اختلاط العظمة بالبساطة في شخصية عشتار البابلية ذات النهدين الصلبين والردفين الهائلين.

وفي كريت سوف تختلف هذه الصورة قليلا فعشتار الكريتية «رحيا»، كما تظهر في لوحة في متحف هيراكليون ذات نهدين يفيضان بالحليب كالانهار، وفي تمثال آخر يختفي الحليب، وتتحرر اليدان لتمسكا بافعوانين رهيبين وفي هذا التمثال تصبح الافعى، وليس النهد، رمز الغواية، فالمرأة كالافعى، كما اعتقد القدماء ـ والمحدثون ربما ـ وليس في النعومة، فحسب، بل في تبديل الثياب والرموز، وفي التجدد والظهور بزي مختلف في كل حقبة، فقبل الافعى اختلطت صورة المرأة بالاسماك في الحضارات البحرية وتحولت الى عروس بحر محرشفة.

لقد كانت الانثى قبل تطوير رموز الافعى واخواتها بقرة مقدسة في العصور المغرقة في القدم، قبل ان يبدأ التاريخ الحضاري المكتوب في الألف الرابعة قبل الميلاد، ثم ترقى الذوق قليلا، فتحولت البقرة الى افعى دون ان تسقط رموز القداسة عن الابقار، فلما زاد تطور الذوق ظهرت الحمامة فأفروديت عند القبارصة واليونانيين تظهر دوما وحولها سرب حمام وهذا اقرب للذوق السلمي من ديانا الصيادة المحاطة بالكلاب والغزلان والمتوشحة بالقوس والنشاب، وعلى ذكر الأخير يقال عن الامازونيات في اساطيرهن انهن كن يقطعن الثدي الايمن كي لا يعيقهن عن استخدام القوس او يقلل من قدرتهن على دقة التصويب.

* مثلث الألغاز ومع البقرة المقدسة والافعى المقدسة تأتي الجرة المقدسة لتكمل مثلث الالغاز ـ والشهوات ربما ـ فعشتار القديمة التي تسبق المرحلة البابلية، تبدو في تماثيلها مثل جرة مفلطحة لأن الفنان القديم كان يركز على الثديين والعجز، وما بينهما الرحم المكتنز دائما بالبذور التي تنفخ البطن، وهكذا تصبح المرأة، خصوصا في وضعية الجلوس مثل جرة حقيقية، لذا لا غرابة ان يعثر الاركيولوجيون في مختلف مواقع الحضارات القديمة على جرار من كل الانواع، والجرة المقدسة تؤطر عادة بعشرات النهود كتكريس لمفهوم العطاء الذي يقترن بالخصوبة، وهل هناك ما هو اكثر خصوبة وحنانا وعطاء ودفئا من حليب الامهات..؟ ومع «المرأة الجرة» ظهرت العشتارات حاملات الجرار، كما في تمثال «ربة الينبوع» الذي يحتفظ به متحف حلب الوطني، وهو من أجمل تماثيل الحضارات السورية.

لقد اصبحت الانثى لغزا بحليبها وخصوبتها وبتقلب مزاجها ايضا، لذا لم يجد القدماء شبيها لها في الطبيعة الا القمر «آه يا قمر»، فهي مثله تختفي وتظهر، وتشع دون ان تحرق، ودورتها الشهرية التي تهل كل 28 أو 29 يوما مرتبطة بالشهر القمري، وحركة القمر، وهناك من يربط اسطورة نزول انانا (عشتار السومرية) الى العالم السفلي ثم صعودها من مملكة اختها أريشكيجال، باختفاء القمر وظهوره كل شهر، وبعد كل هذا الربط المتقن والمقنع بين قمر السماء، واقمار الارض هل هناك حاجة للسؤال من اين جاءت كل تلك الالغاز والرموز المرتبطة بالعالم السري والسحري للنساء..؟.

لقد غنت فيروز ذات يوم ليس ببعيد:

القمر بيضوي عالناس والناس بيتقاتلوا وذات يوم موغل في البعد حين كانت المرأة ـ القمر هي التي تسير شؤون الدنيا، ولها الكلمة الاولى والاخيرة في المجتمعات لم يكن الناس يتقاتلون تحت ضوء القمر انما كانوا يحبون ويغنون ويرقصون ويعشقون، وما احوجنا هذه الايام الى موجة انوثة حقيقية ـ غير امازونية ولا ثاتشرية ـ فالسلم والرخاء والخصوبة والمحبة والحنان والتعاطف والدفء من ابرز صفات الانثى الاولى التي اضعناها ـ وأي كنز اضعنا ـ لكن الجميل في الاسطورة ان الكنز قابل للاستعادة، فأسطورة الانثى الاصلية تعلمنا انه ما من شيء يضيع، فبين المنبع والمصب رحلة شاقة، ومضنية، وفي العالم اكسير اسمه الحب استعادت به ايزيس اوزيرسها، وعادات لنا بوساطته من العالم السفلي ـ أنانا ـ عشتارنا الاولى.