الفرنسيون يدخلون عصر «الإصغاء إلى الأدب»

إلقاء النصوص في الأماكن العامة.. فن جديد أم ظاهرة ثقافية عابرة؟

TT

ظاهرة جديدة تجتاح فرنسا، قد تبدو للبعض في العالم العربي غريبة، لكنها في أوروبا لم تعد كذلك. لقد أصبح اجتماع الجماهير لسماع قراءات أدبية من فم ممثل أو مؤدّ، متعة تستحق عناء التنقل من أجلها، وإعطاءها الوقت والانتباه وربما دفع ثمن البطاقة أيضا. المسارح استبدلت بعروضها القراءات، وفتحت لأجل الأدب الصالونات والقاعات الكبرى. الشركات التجارية باتت هي الأخرى تنظم قراءات لموظفيها وعمالها؛ لتهدئة خواطرهم وإراحة أعصابهم. كيف تحول المجتمع الفرنسي من القراءة إلى الاستماع؟ هذا ما يحاول أن يجيب عنه التقرير.

* فابريس لوكيني، فرانسيس هوبير وسامي فري، أسماء لامعة في سماء التمثيل السينمائي والمسرحي في فرنسا، فقد اعتاد الجمهور مشاهدتهم على الشاشة الكبيرة وخشبات المسرح. لكن ما تغير في السنوات الأخيرة، هو أن الجمهور بات يذهب للمسرح لمشاهدتهم وهم يقرأون نصوصا أدبية. هكذا، عرض لا يحتاج لديكور أو سيناريو أو فريق فني، وقوامه كاريزما الممثل/ القارئ، الذي يقف بمفرده على منصة فارغة ضعيفة الإنارة، وبيده نصوص مختارة لكتاب وشعراء، يلقيها على مسامع الجمهور. لقاء نجوم الفن السابع بالأدب، غالبا ما يبدأ بقصة شخصية كتعلق الممثل نفسه بنص جميل أو إعجابه بالمشوار الأدبي لكاتب ما.

* دوافع شخصية تغذي الظاهرة

* فابريس لوكيني الحائز على جائزة «سيزار» عام 1994، هو ممثل فرنسي معروف شارك في أعمال سينمائية ومسرحية، نالت شهرة واسعة كـ«رجال ونساء طريقة التحضير» لكلود لولوش 1996، و«الأحدب» لفليب دو بروكا 1997، و«كل هذا... لهذا..» لسيدريك كلابيش 1992. لوكيني الذي يعشق الأدب الكلاسيكي، يقدم باستمرار قراءات لنصوص أدبية وبخاصة مؤلفات الكاتب العبقري المثير للجدل لوي فرديناند سيلين التي اكتشفها وتعلق بها منذ سنوات المراهقة. الممثل اعترف في أكثر من مناسبة أن إعجابه الشديد برواية سيلين المشهورة «رحلة في أغوار الليل» 1932، هو ما دفعه ليقف، لأول مرة، على خشبة المسرح سنة 1986 لا ليمثلها، بل ليقرأ بعض مقتطفاتها على الحاضرين، ويجعلهم يكتشفون مثله سحر الكلمات التي أحبها هو، منذ عشرين سنة مضت. هذا الممثل، إن كان الضجر يطاله بسرعة إذا طال تصوير فيلم، فهو لا يمل هذه القراءات التي يؤديها منذ سنوات بالحماس نفسه، أحيانا من دون مقابل؛ لأنه من عشاق الأدب الجميل.

يقول فابريس لوكيني: «أؤمن بأن هناك بعض النصوص، كُتِبت لكي تُقرَأ بصوت عال، نصوص سيلين واحدة منها، فأسلوبه قائم على لغة جديدة هي مزج بين الشعبي والراقي. والكلمات الرائعة تكتسي كل جمالها حين تقرأ على الملأ».

التعلق بالنص والإحساس بالمؤلف هو أيضا ما دفع الممثل سامي فري، الفتى الأول للسينما الفرنسية في الستينات والسبعينات، المعروف بدوره في أفلام مثل (سيزار وروزالي) إلى جانب إيف مونتان ورومي شنايدر 1972 و(رصاصة في القلب) 1965 للمخرج جان بولي، إلى تقديم قراءات لنصوص صموئيل بيكيت الكاتب والشاعر صاحب جائزة نوبل للآداب. هذا الممثل الفرنسي الذي يقدم حاليا قراءات لمقتطفات من رواية بيكيت «الحب الأول» على مسرح «لا توليي» إلقاء وإخراجا، لا يخفي إعجابه الشديد بأسلوب الكاتب الأيرلندي. فجمال اللغة - حسب رأيه - «بلغت درجة أصبح فيها ممكنا الاستغناء عن كل ما تعود عليه الجمهور في العروض التقليدية من سيناريو وديكور»، مضيفا أنه «حين يقرأ لبيكيت يحس أنه قريب منه وكأنه قد غاص في أعماق الكاتب نفسه». وكانت أهم النقاط الإيجابية التي أشاد بها النقاد ما لاحظوه من تشابه بين روح الكاتب وشخصية الممثل. والمعروف أن سامي فري قد عاش المأساة نفسها التي عاشها صموئيل بيكيت حين فقد والديه في أحداث المحرقة اليهودية، كما أن الاثنين عانيا طويلا أزمة اكتئاب شديدة، وهما من هواة الأسفار الكثيرة.

وإن كان الممثلون الذين يأخذون مبادرة القراءة حبا في النص الجميل ليسوا كثرا، فإن عروض الإلقاء باتت تأخذ حصة الأسد من برامج الكثير من المسارح ولا سيما الخاصة منها. فأصحاب هذه المؤسسات يجدون في برمجة مثل هذه العروض الحل المثالي للخروج من مشاكلهم المالية باعتبارها غير مكلفة، وفي المقابل مضمونة الدخل. هذه وضعية فرضت نفسها كنتيجة مباشرة للأزمة الكبيرة التي يعانيها القطاع المسرحي الفرنسي في العقد الأخير.

* برمجات مكثفة ووجهات نظر

* فمسرح (لو فيو كولومبيي) التابع للمؤسسة العريقة (كوميدي فرانسيز) يبرمج عروضا أسبوعية منتظمة تدوم خمسا وأربعين دقيقة في كبرى قاعاته وأجملها وهي قاعة «ريشوليو» بعنوان «قراءات ممثلين». المبدأ يقوم على لقاء ثلاثي بين الممثل والنص والمؤلف، حيث يعقب إلقاء الممثلين ندوة صغيرة بحضور الكاتب وبإدارة صحافي متخصص في النقد الأدبي.

النصوص تختارها لجنة خاصة تعرف باسم «مكتب القراءات»، وهي تضم مجموعة من الكتّاب والصحافيين والناشرين الذين يختارون النصوص، حسب مقاييس معينة، أهمها جودة النص وتميزه. وهي لا تختار نصوصا للكتاب الكلاسيكيين أو المعروفين فقط، بل أيضا للشباب المتميز. فقد اقترحت اللجنة مؤخرا - مثلا - قراءة في رواية للكاتبة الجزائرية الأصل نينا بوراوي «ادعوني باسمي» بصوت الممثلة كلوتيلد دو بيزار.

في مسارح أخرى، كمسرح «لوروبوان» مثلا، الذي يقع في جادة الشانزليزيه، تشكل القراءات ثلث العروض المبرمجة. لجنة القراءات التابعة لهذا المسرح، تؤكد أنها تبرمج نصوص كتاب مغمورين أيضا وهي تستقبل ما يعادل 1200 مؤلف في كل موسم مسرحي. لكن عروض الإلقاء لا تنظم في قاعات العرض والمسارح فقط، بل نجدها أيضا في المقاهي، المتاحف، المعارض والمكتبات، برعاية جمعيات ثقافية تقوم بوصل نصوص كتّاب أحياء بأصوات ممثلين في لقاءات أدبية. جمعية «تكست إيه فوا» (نص وصوت) تعمل منذ تاريخ إنشائها عام 1999 على دعوة ممثلين من المسرح والتلفزيون والسينما إلى الإسهام بقراءات مختارة في إطار أمسيات تضم عددا محدودا من محبي الأدب. نشاط هذه الجمعية الثقافية يلاقي إقبالا كبيرا، بفضل جهود رئيستها نادين أنجلز التي عملت لوقت طويل كمسؤولة لقسم العلاقات العامة في «مسرح نانتير» وتملك الكثير من المعارف في الوسط الفني. فالجمعية تضم إلى الآن أكثر من 1500 عضو، وقد اتسعت رقعة نشاطها إلى خارج حدود فرنسا (بلجيكا، سويسرا، كندا، المغرب). نشاط هذه الجمعية يختلف عن نشاط المسارح من حيث جانبها الحميمي. وهي تقوم على مبدأ الصالونات الأدبية، فعدد الحاضرين محدود لا يتعدى الثلاثين، جزء منهم من معارف الكاتب أو الممثل، وغالبا ما تنظم هذه الأمسيات في شقق أو في مقاه وتنتهي بحفلة عشاء.

تقول نادين أنجلز: «بعض الكتّاب يفضلون قراءة نصوصهم بأصواتهم لكنني أرفض ذلك في أغلب الأحيان، فقد يكون إلقاؤهم ضعيفا أو جيدا، لكن الكيمياء تبقى بين الكاتب ونصه فقط، من دون أن يصل شيء منها إلى الجمهور، بينما يكتسي النص كل سحره بفضل موهبة الممثل، فعمله هو قراءة نصوص الآخرين للجمهور، ولهذا السبب هو موجود...».

أكبر التحديات - حسب شهادة رئيسة الجمعية - هي إيجاد النص المناسب للصوت المناسب. وهو عمل قد يكون مركبا تدخل فيه مقاييس نفسية، فنية وأدبية، فلا يعقل مثلا إيصال نص يصور العنف والقسوة بصوت ممثلة رقيقة ذات صوت ناعم، ولا نص يعبر عن الحماسة والحيوية بصوت ممثل مخضرم، له نبرات ضعيفة. الخطوة الثانية تتمثل في إقناع الكاتب بأن الشخصية التي ستدخل عالمه الأدبي لن تؤثر فيه سلبا. ولهذا، فإن عمليات البحث قد تستغرق شهورا بل سنين. فعملية تأليف الثنائي بيار ميشون (الكاتب) وأندريه مركون (الممثل) أخذت مثلا سنتين من وقت الجمعية.

«له ليفرور» أو «الكتابيون» هي جمعية أخرى، تهتم بالتعريف بهذا النشاط الثقافي الجديد الذي تسميه «القراءة الصوتية»، ولكن خلافا لجمعية «نص وصوت» هي ترفض الاعتماد على أصوات الممثلين بل تعتبره خطأ فادحا. يقول رئيس الجمعية برنار أنجل: «القارئ العام لا يمثل دورا، وعليه الاختفاء قدر المستطاع. فالنص الجميل لا يحتاج لصوت ممثل ولا لأي عمليات تجميل، بينما قد يكون لظهور الممثل على الخشبة، تأثير سلبي على انتباه المتفرج، ويُفقد النّص كل روحه». الفريق الذي يعارض إلقاء المشاهير نصوصا أدبية، يرى أن القراءة الصوتية تتعدى حدود النشاط الثقافي لتؤدي وظيفة سوسيولوجية. فهي تجمع أشخاصا مختلفين في أمكنة واحدة حول هواية القراءة، وليس من حق أحد احتكار هذا النشاط تحت أي مسمى . بعضهم يذهب إلى حد إسداء النصائح التي يراها أساسية لإنجاح عروض القراءات العامة. الكاتب فرانسوا بون يشرح في موقعه «لو تيير ليفر» (ثلث الكتاب) هذه الخطوات للقارئين الهواة فيقول مثلا: «إن القراءة الجيدة تستوجب تمرينات كثيرة، تشبه تلك التي يقوم بها مغنو الأوبرا للتحكم في التنفس ومخارج الكلمات ولتدريب الصوت وصولا إلى نصائح حول اختيار القاعة والإضاءة والميكرفون، الأفضل لهذه المناسبات». ورغم اختلافاتهم فإن أعضاء هذه الجمعيات يتفقون كلهم على الأهمية التي أصبح يكتسبها نشاطهم. يقول برنار أنجل: «قبل عشر سنوات، لا أحد كان يقدر عملنا، اليوم نتلقى طلبات لقراءات صوتية من كل الجهات، ابتداء من المدارس التي ترى في هذا النشاط وسيلة فعالة لتحبيب الأطفال في القراءة وصولا إلى السجون والمصانع التي تؤمن أن الاستماع لنصوص أدبية قد يضفي على هذه الأماكن نوعا من السكينة والهدوء، ويقلل من حدوث الإضرابات وحركات الاحتجاج، مرورا بالشركات الكبيرة كـ«توتال» و«غاز دو فرانس»، التي لجأت لخدمات قراء عموميين عدة مرات.

* نجاح شعبي كبير يفتح الأبواب

* وإذا كانت مثل هذه التظاهرات الثقافية، تلقى نجاحا مثل هذا، فهذا راجع لالتزامها ببعض الثوابت، أهمها اختيار المؤلفات التي تصنع الحدث في المشهد الأدبي والنصوص الجميلة التي تشد الانتباه، مع تجنب التعليقات الطويلة والتركيز على الاستماع للنص، وأخيرا الاكتفاء بمقاطع فقط من الرواية أو الديوان الشعري. فالأهم هو فتح الكتاب أمام الآخرين وإغراؤهم بالعودة إليه وليس إغلاقه.

النجاح الشعبي لهذه الظاهرة لم يتأكد إلا منذ سنوات قليلة، رغم أن القراءة على خشبة، أو القراءة العامة أو الصوتية قد وجدت منذ القرن الثامن عشر في كنائس باريس وفي معامل السيجار بهافانا، حيث وصل شغف العمال بنصوص «ألكسندر دوما»، التي تقرأ عليهم في أوقات الراحة لدرجة إطلاقهم اسم «مونتي كريستو» على أجود أنواع السيجار. وبين من يعتبر أن القراءة العامة قد ترتقي إلى منزلة فن جديد، ومن يعتبرها ظاهرة عابرة يروج لها أصحاب المسارح الخاصة، ليقوا أنفسهم شر الإفلاس. لا يزال الجدل قائما، لكن المستفيد أولا وأخيرا هو الأدب.