من «اعرف عدوّك».. إلى البحث الاستشراقي

تولي الأكاديمية الإسرائيلية الأدب الفلسطيني اهتماماً متزايداً قد يفوق اهتمام بعض الجامعات العربية * الرؤية الاستشراقية التقليدية طاغية في بعض الجامعات خاصة الجامعة العبرية في القدس

TT

* بدأ تدريس الأدب الفلسطيني للمرة الاولى في جامعة تل أبيب عام 1978. وتحظى دراسة الأدب الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية باهتمام خاص قد لا يوازيه اهتمام في أية جامعة أوروبية أو اميركية، وقد يربو على اهتمام بعض الجامعات في العالم العربي.

ويمكن أن نعزو ذلك إلى عدة عوامل، فبالإضافة الى العامل التقليدي «اعرف عدوّك» ثمة رؤية أخرى تعتبر الأدب الفلسطيني جزءًا لا مجال لتجاهله في مجمل الإبداع الأدبي باللغة العربية. لذا يرى العديد من الباحثين في الجامعات الإسرائيلية أن دراسة الأدب العربي لا يمكن أن تكون موضوعية إذا لم تأخذ بالحسبان هذا الجزء الهام منه وهو الأدب الفلسطيني الذي بدأ يشكّل مدماكًا رئيسًا في بناء الأدب العربي.

ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن هؤلاء الباحثين يتحرون الموضوعية في دراساتهم، بحيث تبدو هاجسًا أساسيًا في الأكاديميا الإسرائيلية. ولنا أن نذكر هذه الحقيقة على ضوء الدراسات التاريخية الحديثة التي بدأت تتبناها بعض الأوساط الأكاديمية لدراسة التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي بأدوات جديدة. ولعل من أهم هؤلاء الدارسين هو الدكتور ايلان بابي المحاضر في جامعة حيفا. وتأتي دراساته ودراسات غيره من المؤرخين الجدد لتشكك في عدة مقولات إسرائيلية تمثّل الرؤية الصهيوينة التقليدية في التعامل مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي منذ بداية القرن العشرين. وتحتل النصوص الأدبية الفلسطينية مكانًا بارزًا في هذه الدراسات الحديثة، سواء ما نشر في الصحافة الفلسطينية أو ما صدر في كتب، وذلك لتأكيد هذه الرؤية الجديدة التي تقرأ النزاع العربي ـ الإسرائيلي قراءة جديدة ومغايرة تتقرب في بعض الأحيان من كتابة التاريخ بأيدي مؤرخين عرب سبق أن رفضت كتاباتهم وقراءاتهم.

هذا التوجه الجديد لا ينفي سيطرة الرؤية الاستشراقية التقليدية على الأكاديمية الإسرائيلية، وخاصة في بعض الجامعات، كالجامعة العبرية في القدس، وينعكس ذلك من خلال التركيز على الدراسات الكلاسيكية كدراسة الأدب العربي القديم أو الدراسات الإسلامية. وفي مقابل ذلك ينزوي الأدب العربي الحديث في هامش الحياة الأكاديمية، ومن ضمنه الأدب الفلسطيني، الذي يعتبر بالطبع أدبًا حديثًا.

إن الدراسة الاستشراقية للأدب العربي الحديث تتعامل مع هذا الأدب من منطلق اجتماعي سياسي وترى فيه شهادة تاريخية لتأكيد أو دحض بعض المقولات السياسية والاجتماعية. وهذا ما يميز مثلاً دراسات أستاذي الأدب العربي الحديث في الجامعة العبرية: البروفسور مناحم ميسون والبروفسور شموئيل موريه. والجدير بالذكر أن الاول أشغل عدة مناصب عسكرية ومدنية خلال احتلال الضفة الغربية وغزة، ورغم تعامله مع الفلسطينيين لم يكتب عن الأدب الفلسطيني وتركز جل اهتمامه في الأدب المصري. أما البروفسور شموئيل موريه، وهو من أصل عراقي، فله عدة دراسات حول الأدب الفلسطيني بتفرعاته المختلفة، سواء ما كتب قبل عام 1948 أو ما كتب داخل إسرائيل. ويذهب هذا الباحث إلى الربط بين التطورات السياسية وتطور الأدب الفلسطيني، بحيث يبدو هذا الربط في معظم الأحيان ربطًا سياسيًا قسريًا. كما أنه يذهب الى ترديد المقولة الصهيونية التقليدية حول عدم وجود أدب فلسطيني قبل عام 1948 وأن الأدب الفلسطيني خطا خطوات كبيرة الى الأمام في ظل دولة اسرائيل. هذه الرؤية تجد لها الكثير من المعارضين، ومع ذلك يروّج لها هذا الباحث من خلال مساقاته التي يمررها للطلاب العرب واليهود في الجامعة العبرية في قسم الدراسات الشرق أوسطية. واللافت للنظر أنه على الرغم من هذا الاهتمام فليست هناك مساقات في دليل الجامعة تحمل اسم الأدب الفلسطيني بصورة مباشرة، بل يندرج هذا الأدب ضمن مساقات عامة حول الأدب العربي الحديث.

ويحاول موريه، كذلك، في عدة كتابات له أن يبرز الدور الذي لعبه المهاجرون االيهود القادمون من العراق في بعث الثقافة العربية داخل إسرائيل في بداية الخمسينيات. وهذه الحقيقة ليست عارية عن الصحة، لكنها تكتسب في كتاباته بعدًا مبالغًا فيه. ويبدو أن ما يدفعه الى ذلك هو رؤية آيديولوجية ـ سياسية تبتعد في بعض الأحيان عن الأمانة العلمية.

ولكن لا بدّ من تأكيد فضل كبير لهذا الباحث في مجال الأدب الفلسطيني، وخاصة الأدب الفلسطيني في الداخل، وهو نشر مسح ببليوغرافي دقيق حول المنشورات الأدبية، سواء ما نشر في الصحف أو ما صدر في كتب منذ عام 1948. ولا يمكن لأي باحث لهذا الأدب أن يستغني عن هذه القوائم الببليوغرافية. كما أنه قام بالاشتراك مع الدكتور محمود عباسي بإصدار كتاب «تراجم وآثار في الأدب العربي في إسرائيل 1948 ـ 1986». وهذا الكتاب يعتبر مصدرًا أساسيًا للدخول الى أية دراسة حول الأدب الفلسطيني في الداخل.

والدكتور محمود عباسي هو أحد الناشطين في الكتابة الأدبية والنظرية وصاحب دار نشر «المشرق» في شفاعمرو، وكان له دور هام في دعم الكتابة سواء عن طريق دار النشر أو بنشر إبداعاتهم في مجلة «الشرق» التي بدأ بإصدارها منذ بداية السبعينيات. وفي مجال الدراسات يعكس الدكتور عباسي رؤية شموئيل موريه، وخاصة في أطروحة الدكتوراة التي قدّمها للجامعة العبرية بإشراف موريه عن القصة الفلسطينية في إسرائيل منذ 1948 ـ 1976. ويظهر بوضوح تأثير أستاذه عليه في تبني بعض المفاهيم السياسية للتعامل مع الأدب من الناحية المضمونية.

في جامعة تل أبيب يبدو تطور الأمور مختلفًا تمامًا، ولعلّ ذلك يعود الى اهتمام بعض أقسام هذه الجامعة بالدراسات الأسلوبية واللغوية وتبنيها لبعض المدارس الشكلانية والبنيوية في التعامل مع الأدب. إن أول من درّس الأدب الفلسطيني في جامعة تل أبيب هو البروفسور متتياهو بيلد، وذلك منذ عام 1978. وكانت هذه خطوة جريئة وسابقة تُسجّل لصالحه. وقد ضمّت المساقات التي قدّمها في تلك السنوات طلابًا للدراسات العليا من العرب واليهود الذين أصبحوا أساتذة في الجامعات ومعاهد التعليم العالي في ما بعد. ولعله من الجدير بالذكر أن البروفسور بيلد كان شخصية متعددة الميول والاتجاهات، فقد كان ذا ميول يسارية ومثّل كتلة يسارية في الكنيست الإسرائيلي، يضاف الى ذلك رصيد عسكري أوصله الى رتبة جنرال في الجيش الإسرائيلي. ولعلّ هذا الرصيد العسكري شجّعه على إدخال هذا المساق في جامعة تل أبيب، ولم يتوان في الدفاع عن رؤيته تلك لدراسته الأدب الفلسطيني.

وأثمرت جهود بيلد عن إصدار عدة مقالات بالعبرية والانجليزية عن كتّاب فلسطينيين أمثال سحر خليفة وسلمان ناطور وغسان كنفاني وغيرهم. أما أهم دراساته في هذا المجال فقد صدرت في كتاب باسم «دراسات في الأدب العربي» في باريس. وضمن هذا الكتاب دراسة عن الأدب الفلسطيني الحديث منذ بداية القرن العشرين وحتى عام 1948.

كانت خطوة بيلد فاتحة طريق لدراسة الأدب الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية بصورة مغايرة، وهي دراسات تختلف في رؤيتها ومنطقها عن الدراسات الاستشراقية التقليدية التي عرفتها أقسام الدراسات الشرق أوسطية في الجامعات الإسرائيلية من قبل. وكان بيلد، بالإضافة الى اهتمامه بدراسة الأدب الفلسطيني، مترجمًا للعديد من النصوص الفلسطينية من العربية الى العبرية.

أما أهم باحث في تقديري للأدب الفلسطيني فهو بلا شك البروفسور ساسون سوميخ، أستاذ كرسي الأدب في جامعة تل أبيب. وسوميخ من أصل عراقي جاء الى الجامعة من الحياة الأدبية. فقد كان في شبابه من النشيطين في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد كتب في مجلات الحزب وعرف العديد من جامعباء الفلسطينيين عن كثب وأقام علاقات ودية مع هؤلاء الأدباء، أمثال راشد حسين وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وإميل حبيبي وحنا أبو حنا وغيرهم الكثير.

ودراسات سوميخ الأكاديمية انطلقت من وجهة نظر فنية، حيث انشغل بقضية اللغة في الأدب. وتكتسب دراسات سوميخ أهمية خاصة لأنها لم تبق محصورة في أروقة الجامعة، بل له العديد من المقالات والدراسات التي نشرت في الصحافة الإسرائيلية: العربية والعبرية. يضاف إلى ذلك رصيد كبير من الترجمات الى العبرية لأدباء فلسطينيين، مثل غسان كنفاني، راشد حسين، إميل حبيبي، محمود درويش، ميشيل حداد، سهام داوود وغيرهم.

والبروفسور سوميخ، صاحب مدرسة في الأكاديميا الإسرائيلية، وقد تخرّج على يديه العديد من الطلاب الذين انتشروا في عدة جامعات داخل إسرائيل وخارجها. وكاتب هذا المقال أحد تلامذته الذين اهتموا اهتمامًا خاصًا بالأدب الفلسطيني، وقد أصدر كتابًا عن الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وكتابًا آخر عن إميل حبيبي، وكتابًا ثالثًا باسم «المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في اسرائيل».

ولا بدّ أن نذكر للبروفسور سوميخ جديته وموضوعيته في دراسة الأدب الفلسطيني، وكذلك معالجته لموضوعه عن حبّ للأدب العربي لا من منطلق التعالي على هذا الأدب أو التعامل معه كشهادة سياسية ـ اجتماعية فحسب، وتحتل جامعة تل أبيب اليوم مكان الصدارة في دراسته هذا الأدب، وإذ يدرّس فيها أساتذة عرب يفردون حصة لا يستهان بها لدراسة الأدب الفلسطيني. وفي كل سنة لا يخلو المنهج الدراسي من مساق أو عدة مساقات لدراسة هذا الأدب.

في جامعة حيفا، ومنذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات برز أحد الأساتذة، ايضا من أصل عراقي، هو البروفسور شمعون بلاص. وبلاص كذلك جاء الى الجامعة من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكتب في صحافة الحزب منذ الخمسينيات. وهو قاص يكتب بالعبرية بالإضافة الى عمله الأكاديمي. ولعلّ كتابه «قصص فلسطينية» من الكتب الأولى التي ترجمت قصصًا فلسطينية لكل من حنا ابراهيم وتوفيق فيّاض وغيرهما الى العبرية. وشمعون بلاص هو خريج جامعة السوربون، وقد قدّم أطروحة الدكتوراة حول موضوع «الأدب العربي في ظل الحرب» في بداية السبعينيات. وصدرت الأطروحة في كتاب بالفرنسية والعبرية والعربية. ويحتوي الكتاب فصولاً كاملة حول الأدب الفلسطيني مع محاولة ربط هذا الأدب بالأحداث السياسية التي مرت بالعالم العربي وفلسطين منذ بداية القرن وحتى بداية السبعينيات.

إن هذا الكتاب، الذي أصبح كتابًا قديمًا نوعًا ما، بشّر باهتمام خاص في دراسة الأدب الفلسطيني، وإن كان المنهج الذي اختطه لنفسه هذا الباحث لا يختلف عن المنهج الاستشراقي الذي يحفل بالمضامين وينظر في كثير من الأحيان الى الأدب العربي عامة، والى الأدب الفلسطيني خاصة، كأدب تحريفي يحمل شعارات سياسية مباشرة.

لقد نشر البروفسور بلاص دراساته في بعض دور النشر العربية كمنشورات المجلس في ألمانيا واكتسب سمعة طيبة في أوساط المثقفين العرب الذين اهتموا بآرائه السياسية المؤيدة للسلام ورفض العسكرة الإسرائيلية.

في جامعة حيفا اليوم جيل جديد من الباحثين العرب واليهود، أمثال الدكتور رؤوبين سنير والدكتور ابراهيم طه. وهؤلاء الباحثون يولون الأدب الفلسطيني عناية خاصة، وقد أصدروا العديد من الدراسات الأكاديمية التي تبحث هذا الأدب، سواء من الناحية العضوية أو الناحية الشكلية. كما أنهم يدفعون طلابهم الى كتابة أبحاث الدكتوراة والماجستير حول هذا الأدب.

ويبدو في هذه الأيام أن الأكاديميا الإسرائيلية تبدي اهتمامًا متزايدًا للتعرف على جوانب أخرى خفية في الأدب الفلسطيني. ورغم العداء الذي يبديه الكثير من القراء للأدب الفلسطيني، فالجامعات الإسرائيلية تتعامل مع الأدب الفلسطيني باحترام وتفرد له المساقات التي تزدحم بالطلاب، الى جانب أبحاث كثيرة كشفت خفايا هذا الأدب الذي ينتشر في مختلف أصقاع العالم.

ولكن هل لنا أن نقول شيئًا لا يبعث على التفاؤل، وهو ذلك الانفصام بين الأكاديميا والجمهور العادي؟

هذا الانفصام يدفعنا الى التشكيك في قدرة هذه الاكاديميا على تفتيت الأفكار المسبقة وتسخين البرود، إن لم نقل الكراهية التي يبديها القارئ العادي لكل ما هو فلسطيني.

* باحث فلسطيني يقيم في مدينة باقة الغربية في المثلث، استاذ الأدب العربي في جامعة تل أبيب