منارات العرب في الخارج

قراءات آخر العام

TT

ينتمي المثقفون العرب المقيمون في الغرب إلى فئات ومشارب واتجاهات شتى، فمنهم الأساتذة الجامعيون الذين يكتبون باللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية والألمانية، إلخ، ومنهم أولئك الذين يكتبون ويفكرون بالعربية مباشرة من دون مناصب جامعية بالضرورة، ومنهم من ازداد إعجابا بالحضارة الغربية وحداثتها وعلمانيتها وحرياتها بعد طول إقامة في الغرب، ومنهم من حصل لديه رد فعل ضد كل ذلك، فازداد تشبثا بالتقاليد وأنماط الفكر القديم، وراح يحن إلى العودة إلى الوراء، ومنهم من يقف بشكل وسطي «بين بين».

ويمكن القول إن الذين يكتبون باللغات الأجنبية ويشغلون مناصب أكاديمية في الجامعات الغربية يتمتعون بحرية أكبر في ما يخص نقد التراث القديم والطائفية الدينية المسيطرة حاليا، ولكن ذلك ليس مضمونا على طول الخط، فهناك أكاديميون لا يقلون خضوعا للآيديولوجيا القوموية - الأصولية عن أي رجل شارع في العالم العربي، وبالتالي فلا يكفي أن تكتب بالأجنبي أو أن تكون صاحب مناصب أكاديمية لكي تكون من دعاة الإصلاح والتنوير والقيم الحديثة عموما، وهذا شيء يدعو إلى الاستغراب والدهشة في الواقع.

وما يهمني هنا هو التحدث عن الصنف الآخر من المثقفين، أي عن أولئك الذين يستغلون وجودهم في مجتمعات حرة وديمقراطية لنشر الفكر الجديد عن التراث الإسلامي بالذات، فهؤلاء هم الذين يشكلون منارات للشعوب العربية وللمثقفين الذين بقوا في الداخل، ونذكر من بينهم التونسي عبد الوهاب المؤدب، والجزائري مالك شبل، والمغربي رشيد بن زين، وعبد الرحيم لمشيشي، وعبد النور بيدار، إلخ، إن كتاب المؤدب الأخير يستحق أن يقرأ ويترجم فورا كجميع كتبه السابقة، وأقصد به الكتاب الذي صدر قبل أسابيع تحت عنوان «رهان على الحضارة»، ففيه تشخيص دقيق لهمومنا ومشكلاتنا الحالية، إنه يساعدنا على التصالح مع العصر وإيجاد طريق معقول لدخول الحضارة، عن طريق التوفيق بين أفضل ما أعطاه تراثنا العربي الإسلامي العريق من جهة، وأفضل ما أعطاه التنوير الأوروبي من جهة أخرى، وقُل الأمر ذاته عن كتب نور الدين بيدار، كـ«إسلام بلا خضوع» و«نحو فلسفة وجودية إسلامية»، أو كتابه الآخر «نحو إسلام يليق بعصرنا»، إلخ، وكذلك ينبغي الاطلاع على موسوعة مالك شبل عن القرآن الكريم والصادرة قبل أسابيع في باريس، هذا بالإضافة إلى كتابه عن «إسلام التنوير» وغير ذلك من منشوراته الكثيرة الخصبة، ولا ننسى كتاب رشيد بن زين عن «المفكرين الجدد للإسلام» حيث يستعرض أفكار كبار المجددين من أمثال فالزر رحمان، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد أحمد خلف الله، ومحمد أركون، إلخ، ولا ينبغي أن ننسى كتاب إريك يونس جوفروا الذي اتخذ العنوان التالي «الإسلام سيكون روحانيا عاليا أو أنه لن يكون»، ففيه طروحات جريئة ومدهشة وتستحق النقاش العميق، إنه يبلور مخرجا من المأزق الحالي المتمثل في الإلحاد الغربي الانحلالي العدمي من جهة، والأصولية الانغلاقية المتزمتة من جهة أخرى.

ولكن لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام أن كل مثقفي الخارج هم نور على نور، وأن مثقفي الداخل لا معنى لهم، فالواقع أن العكس هو الصحيح في أحيان كثيرة، وهذا من غرائب الأمور كما ذكرت آنفا، فالكثير ممن خرجوا إلى بلدان الغرب بل ودرسوا في جامعاته كأنهم لم يدخلوا ولم يخرجوا، فلم يستفيدوا شيئا يذكر من تقدمه وعلومه ولم ينفتحوا فكريا ولم يتغيروا، ويا ليت أنهم لم يخرجوا، لقد أضاعوا وقتهم سدى، وصُرفت عليهم أموال البعثات العلمية مجانا، وبعض من بقوا في الداخل يبدون أشد إصرارا على الانخراط في معركة التنوير الفكري على الرغم من أنه تنقصهم المراجع الحديثة والاحتكاك المباشر بالبيئات العلمية الطليعية في باريس أو لندن أو برلين أو نيويورك أو غيرها من عواصم الحداثة العالمية الكبرى، ولولا أني سأثير عليّ حفيظة الكثيرين، لكنت قد ضربت أمثلة محسوسة وسميت الأشياء بأسمائها، ولكن بما أن إقامة اللوائح ومحاكم التفتيش شيء مقيت ومكروه، فإني سأكتفي فقط بالتركيز على بعض الأسماء اللامعة التي انفصلت عن القطيع وغرّدت خارج السرب القوموي - الأصولي وآيديولوجيته الديماغوجية وقبلت بمواجهة التحدي الفكري بكل جرأة وإحساس بالمسؤولية.

ما يهمني هنا هو التحدث عن المثقفين النقديين الذين لا يستسلمون للغرائز الشعبوية الضيقة ولا للعصبيات الشوفينية سواء أكانت ذات طابع قومي أم طائفي. فهؤلاء يغلّبون البحث العلمي عن الحقيقة على أي اعتبار آخر، وهؤلاء بما أنهم يعيشون في الغرب ويكتبون بلغاته فإنهم يقيمون مسافتين عن مناطق القمع الفكري اللاهوتي لا مسافة واحدة، فهناك أولا المسافة الجغرافية التي تحميهم إلى حد ما من زمجرة التيارات المتشددة التي تكتسح الشارع العربي، فمن يكتب على شواطئ نهر السين غير من يكتب على شواطئ نهر النيل أو الفرات، وهامش حريته أكبر بكثير، وهناك ثانيا المسافة اللغوية التي تزيد الحماية الأولى درجة إضافية، فالكتابة بالعربية تعرضك فورا لغضب إخواننا الأصوليين على عكس الكتابة بالإنجليزية أو الفرنسية، وبالتالي فإنهم يتمتعون بحرية أكبر في نقد الجوانب المعتمة أو الرواسب المظلمة والمتراكمة من حياتنا وتراثنا، وهي الجوانب التي تسبب الانفجارات الطائفية أو المذهبية في العراق وباكستان ومختلف مناطق العالم الإسلامي، وهي التي تؤدي إلى القتل على الهوية أو إلى المجازر التي حصلت في لبنان سابقا، والتي نشهدها حاليا، وتصدمنا في الصميم.

ولكن مشكلة هؤلاء المثقفين النقديين الأحرار هي بالطبع الانقطاع عن التواصل مع الجمهور العربي الذي لا يتقن إلا لغة واحدة ولا يعرف الفرنسية بالضرورة، وبالتالي فإذا لم تترجم كتبهم إلى اللغة العربية فإنها تموت في أرضها أو قل لا تؤدي إلى الفائدة المرجوة منها، فالغرب مليء بالتنوير والإضاءات النقدية لتراثه الأصولي المسيحي وليس في حاجة إلى مفكرينا لتنويره، ومشكلة الأصولية والتعصب الأعمى أصبحت وراءه منذ زمن بعيد بعد أن واجهها فلاسفته بكل حزم وجرأة حتى قضوا عليها أو قلصوها إلى حد كبير، أقول ذلك على الرغم من أن موقفه من الإسلام والعرب في حاجة إلى مراجعة، لأنه عدائي أكثر من اللازم وبشكل مسبق، وكلامي هذا ينطبق بالدرجة الأولى على تيارات اليمين المتطرف في هولندا أو سويسرا أو فرنسا، إلخ، يضاف إلى ذلك أن الحل الغربي لمشكلة الدين تطرف في الاتجاه المعاكس، أي اتجاه الإلحاد المادي الصرف المفرغ من الروحانيات والقيم المثالية العليا، فالقضاء على التعصب شيء إيجابي من دون شك، ولكن ليس القضاء على الدين في المطلق كما فعلت بعض التيارات في الغرب، وهذا ما يقوله المفكر الفرنسي المسلم إريك يونس جوفروا، أستاذ التصوف الإسلامي في الجامعات الفرنسية.

وأخيرا، فسوف أختتم هذه المقالة بالكلام التالي: لا يفهمنّ أحد أن التنوير الذي تدعو إليه هذه الكوكبة اللامعة من المثقفين المغاربة هو ضد الإسلام أو كاره له، كما يزعم أعداؤهم من المتزمتين الجاهلين بالعلم والفكر، على العكس تماما، فجميعهم مسلمون ومعتزون بإسلامهم وأصولهم، ولكنهم يعتقدون وجود فهم آخر للإسلام غير فهم هؤلاء المتطرفين المنغلقين الحاقدين على العالم أجمع، ولذلك فهم يحملون بشدة على الأصوليين وتفسيرهم الرجعي أو الحرفي الجامد للقرآن الكريم، والذي يؤدي إلى تكفير أربعة أخماس المعمورة، بل يؤدي إلى تكفير نصف المسلمين على الأقل، وهم يدعون إلى بلورة فهم جديد للدين الإسلامي، فهم يليق بعصرنا، بالقرن الحادي والعشرين، وهذا هو مدلول كتاب عبد النور بيدار الصادر بالفرنسية تحت عنوان «من أجل إسلام يليق بعصرنا».

ويرى هؤلاء جميعا أن إسلام التنوير تجسّد في التاريخ ثلاث مرات سابقا، وبالتالي فما الذي يمنعه من أن يتجسّد مرة أخرى في المستقبل؟ لقد تجسد مرة أولى في أثناء الفترة العباسية الأولى (أي حتى عهد الواثق وبخاصة في عهد المأمون إبان سيطرة المعتزلة والفلاسفة على الفكر العربي الإسلامي)، وتجسد مرة ثانية أيام البويهيين، حيث انتشرت التعددية الفكرية والعقَديّة على يد الكبار من أمثال مسكويه والتوحيدي وكل جيلهما، وتجسد مرة ثالثة ورائعة أيام الأندلس الزاهرة، أيام قرطبة وغرناطة وإشبيلية، بل وتجسد مرة رابعة إبان عصر النهضة العربية الرائعة والمجهضة التي حصلت في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، بل حتى بداية الموجة الأصولية عام 1970، ولكن كل هذا لم يعد يكفي على الرغم من أهميته، وإنما ينبغي لحركة التنوير العربي الإسلامي التي ستنبثق قريبا أن تحتضنه وتتجاوزه في آن معا، عن طريق هضم المنجزات الحضارية الأساسية للتنوير الأوروبي على مدار القرون الأربعة المنصرمة، ثم عن طريق نقد شططها وتطرفاتها على يد الوضعيين الاختزاليين والإلحاد المادي الذي يفرغ العالم من كل نزعة روحانية أو إنسانية ويحوله إلى جليد أو صقيع رأسمالي مفرغ من الأخلاق والمثل العليا.

وبالتالي، فنحن في انتظار أن يشع علينا إسلام التنوير والتسامح والوسطية العقلانية مرة أخرى وبشكل أقوى وأنضج، ولن يكون نسخة طبق الأصل من تنوير الغرب، وإنما سيجمع بين الروحانيات والماديات، بين أفضل ما أعطته حضارتنا الإسلامية والحضارة الأوروبية، فحضارتنا كانت دائما وسطية لا تتطرف في هذا الاتجاه ولا ذاك، لا إفراط ولا تفريط، وعندئذ لن يعود أحد يسمع باسم «القاعدة» أو «فتح الإسلام» أو الميليشيات الطائفية المنتشرة هنا أو هناك، وإن غدًا لناظره قريب.