د. عمار علي حسن: النظريات الكبرى خرجت من رحم التجارب الميدانية الصغيرة

صاحب كتاب «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر».. الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب

د. عمار علي حسن
TT

على مدى ما يقرب من 20 عاما، تخصص الدكتور عمار علي حسن، في الدراسات عبر النوعية، انطلق من علوم السياسة ليفحص كل ما يشتبك معها من ظواهر تمس العلوم الأخرى، دأب على التعامل مع كتبه مثلما يعامل أبناءه، فقال إنها تحتاج إلى الرعاية بشكل دائم لتنمو.. وبعد سنوات من النمو المتواصل تتخذ شكلا ملحميا، ليسد عقدة نقص شائعة تمس الباحثين العرب، وهي أن الباحثين العرب يتوقفون بعد أطروحات الدكتوراه فلا ينتجون بحوثا كبيرة. نجح عمار في التحدي، وفازت إحدى ملاحمه البحثية، وهو كتاب «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر»، بجائزة الشيخ زايد للكتاب، هذا العام، في فرعه «التنمية وبناء الدولة».

حظي الكتاب بتقدير جيد، فوصفه جاسون براونللي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تكساس الأميركية بأنه «إضافة متميزة في علم السياسة عامة، لأنه يسد نقصا نجم عن تجاهل نسبي للأدوار السياسية للتنظيمات والحركات الإسلامية الدعوية والروحية».

وذكر عالم الاجتماع الفرنسي، آلان روسيون، أنه وجد في الكتاب ما أفاده في دراسته للمجتمع المصري، وقال: «الكتاب قربني أكثر من فهم تيار ديني لم يدرس كما ينبغي من الباحثين في علمي السياسة والاجتماع، وهو الطرق الصوفية». هنا حوار أجرته «الشرق الأوسط» في القاهرة مع الكاتب:

* لماذا اخترت الصوفية وعلاقتها بالسياسة لتدرسها طوال ما يقرب من عقدين؟

- كنت أجهل كثيرا عن علاقة الطرق الصوفية بالسياسة، وفور تخرجي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عملت باحثا في مجال الحركات الإسلامية، وتكونت لدي خبرات متراكمة عن مجمل الجماعات الإسلامية السياسية، سواء جماعة الإخوان أو الجماعات السلفية أو جماعات العنف المسلح، لكن الصوفية لم أكن ملما بها بالقدر الكافي، وجاءت الفرصة حين عقد المؤتمر السنوي السابع للعلوم السياسية، بمركز البحوث والدراسات السياسية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، عام 1993، بعنوان «الثقافة السياسية المصرية بين الاستمرارية والتغير»، فتقدمت بمقترح حول دور الطرق الصوفية في التنشئة السياسية المصرية، وإثر الحفاوة التي قوبل بها البحث، وإشارة خبراء كثيرين إلى أنه يفتح طريقا معرفيا جديدا، تحمس الدكتور كمال المنوفي، عميد كلية الاقتصاد الأسبق للفكرة، وطلب مني أن أسجل رسالة ماجستير في الموضوع.. وصدرت الرسالة فيما بعد في كتاب بعنوان تجاري، بناء على رأي الناشر، وهو «الصوفية والسياسة في مصر»، ثم عاش معي هذا الكتاب قرابة ستة عشر عاما، كنت أهجره إلى غيره، حتى توالت مؤلفاتي، لكنني كنت أعود إليه كثيرا، كلما طلبت مني دراسة حول التجليات الاجتماعية والسياسية للتصوف، لتقديمها إلى مؤتمر أو ندوة علمية. وفي كل الأحوال، كنت كلما دخلت في اشتباك معرفي حول علاقة الدين بالسياسة، أرجع إلى الكتاب في صورته الأولى لأقتطف منه، فلا يبخل عليّ، ثم أنطلق منه إلى عشرات الكتب والمراجع، فتمنحني زادا وفيرا، فأعود إلى الكتاب بأضعاف ما اقتبست منه، حتى اكتملت صورته على النحو الماثل الآن هنا.

وتزامن إعداد الكتاب في صورته الراهنة مع عدة تطورات محلية ودولية، منها تفجر الصراع داخل الطرق الصوفية المصرية حول من يشغل منصب شيخ المشايخ، بعد رحيل الشيخ أحمد كامل ياسين، ولفت انتباهي أن الغالبية الكاسحة من المقالات والتغطيات الصحافية، التي تصدت لهذه المشكلة، أظهرت نقصا كبيرا في المعلومات حول القوانين التي تحكم الطرق الصوفية.

* في أطروحتك للدكتوراه.. درست القيم السياسية في الرواية العربية، فربطت بين السياسة والأدب. وفي الماجستير تناولت الصوفية، وهي أقرب لعلم الاجتماع.

- منذ عشر سنوات تقريبا، قابلت في القاهرة باحثة أجنبية في العلوم السياسية، تجري دراسة عن ظاهرة موائد الرحمن في القاهرة، وبعدها بفترة تعرفت على باحث فرنسي يعد أطروحة عن «الحدائق العامة في القاهرة». وعلى مدار مسيرتي العلمية والبحثية، طالعت عددا من الدراسات التي تهتم بظواهر وأشكال اجتماعية صغيرة، وتخرج منها بنتائج غاية في الدقة والرصانة. وتذكرت في كل هذا ما تعلمناه من أساتذتنا الكبار، من أن النظريات الكبرى خرجت من رحم التجارب الحياتية أو الميدانية الصغيرة، وأنا أؤمن أن هناك علما إنسانيا واحدا وفروعا عديدة. وقد ترسخ هذا التصور لديّ من حصيلة مطالعة بعض ما أنتجه الرعيل الأول من مفكرينا، وما ينتجه مثقفونا الكبار في الوقت الراهن، حيث نجد في أعمالهم مزجا رائقا لعدد من فروع العلم الإنساني، مما يشجع على تنشيط الدراسات «عبر النوعية»، ويعوض ظاهرة تراجع وجود المثقفين الموسوعيين في حياتنا الفكرية، بسبب عدم الإخلاص للمعرفة في حدها الأقصى، الذي يقوم على مبدأ «القراءة بلا حدود وفي أي اتجاه»، كما قال نجيب محفوظ يوما، موصيا سامعيه وقارئيه بأن ينهلوا من المعارف والعلوم قدر استطاعتهم، خاصة من أرادوا منهم أن يكونوا كتابا أو باحثين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بسبب الاستسلام للاكتفاء بالتخصصات الدقيقة في ظل الانشطار المعرفي الذي نعيشه حاليا، والذي قاد كثيرا من مدارس البحث في العلوم الاجتماعية إلى التركيز على ما تسمى «الأبحاث الصغيرة»، أو التي تعالج «قضايا نووية» معزولة، أو مسائل فرعية محدودة، قد يعيش الباحث طوال حياته منكبا عليها، غارقا فيها، لا يعرف شيئا غيرها أو خارجها، سادرا في شعور زائف بالاكتفاء، أو مؤمنا بأن العلم يقتضي توزيع البحاثة على تخصصات صغيرة، يجاور بعضها بعضا، وقد تتلاصق أو تتلاقى لدى مؤسسات معينة، أو عقول بعينها يعرفها الباحث الفرعي، ويدرك أن جهده يصب فيها، كما يصب الرافد الصغير في مجرى النهر.

* لكن محاولة معرفة كل شيء.. ألا تصيب الباحث بالتشتت أحيانا، وهذا ينعكس بدوره على الدقة والتمحيص العلمي؟

- بلى، وهناك حالات كثيرة لا يعرف فيها الباحث الفرعي إلى أين يذهب جهده، وماهية الجهات التي تستفيد منه، فيظل طوال حياته معزولا، ويتحول العلم لديه إلى مجرد مهنة يتعيش منها، شأنها شأن أي حرفة يدوية، كالفلاحة والنجارة والحدادة، أو ذهنية، كالمحاماة والمحاسبة.

لكنني أعتقد أن الاهتمام بالفروع ليس شرا محضا، ولا تفاهة خالصة، حين يؤمن أصحابه بروح الجماعة العلمية أو الفريق البحثي، لكن هذا الاهتمام يصير تافها وهامشيا حين يعتقد هؤلاء أن ما يمتلكونه هو العلم من كل أبوابه الواسعة، وأنه ليست هناك حاجة إلى الإلمام بالكل من أجل فهم الجزء، وأن هذا الجزء الصغير يمكن لوجوده أن يستمر ويتطور قدما بمفرده، مستغنيا تماما عن عطاء الفروع الأخرى من العلم، ومكتفيا بحال من الجدل الداخلي الدائم والدائب.

وقد وجدت أن مثل هؤلاء لا يلتفتون كثيرا إلى أمرين أساسيين؛ الأول، هو أن فروع العلوم قد تطورت من خارجها، أو نتيجة لتفاعلها مع فروع علمية أخرى، فهي في هذه الحال تبدو نهيرا صغيرا ينبع من النهر الكبير، أما إن انغلق الفرع على ذاته، أو هكذا فعل به أصحابه والمختصون فيه، فإنه يصير مثل بركة ماء حبيس، أقصى ما يطرأ عليها من تغير إيجابي، هو أن تضربها الرياح، فيهتز سطحها، لكن تظل أعماقها راكدة، وتحتاج إلى زلزال كي ترتج وتتموج فلا تتعفن.

وفي حقيقة الأمر، فقد أدى التفاعل بين الفروع الرئيسية في العلوم إلى إبداع علوم جديدة، فعلم الاجتماع مثلا، نبتت على ضفافه الرحيبة ألوان من العلوم، مثل علم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم اجتماع المعرفة، وعلم الاجتماع القانوني... إلخ. وتفاعل علم السياسة مع الاقتصاد، فولد الاقتصاد السياسي، ومع علم النفس فأنتج علم النفس السياسي، ومع الجغرافيا، فولدت الجغرافيا السياسية، ومع الفلسفة فتغذت النظرية السياسية والفكر السياسي على حد سواء. وفي العلوم الطبيعية مثلا، ولدت الكيمياء العضوية من تفاعل علمي الكيمياء والأحياء، وهكذا.

أما الأمر الثاني، فتفرضه طبيعة العلوم ذاتها، فالإنسانيات مثلا، تبدو في نظر كثيرين علما واحدا له فروع عدة، ولذا فإن تفسير أي ظاهرة إنسانية لا يمكن أن نضمن له السلامة والصحة والدقة من دون أن ننظر إليها من شتى جوانبها، مستفيدين من كل ما تتيحه ألوان العلوم الاجتماعية من مؤشرات ونماذج إرشادية وأفكار... إلخ. ففي العلوم الطبيعية، نقول في تفسير بعض المعادلات الكيميائية عبارة «مع تثبيت العوامل الأخرى»، لكن مثل هذه العبارة لا تصح في العلوم الإنسانية، لتداخل الأسباب التي تنتج الظاهرة، وتعقدها إلى أقصى حد.

وحتى تقترب الصورة أكثر، فلنفترض أن باحثا معينا مختصا بدراسة القبائل اليمنية، وأنه يسعى بجدية إلى فهم كل شيء يتعلق بها، حتى يكون بوسعه أن يدلي برأي سديد حولها، ويجلي حقائقها. فلو أن هذا الباحث درس هذه القبائل من خلال تاريخها وتركيبها وعاداتها وتقاليدها فقط، فلن يكون بوسعه أن يفهمها على الوجه الأكمل، لكنه سيصل إلى هذا الهدف إن درسها في ظل الاستفادة من الأطر والاقترابات المنهجية العامة، التي أتاحتها الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم السياسة في تناوله للأطر الاجتماعية التقليدية، وكذلك الأدب الشعبي «الفلكلور»، والنظريات الاقتصادية في حديثها عن أنماط الإنتاج والتوزيع، وعلم القانون في تناوله لدور العرف والتقاليد في الضبط الاجتماعي.

وهناك باحثون ينأون بأنفسهم عن هذه المسارات الضيقة، فيزاوجون بين الرؤى العامة العميقة والتخصصات الدقيقة، ويتخذون من الأولى إطارا أرحب لفهم الثانية، الأمر الذي قد يهبهم تميزا ملحوظا في مجالهم.

* في العالم العربي كان دور الصوفية السياسي سلبيا للغاية بحسب دراستك، كما كان دورها المجتمعي هروبيا في أغلبه، بعكس مثيلتها في تركيا مثلا.. لماذا؟

- لأنها وجدت سياقا أكثر تطورا ونضجا، وجوبهت بتحديات أكثر حدة، ولذلك جاءت استجابتها غاية في الإبداع والتطور. من الصوفية في العالم العربي ما نشأ في رحاب وركاب السلطة، ولا تزال تتبادل معها المنافع، مثل الصوفية المصرية، ومنها ما بدأ واعدا في مجالي التنمية والجهاد ضد الاستعمار كالسنوسية في ليبيا، لكن نخب ما بعد الاستقلال أجهضت تقدمه على المسار السياسي، لأن هذه النخب احتكرت العمل السياسي عن آخره.

* كتابك الفائز بجائزة الشيخ زايد، يأخذ طابعا ملحميا فحجمه يزيد على 800 صفحة.. وأنت في طور الإعداد الآن لموسوعة ضخمة عن المقاومة.. هل هناك سبب يدفعك للمشروعات البحثية الكبيرة؟

- ذات مرة قال لي أحد أساتذتي، «عيب الباحث العربي، أن أعلى وأعمق بحث في حياته هو أطروحة الدكتوراه.. وبعد ذلك يبدأ المنحنى في التراجع.. فآليت في هذا التوقيت على نفسي ألا تكون الدكتوراه هي آخر بحث كبير لي. المسألة الثانية، أنني ممن يعتبرون الكتب كالأبناء؛ تحتاج إلى رعاية مستمرة، وقد انعكست تلك الرؤية على الكتاب الفائز ذاته.. ظل يتطور مع الزمن حتى خرج في هيئته مكتملا إلى حد ما. يفتقد الباحثون العرب إلى فضيلة بحثية موجودة عند الباحث الغربي، تتمثل في أن الفكرة تبدأ لديه صغيرة ثم تنمو في ذهنه، وبمناقشة الآخرين المستمرة حولها يخرجها في صورة نهائية يرضى عنها إلى حد ما، فمؤلف صمويل هنتنجتون الشهير «الموجة الثالثة للديمقراطية»، بدأ كمقالة في «نيويورك تايمز».. ثم لاقت نجاحا وصدى واسعا، فدشن الفكرة كفصل في كتاب، ثم طورها في كتاب منفصل عندما أخذت شكلها النهائي.. لكن أغلب باحثينا يكتب الكتاب وينساه.

وهناك أسباب أخرى تسهم في عدم إكمال المشروعات البحثية الكبرى، منها أن المؤسسات لدينا عاجزة أو غير راغبة في التصدي لذلك، وإذا تصدت لها، فإما أن الأفكار تضيع في تلافيف البيروقراطية، أو يأكلها الفساد!

* لكن ماذا عن موسوعتك عن المقاومة.. لماذا اخترت هذا المجال تحديدا؟

- كي أسهم في مواجهة الاستبداد، والقضاء على «قابلية الاستغزاء»، بحسب مصطلح المفكر «مالك بن نبي»، وهي قابلية أصبحت منتشرة في عالمنا العربي، خاصة في مجتمعات عدة، منها العراق، لاحظت أن كثيرين ممن يتصدون للكتابة عن المقاومة ينتجون نصوصا انفعالية أو سطحية.. تركز على جانب واحد، هو المقاومة المسلحة، وتحجب خلفها أبوابا أخرى، رغم أن انتفاضة الحجارة مثلا، كانت أكثر تأثيرا من كل صواريخ حماس، وكان محمود درويش أبقى من القنابل.

بل شهدت القضية الفلسطينية وسائل لم تأخذ حقها من التقييم العلمي، مثل رحم المرأة الفلسطينية المتصدي للإبادة، أو العجائز اللاتي يحملن مفاتيح بيوتهن القديمة في حيفا وعكا ثم يلقن الأجيال الوليدة مفاهيم الوطنية والانتماء عبرها، فيقلن للأبناء، هذه مفاتيح بيوتكم، عليكم أن تسعدوها في يوم من الأيام، مثل هذه الأنواع من المقاومة المغمورة أنتجت مارتن لوثر كينج، ومن بعده تحقق الحلم وتولى أوباما، وأنتجت غاندي بمشروعه الطموح الذي أجبر الاستعمار على الرحيل، وأفرز أكبر ديمقراطية في العالم، من خلال ما عرف بـ«سيتيا جراها».. والنضال المدني.