أميمة الخميس: السرد أرض نسوية

قالت في حوار مع «الشرق الأوسط»: الرواية التي يعلو فيها البوح والضجيج الآيديولوجي تترهل فنيا

أميمة الخميس
TT

بدأت الأديبة والروائية السعودية أميمة الخميس تجربتها الكتابية انطلاقا من القصة القصيرة وصولا إلى كتابة روايات رشح بعضها (الوارفة) لجائزة البوكر العربية. ومن أعمالها الأخرى:

«والضلع حين استوى»، و«مجلس الرجال الكبير»، و«أين يذهب هذا الضوء» ورواية «الحريات» فضلا عن كتابتها للأطفال عدة أعمال: «وسمية» و«حكاية قطرة» وسلسلة «حديقة الطلح» وغيرها. وتُرجم عدد من أعمالها إلى اللغة الإنجليزية والإيطالية، مثل مجموعة «الترياق». وبالإضافة إلى ذلك، هي كاتبة مقال، وعضو ناشطة في اللجنة النسائية في وكالة الثقافة الرسمية. وفي ما يلي نص الحوار الذي أجرته معها «الشرق الأوسط» في الرياض:

* هل تجاوزت الرواية النسوية السعودية ما يمكن أن يصطلح عليه بـ«منطقة البوح النسائي» إلى فضاء أوسع؟

- الفن الروائي لا يتحرك في مساحة البوح فقط، وإلا فقد الكثير من خصائصه الجمالية ومميزاته الفنية. الفضول البشري لدى القارئ يجعله أحيانا يتلصص بحثا عن الملامح الشخصية أو يسترق النظر إلى السيرة الذاتية بين صفحات الرواية التي كتبتها امرأة، وبالتالي يبخس الكثير من جهد الكاتب وحرفته وصناعته القائمة على نقش فسيفسائي دقيق وحذر لا يقوم فقط على البوح ولكنه بشكل أو بآخر يتقصى أحوال المتواري خلف سمت الواجهات الاجتماعية الوقور، ويعيد تشكيله داخل مناخه الإبداعي.

* من أين تستلهم الأديبة مادتها الروائية؟

- تستلهم الروائية مادتها من محيطها كمادة خام فقط، وتشتبك مع الواجهة المحافظة وتاريخية اللحظة وتعجنها بالرؤى والأفكار ونكهة الفلسفة، لذا لا نستطيع أن نحدد أماكن عالية الحساسية على مستوى البوح، ولا حتى أن نقول إن معابثة ثلاثي «التابو» المعهود هو الذي يخلق الحساسية، بل لعل فعل الكتابة بذاته لدى المرأة هو تحريك عضلة ضامرة تخطو بها إلى حيز خاص غير مطروق في أرض الكلام.

ومن هنا باتت كتابة النساء أمرا مستفزا لمألوف تراتبية سلطة الوعي وتوزيع أدوار السلطة داخل الهرم المعرفي. تعليم النساء اختلس شعلة «بروميثيوس» وسرّبها للمرأة لتستطيع أن تجير نيرانها لإعادة الخلق ومعابثة النمطي. وفي النهاية نجد أن الرواية التي يعلو فيها البوح والفضح والاحتجاج والضجيج الآيديولوجي على الغالب نجدها مترهلة فنيا.

* في رأيك ما أكثر القضايا الثقافية إلحاحا عند «العنصر النسائي»، أو في ما يسمى «أدب المرأة»؟

- في الحقيقة لا أفهم تصنيف البعض للأدب، ومعه لا أفهم ما يعنون بالعنصر النسائي! هل هو عنصر فلزي أم لا فلزي؟ وهل هذا العنصر يمتلك إلكترونات نشطة أم خاملة؟ وهل مكونات هذا العنصر موجودة على كوكبنا أم أنها تقع في أقرب مجرة مجاورة لدرب التبانة؟

أشعر بأن هذا المصطلح يتضمن حمولة تاريخية متورطة بلعبة المركز والأطراف، أي عندما يكون نتاج المرأة فرعا من أصل كبير مستتب وقوي. القضايا الثقافية تشترك بها المثقفة والمثقف على أرضية إنسانية، وإن كانت المرأة الكاتبة أحيانا تتورط في التفاصيل اللحظوية دون التعبير عن التجربة الوجودية بشكلها الأشمل، لكن هذا الأمر لا ينفي أنها باتت قادرة على مخاتلة اللعبة الفنية والترصد بشخوصها بشكل ذكي ومرتفع الحساسية.

* قبل الرواية، نشطت الأديبات السعوديات في كتابة القصة القصيرة. كيف تنظرين لهذه التجربة؟

- القصة القصيرة ليست كرسي اعتراف، بل هي من أعقد الصيغ الفنية وأشدها تركيبا. قد تزدحم أحيانا بالشعر وأحيانا تتورط بلغة الوجدانيات الذاتية، ولكن هناك تجارب متميزة مخلصة للمغامرة الفنية في القصة عموما. عموما السرد أرض أنثوية، فالعمل الإبداعي بحاجة إلى تلك الروح المخلصة المتبتلة، والحدب الذي لا يكون إلا لأنثى تعي تماما قدسية فعل الخلق والتخلق، حيث لا مجال للتأخير والتلكؤ أو المساومة بجانب مهد صغير جائع، العناية الفائقة بالتفاصيل والمقادير المقدسة، جلال الوقت وتنضيد شؤون الكون في أماكنها، لأنها وحدها التي ستحفظ قافلة المسيرة الإنسانية بتمام سلامتها. السرد أرض نسوية لأن المرأة تنصت إلى ما وراء الما وراء، حيث نبض الكون وصيرورته، وتعي وجوه الحياة المتغيرة المتبدلة توافقا مع منازل القمر ومدارات الأبراج، وتبدل أطوار الصغار بين الطفولة واليفاعة والصبا، وصولا إلى ألوان الحقول المهرولة خلف الفصول.

لا شيء يتصدى لرمال الفناء والاندثار سوى واحات الحكاية، لا شيء يقارع البدائي والمتوحش في بني البشر سوى أجنحة الفن ونفاثات الأساطير ونسيج الكلام.

* كانت مجموعة «والضلع حين استوى» أول إنتاجاتك القصصية.. ماذا يميزها؟ كيف تنظرين إليها الآن بعد هذه الفترة الطويلة نسبيا؟

- كانت «والضلع حين استوى» عبارة عن مجموعة شخصيات نسوية نادرة وعجائبية، نشرتها بصورة دورية في زاويتي بالملحق الثقافي لجريدة الرياض في مطالع التسعينات. وجمعتها لاحقا في كتاب يحمل عنوانا مشاكسا هو «والضلع حين استوى»، ولربما لو فرضت عليه مقاييسي الحالية لوجدته عنوانا ضاجا كشعار لإحدى لافتات الحركة النسوية (الفيمنست). أعتقد أنني الآن بتُّ أقرب إلى المخاتلة والمراوغة وعدم إزعاج البنيان الفني بالشعارات، ولربما «مجلس الرجال الكبير»، هي مرحلة أكثر تطورا ونضجا على المستوى الفني، أيضا على مستوى توظيف الشخصيات مقارنة بالأولى وأيضا هي مجموعة متخلصة من الهرولة الأسبوعية التي تتطلبها زاوية أسبوعية كتبت من خلالها «والضلع حين استوى».

* كنت قد كتبت قصة «أين يذهب هذا الضوء؟» في 1996 ثم انتقلت إلى كتابة رواية «الحريات» فرواية «الوارفة» في 2008. لماذا هذا التحول من كتابة القصة إلى كتابة الرواية؟

- هو ليس بتحول، بقدر ما يكون تجاوزا لمحطة القصة القصيرة وانتقال المركبة إلى أرض الرواية، أو لربما كانت القصة القصيرة هي دوزنة لأدواتي قبل أن أشرع في المعزوفة الكبرى: الرواية. القصة القصيرة خاطفة ومكبسَلة وناضحة بفوران اللحظة، بينما الرواية تحتطم وتكتسح المكان ولا تقبل أن تحتل مقعدا خافتا في الحفلة، بل لا بد أن تمتد ببهاء وشموخ، كالأعمدة الجليلة التي تنهض بالسماء وتطوق الفضاء.

* كتبت أيضا قصصا للأطفال منها «وسمية» و«حكاية قطرة» وسلسلة «حديقة الطلح» وغيرها.. كيف تقيّمين تجربتك في أدب الطفل؟

- لدينا تجارب محلية رائدة في أدب الطفل ولا تتعلق بامرأة أو رجل، ولكن للجنوح باتجاه البريء الطازج النقي من الصنعة، بصحبة خيال الأطفال يستطيع المرء أن يدخل إلى أرض المذهل، حيث الدمى التي ترش المكان بسكر الأحلام والنجوم التي تعلق بإطار النوافذ مترقبة خيط الفجر الذي يجلبه الطائر الأخضر.

الكتابة للطفل، درب مرصوف بالخوارق والقرود المشاغبة والبومة الحكيمة وبالونات البهجة التي تفرقع بين يدينا، وعندما كان أطفالي يمنحونني بطاقة الدخول لهذا العالم الساحر، كنت أعلم أن هناك أودية المادة الخام وعسجد الكلام، وكل أم تتشارك هي وأطفالها صناعة هذه الصلصال الفاخر، ولكن بحكم خبرتي السابقة في عالم السرد، اكتشفت أن هذه الصلصال هو المادة الأولية لعشرات من القصص الفاتنة. وإلى الآن ما زلت أكتب قصصا للأطفال، وما برحت حكايتهم تبرق في ذهني.

* تَسلّمتِ رئاسة اللجنة النسائية بوكالة الشؤون الثقافية، هل لاحظتِ أن المجتمع أصبح مهيأ للتعامل مع نشاط ثقافي تديره امرأة؟

- أعتقد ذلك، فاللجنة النسائية في أقل من ثلاث سنوات قامت بالكثير من المشروعات بشكل مستقل وطامح لمؤسسة الفعل الثقافي، فبالإضافة إلى المشاركة بمعظم أنشطة وكالة الثقافة، أنجزت اللجنة النسائية بصورة مستقلة عددا من المشروعات الناجحة، أبرزها المخيم الإبداعي الصيفي الذي كان يقدم للفتيات ورش عمل مكثفة معَدّة من قبل صفوة أكاديمية في مجال الرسم والتصوير والكتابة الإبداعية والمسرح وكتابة السيناريو وسواه الكثير من مجالات الفنون في سابقة جديدة من نوعها، في نفس الوقت كان المخيم يقدم للفتيات المحاضرات التي تعنى بتطوير الذات أفلاما سينمائية ثقافية ذات قيم فنية بعيدا عن الرخيص والتجاري، وكان يكرم في الحفل الختامي شخصيتين من الرائدات في مجال الإبداع الأدبي والكتابي كنموذج ومثال للمشاركات. ولقي المخيم إقبالا كبيرا ودعما من الأهالي على مدى عامين، أيضا قدمت اللجنة النسائية عددا من الورش في مجالات الكتابة. كما احتفلت بيوم القراءة العالمي «نزهة في عقل الكون» باستقلال عن معرض الكتاب، جميع هذا دون أن يكون للجنة مقر رسمي أو طاقم إداري داعم.

* ماذا تعني لك ترجمة مجموعتك القصصية «الترياق» إلى الإيطالية؟

- لم أختر أنا هذه اللغة، إنما المترجمة فالنتينا كولمبو هي التي اختارت المجموعة، وبحثت عني من خلال دار النشر وأبدت رغبتها في ترجمة المجموعة، وابتهجت أن تكون لغة دانتي من اللغات التي تترجم لها أعمالي.

* وفوزك بـ«جائزة أبها للقصة» عام 2001؟

- جائزة أبها هي غيمة جنوبية مكتنزة وفاتنة، أمطرتني ذات صيف بالنفل والخزامى وعرار السراة، وخلف الجائزة يقوم رجل من طراز مختلف شاعر وفنان يظل معتقَلا داخل آماله العظيمة.

* لاحظنا احتفاء الكثير من النقاد المحليين والعرب بأعمالك، بعضها كان عنوانا لرسائل أكاديمية...

- أرجو أن يكون بها ما استفزّ مبضع الباحثين وأدواتهم الاستقصائية،كما أتمنى أن تكون اختيرت وفق الشرط الإبداعي لا من باب تقصي أحوال نساء الخِباء. فكثير من نتاج المرحلة حافل بالفضائحي الساخط على القيود، ما يجعل منه ظاهرة اجتماعية تستثير الفضول أكثر منها إبداعية.

* كيف تنظرين إلى ترشيح روايتك «الوارفة» أخيرا لقائمة بوكر الطويلة مع مجموعة من الروايات الحديثة؟

- جميل أن ننتقل كسعوديين من مستهلكين للثقافة إلى صانعين لها، لكن «الوارفة» إحدى بناتي ودائما كل أم تجد أن لا شيء في هذا الكون يوازي جمال ابنتها أو جائزة ترقى لعرش «الوارفة».