الأتراك يعودون إلى الصين من باب السلطان عبد الحميد

«دار العلوم الحميدية» في بكين.. تعود إليها الحياة!

TT

هناك عودة إلى عهد السلطان العثماني عبد الحميد بكل سلبياته وإيجابياته بكل ما كتب وقيل ونقل عنه. وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في مطلع عام 2002 وخلفيته الإسلامية التي تمتد جذورها إلى المؤسس نجم الدين أربكان، صاحب فكرة التكتل الإقليمي الإسلامي، وضرورة الانفتاح على هذا العالم لتعزيز مكانة وموقع تركيا الإقليمي، حمل لدى قيادات العدالة، وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان، قناعة العودة إلى الماضي. عودة على طريق المصارحة والمصالحة ومراجعة صفحات التاريخ التي تلاعب بها الغرب والدول الاستعمارية الكبرى لحماية مصالحها ونفوذها وتغلغلها الدائم. في هذا الإطار تولي حكومة أردوغان مشروع الانفتاح الإقليمي والدولي والاتصال بالأتراك في العالم، أينما كانوا، اهتماما كبيرا، وذلك لتقريبهم إلى المركز والانفتاح عليهم والتعاون معهم ضمن استراتيجية متعددة الأبعاد والجوانب.

هذه الاستراتيجية بدأت تعطي ثمارها في أكثر من مكان. حملة إعادة رسم صورة السلطان عبد الحميد، والتذكير بجوانب سياسته الإيجابية وإنجازاته الكثيرة، تقدمها مؤخرا مشروع الحملة الدبلوماسية التركية نحو الصين التي قادها رئيس الجمهورية التركي عبد الله غل في يونيو (حزيران) المنصرم، أقلقت البعض. وتبعتها على الفور أزمة الأقلية التركية في الصين في مناطق الأيغور الذين أهملتهم تركيا لسنوات طويلة، مما حدا بالمتابعين للاستفسار عما إذا كان توقيت تفجير هذه الأزمة مفتعلا للرد على التحرك التركي أم لا؟ فالأتراك خلال حملة التوجه نحو بكين، أعادوا إلى الأذهان سياسة السلطان عبد الحميد، الذي قرر التحرك نحو هذه البقعة آلاف الكيلومترات بعيدا عن إسطمبول في مطلع القرن التاسع عشر رغم أن الإمبراطورية العثمانية كانت تعيش أحلك أيامها.

بداية التقارب والانفتاح التركي - الصيني كانت في عهد السلطان عبد العزيز عام 1873، الذي دعم تركستان الشرقية المسلمة في حربها مع الحكومة الصينية المركزية غير عابئ بما سيكلفه ذلك من ثمن سياسي باهظ، والإمبراطورية تعيش حالة الرجل المريض كما وصفها الغرب.

لكن الخطوة الاستراتيجية الثانية والأكثر أهمية جاءت من قبل السلطان عبد الحميد الذي أعلن أكثر من مرة التزامه هو الآخر بمشروع الاتحاد الإسلامي الذي مكنه من دخول أكثر من منطقة في العالم، وكانت بكين هدفه هذه المرة رغم بعد المسافات والسياسات.

فهو كلف عام 1901 أحد أهم أعوانه، أنور باشا، بترؤس هيئة رفيعة المستوى لزيارة الصين للالتقاء بقياداتها أولا والتعرف على أحوال المسلمين واحتياجاتهم هناك. وكان له ما أراد عندما عاد رئيس الوفد بعد رحلته التي استغرقت عدة أشهر وأقلقت البعثات الدبلوماسية الغربية العاملة في الصين، فتسابقت على الرصد والتتبع وكتابة التقارير السرية حول أبعاد هذا التحرك التركي الأخير، مخافة أن يكون له بعد عسكري استراتيجي يقوي الإمبراطورية ويوسع رقعة علاقاتها.

وعلم أنور باشا أن هيئة رفيعة من رجال الدين المسلمين في الصين تريد أن تزور إسطمبول للتقدم بطلباتها واحتياجاتها هناك، وكان في مقدمتها إنشاء كلية للعلوم الدينية في كاشفار تجمع الأقلية المسلمة في الصين وتوحدها. وكان لها ما أرادت عندما قرر عبد الحميد تمويل بناء جامعة إسلامية أطلق عليها اسم المدرسة الحميدية، وتم الانتهاء من بنائها عام 1908 في أواخر أيام حكمه. وضمت المدرسة مكتبة جمعت مئات الكتب الدينية في الحديث والتفسير والشريعة التي حملها إلى هناك كبار العلماء وأساتذة العلوم الدينية الذين خدموا لسنوات طويلة في المكان.

الكثير من المتابعين يعتبرون أن مشروع السلطان عبد الحميد هذا أسهم في توحيد الأقلية المسلمة في الصين، وتحديدا الأقلية التركية التي كانت تتطلع دائما إلى الأستانة لتقف إلى جانبها وتدعمها.

فبعد هذه الخطوة ارتفع عدد المساجد المنتشرة في الصين وزاد الإقبال على تلقي العلوم الدينية، وتوسعت رقعة الاتصالات بين مسلمي الصين وبقية دول العالم الإسلامي وشعوبه. أحد الدبلوماسيين الفرنسيين، كما نقل المؤرخ التركي المعروف مصطفى أرمان، كتب إلى حكومة بلاده في باريس يبدي حيرته واستغرابه من التحرك التركي هذا الذي يتم رغم بعد المسافات ووضع الإمبراطورية المتراجع. فها هو العلم العثماني يرفرف أمام هذا الصرح، وها هم المسلمون في الصين يتوحدون خلف هذا البناء الذي وحد كلمتهم في فترة قصيرة جدا.

المدرسة الحميدية في بكين بصمة السلطان عبد الحميد، يعاد ترميمها وتفعيلها هذه الأيام. فهذا البناء الذي فقد الكثير من نقوشه ومعماره وتفاصيله الهندسية، نجح في حماية نفسه لعشرات السنين، وهو يمثل اليوم الطراز المعماري العثماني الذي ظل شاهدا على إنجاز بسيط من هذا النوع قاده عبد الحميد رغم إعلان الكتاب الغربيين قبل الشرقيين الإمبراطورية رجلا مريضا.

أتراك عام 2002 الذين قصدوا بكين لترميم تاريخهم هناك، وإعلان استعدادهم للتعاون مع الحكومة الصينية، يصرون على إعادة الحياة إلى التراث والتاريخ ليكون درسا في دبلوماسيات اليوم المعولمة. فهل يكون لهم ما أرادوه رغم الكثير من الغاضبين والناقمين والحسودين الذين يطاردونهم من مكان إلى آخر؟