الوجه الغادر والشرير لأنثى «المياه المؤلمة»

فقدت المرأة حقوقها السياسية عند الإغريق وغيرهم فاضطرت لإظهار الوجه الذي يخيف الذكر

TT

النساء كالينابيع فيها العذب، وفيها الأجاج، وان كنا قد افضنا في العذوبة ونحن نتأمل الوجه الاول لعشتار، فهذا لا يعني ان ننسى وجوهها الأخرى، فهي حرون متقلبة، مزاجية، مدمرة، فضولية، فاتكة، شرسة، غادرة لا ترعى عهدا لحبيب، ونرجسية لا يعنيها غير تأمل زينتها وحليها. والصينيون اكثر الشعوب خوفا من النساء، لذا اطلقوا على المرأة اسم «المياه المؤلمة» لأنها بحسب اعتقادهم تغسل المال والسعادة.

ومعظم التهم الموجهة لعشتار تأتي من جلجامش الذي نهرها حين اعترضته بكامل بهائها لتغويه وتعيقه عن هدف البحث عن الخلود، فأعرض عنها وذكرها بماضيها المليء بغدر الاحبة، فقد احبت قبله طائر الشقراق فكسرت جناحيه، واحبت الراعي فحولته الى ذئب تطارده كلابه وتنهش اليته، ثم احبت ايشولانو البستاني الذي يعمل في حدائق ابيها، فمسخته ضفدعا يعيش بقية عمره في الأوحال الضحلة.

وذلك النص من ملحمة جلجامش طويل نقتطف منه بعضه بترجمة قاسم الشواف من الكتاب الرابع لديوان الاساطير السومرية والاكادية والاشورية:

أي عاشق من عشاقك بقيت على حبه يا عشتار أي واحد من مقربيك نجا من شراكك تعالي اقص عليك مصير عشاقك المحزن من أجل تموز حبيب صباك فقد عينت له ان يرثى سنة بعد سنة لقد احببت طير الشقراق المتعدد الالوان ثم ضربته فجأة فكسرت جناحه والأسد ذو القوة التي لا تضاهى احببته ثم فجأة لم تكفي عن نصب الشراك له شركا بعد شرك والحصان الحصان المشغوف بحب المعارك ثم فجأة خصصت له السوط ذا الرؤوس اللاذعة والسيور وحكمت عليه ان يعدو باستمرار وألا يشرب الماء إلا بعد تعكيره

* هرقل مفسرا

* والقائمة تطول والهدف لا يخفي نفسه، فالرجل الحصيف الحكيم وجلجامش يظن نفسه كذلك يجب الا يستجيب لاغواء الانثى، والا كان مصيره الوحل وقصقصة الاجنحة.

ويعكس هذا النص من ملحمة جلجامش مرحلة عدم الثقة بين الجنسين حين بدأ الرجل يصارع في سبيل السلطة المطلقة وبدأت النساء تقاوم، وترفض وتعتزل وتشكل تجمعات مستقلة تغذي داخل قاطنيها عاطفة كره الرجال، كما تجلى في مجتمع الامازونيات في بعض جزر ايجه والبحر الاسود، وهو المجتمع الانثوي المحض الذي اضطرت فيه المرأة لاظهار وجهها الشرس الذي يخيف الذكر.

وقد حاولت هوليوود حين كان فيها بعض الاذكياء الذين يشغلون نصفهم الاعلى اكثر من نصفهم الاسفل، ان تنتج افلاما جميلة تفسر فيها تلك الظواهر الاسطورية وتحلل رموزها، فالانسان كما يرى كاسيرر (حيوان رموز) وهنا سر تميزه عن بقية الكائنات التي تدب على وجه البسيطة منذ بدء الخليقة دون ان تتطور.

ومن تلك الافلام التي لا تنسى «هرقل والامازونيات» الذي يقدم تفسيرا مقنعا لهجر النساء للرجال، فملكة الامازونيات التي تقع في حب هرقل تخبره ذات ليلة قمرية طاب فيها قطاف الرمان، ان المرأة هجرت المجتمع الذكوري حين توقف الرجال عن احترامها وساموها سوء العذاب، فهي، ورغم قيامها بجميع اعمال البيت والحقل تجلد وتساط، وتهجر في الفراش ولا ندري الى اليوم أي هذه العقوبات هي الاقسى!؟. وهل الهجر عقوبة للهاجر ام للمهجور؟.

وعند الاغريق يؤرخون لكراهية الجنسين بحرب اثينا وبوسيدون، على اسم العاصمة اليونانية، فقد افاق سكان تلك المدينة على شجرة زيتون وبجوارها نبع عذب ولما ذهبوا الى كهنة دلفي يسألون عن تفسير ذلك قيل لهم ان الوقت قد حان لاطلاق اسم على مدينتهم فشجرة الزيتون هي اثينا ابنة زيوس، والنبع العذب بوسيدون شقيقها وعليهم ان يختاروا احدهما، ولأن عاصمة الاغريق كانت مولعة بالاقتراع على كل شيء، وهذا هو سر عظمتها، صوتت المدينة للاختيار بين الاسمين وربحت اثينا الجولة لأن النساء في المدينة كن اكثر من الرجال الذين صوتوا لبوسيدون المهزوم.

* كالي واخواتها

* كان ذلك التصويت هو آخر عملية ديمقراطية تشارك فيها النساء في التاريخ القديم، فقد غضب بوسيدون لاختيار اخته وانتصارها عليه، فضرب شواطئ المدينة بالماء المالح الذي نخر تربتها فلم يعد ينبت فيها زرع ولا يعيش ضرع، وعندها سارع العقلاء للترضية وبدلا من ان يضحوا بالذبائح والابقار، كما كانت عادة الاجداد ضحوا بحقوق النساء السياسية، فالترضية التي حصل عليها بوسيدون باتفاق (عقلاء المدينة) حرمت النساء من حق التصويت الى الابد، وقضت ان ينسب الولد الى ابيه وليس الى أمة، ومنذ تلك الايام والمرأة تذل وتهان ولا تستطيع ان تطلب من الرجل ان يغسل قدميها، كما يحدث في فيلم «هرقل والامازونيات» الذي ينتهي بتوصية من البطل الاسطوري للرجال بالضغط على انفسهم والقيام بين الفينة والأخرى بغسل اقدام المرأة من باب «جبر الخواطر».

ولم تكن المرأة على الدوام حملا طيبا وديعا، وما ينبغي لها، فهي كالطبيعة ترق وتصفو، وتهدر وتزمجر وترسل الندى احيانا والصواعق احيانا أخرى، ولعل اوضح صورة لشراسة النساء الاسطوريات نجدها عند الهنود، فكالي عندهم، وهي التي اعطت اسمها لكلكتا اذا غضبت اكلت الاخضر واليابس وشربت دم كل من يقف بوجهها، لذا لم يكن مستغربا ان تأكل في احدى نوبات غضبها زوجها شيفا، وهذا افضل من تقطيعه ووضعه في اكياس سوداء، كما تفعل المصريات اللواتي يقطعن اوزيريس الحديث دون ان يفكرن هذه المرة في اعادة جمع اشلائه المبعثرة.

وعشتار لم تكن نظريا اقل قسوة من كالي الهندية حين اسلمت للقتل حبيبها تموز وبذلك عيرها جلجامش وجاء قبله من حرضها على استعادته من ايدي زبانية العالم السفلي. ومن هذا الاصل الرافدي، كما تعتقد ستيفاني دالي صاحبة كتاب (اساطير بلاد ما بين النهرين) نسجت الاسطورة الاغريقية برسيفون خيوطها، وعلى ذكر الغزل والنسيج فإن اثينا صاحبة المغزل هي حسب اعتقاد موريس فييرا (أشيرة) السورية التي تعرف بأشيرة اليم أي البحر فقد عثر في رأس شمرا على تماثيل لأشيرة وبيدها مغزلها الذي استعارته منها اثينا الاغريقية، فالنساء يتبادلن المغازل والاحذية والثياب والعشاق احيانا، خصوصا ان لم يكن للذكر من دور غير التخصيب. فأشيرة السورية التي نامت دهورا قرب بحر اللاذقية لا تراه اهلا لغير ذلك الدور الذي يتعرض حديثا للاندثار بالاكتشافات الجينية المعاصرة التي تشير الى ان المرأة في المستقبل ستتمكن من تخصيب نفسها بنفسها، ولا عزاء للذكور في التخلي عن آخر مهامهم المجيدة التي كانت ذات يوم مقدسة.

ومن يريد الاستزادة من اخبار أشيرة الاوغاريتية فعليه بكتاب (سلسلة الاساطير السورية)، الذي وضعه رينيه لابات وموريس سنايزر وآخرون، ففيه فصل في غاية الامتاع عن تلك الحضارة التي قدمت للبشرية اول ابجدية متكاملة، وبالمناسبة، فإن الاسم القديم للاذقية هو (اوديسي) ولعله يذكر بالاوديسة وضياع يوليسيس، فأساطير سورية واليونان وقبرص وكريت يصعب تخليصها من بعضها بعضا، إلا بشق النفس والعقل.

* تموز وتجلياته

* وبما ان الاصول الروحية للفكر الانساني واحدة، فلا غرابة ان تتغير الاسماء ويظل الفعل واحدا، فتموز القتيل صار رمزا للموت والانبعاث والخصوبة في معظم حضارات العالم فهو اوزيريس المصري وديونيسوس الاغريقي، وتاوز الحثي والخضر في الميثولوجيا الشعبية الاسلامية، وجورجيوس المسيحي والمخلص الذي يرتقب الناس عودته، وفي ملاحم سيد الشهداء الحسين عليه السلام، كما كتبت في بلاد فارس الكثير من الاسقاطات التموزية التي اضافها المخيال الشعبي لتلك الاسطورة التي تجدها في تراث جميع الشعوب باسماء شتى، وفارس ومصر والهند من اول الحضارات التي استعانت بالرموز الرافدية لاسباب تفسرها الجغرافيا.

ومع ان تموز ارتبط بالخصب والانبعاث، فإن دور الذكر في الحضارة الامومية ظل ثانويا، فالذكر ومهما اسبغ على نفسه من صفات التفوق يظل كما يقول يونغ (ابن امه) وفي التحليلات النفسية فإن الابن هو الوعي، والام هي اللاوعي الجمعي الذي ينسب اليه اليونغيون جميع انواع التصرفات غير المفهومة في سلوك البشر.

لقد ركز فرويد على عملية قتل الاب التي يقوم بها الابن للاستيلاء على مكانه في حضن الام لأنه سليل الاساطير الاغريقية التي جعلت زليوس يقتل اباه، ولو كان على اطلاع جيد على الاساطير العراقية والسورية للاحظ ان الابن يقتل الام ايضا، كما في اسطورة (تعامة) فطريق السلطة معبد بالدم، وانت لا تستطيع ان تحكم ان لم تقتل وتصلب، وتخصي.

والحقيقة ان عشتار هي التي ابتكرت الخصاء عقوبة لعشاقها ومريديها ثم عممته على كهنة معابدها التي يطوف بها الخصيان على الدوام وذلك التقليد في التقوى الذي يأتي عادة بعد المحبة الغامرة لم يمت في الرهبنة المسيحية عملية خصاء نفسي يقوم بها الذين يخافون على انفسهم من خطر الفتنة الانثوية التي لم ينج منها حسب التوراة نبي الله سليمان الذي لاحق عشتارت جميلة الفينيقيين في صيدا وهي صاحبة معبد افقا الذي لا تزال آثاره ماثلة للعيان وشاهدة على جبروت الانثى قبل ان يتم تقليم اظافرها وادخالها عبر صراعات طويلة الى بيت الطاعة الذي لم تلبث فيه الا بضعة قرون. وها هي تعود اشد جبروتا وفتنة لتكرس نفسها بدلا من تموز رمزا للنماء والخصوبة دون ان تتخلى عن صفتها الاولى كرمز أبدي للغواية.

وربما كان القدماء الذين اسلموها قيادهم اكثر حكمة حين اعتقدوا ان الاستسلام للفتنة الانثوية امتع واكثر فروسية وحصافة من المقاومة.