كتاب يتحررون من عبء الكلمات

الشاعران الفرنسي ميشو والجنوب أفريقي برايتنباخ كرسامين وكاتبة تهجو أمريكا المعاصرة

TT

في الكتاب الذي خصصته لذكرياتها مع الشاعر الاميركي الكبير جيمس ماريل (1926 ـ 1995) والصادر حديثا، تقول اليسون لوري انها التقته عام 1950، وكان في ذلك الوقت لا يزال مجهولاً. مع ذلك هو فتنها بوجهه المشرق بالطفولة، وباطلاعه الواسع على الآداب العالمية قديمها وحديثها، وايضا بموهبته التي كانت تسطع في اي كلمة يتفوه بها، ثم انه كان غنيا اذ ان والده هو احد مؤسسي مصرف شهير هو «موريل لينش». والذين كانوا يلتقونه، كان يبدو لهم شبيهاً بـ «زائر متحضر جداً قادم من كوكب اخر».

وهذا العام صدرت المجموعة الكاملة المتضمنة لاشعار جيمس ماريل عن دار «الفريد كنوبف» بنيويورك، الشيء الذي سوف يساعد محبيه على اعادة اكتشاف عالمه الشعري، وموهبته الكبيرة التي بوأته مكانة جدّ بارزة في الشعر الاميركي الحديث. وكان ماريل واعيا منذ البداية انه امتلك الشكل قبل ان يمتلك المضمون. وفي مذكراته الصادرة عام 1993، كتب يقول: «كتابة قصائد أسهل من كتابة النثر.. ان الجهل بأمور الحياة وتعقيداتها من شاعر شاب يمكن التغافل عنها، ذلك ان الاوزان والقوافي تغفر له ذلك».

ويرى النقاد ان فترة النضج عند ماريل هي تلك الواقعة بين 1960 و 1970، ففي هذه العشرية، تمكن من ابتكار رؤية «تهكمية» للعالم ونعني بـ «التهكمية» هنا، القدرة الخارقة والجد حميمة لتصوير ضعف الانسان وقلقه. وبين 1976 و 1985، كتب ماريل قصائده الافضل وهي تتضمن المحاورات التي اجراها برفقة صديقه دافيد جاكسون مع بعض الاموات من المشاهير. ومعلقا على هذه القصائد كتب احد النقاد يقول: «في هذه القصائد الغريبة، ابتكر ماريل وصديقه عالماً بديلاً، ممهورا بمراتب معقدة وبنظم تساعد على الحكم على القيمة الاخلاقية والروحية لأفراد بينهم في المرتبة الأولى شعراء».

وكان جيمس ماريل في التاسعة والستين من عمره حين مات.

وعقب ذلك بقليل صدرت مجموعته الاخيرة التي تضمنت قصيدة تبدو كأنها وداع للعالم والحياة.

* هنري ميشو في «البلياد»

* عن دار «البلياد» الفرنسية الشهيرة المتخصصة في اعمال العظماء في الادب والشعر والفلسفة قديما وحديثاً، صدر الجزء الثالث من اعمال الشاعر الفرنسي الكبير هنري ميشو (1899 ـ 1980) التي كتبها بين عام 1947 وعام 1957، مرفقة ببعض الرسوم اذ انه كان رساماً بديعاً لم يتردد متحف الفن الحديث بباريس من وضع بعض من لوحاته الى جانب مشاهير الرسامين خلال القرن العشرين. مقارنا بين اللوحة والكتب، كتب هنري ميشو في واحد من النصوص التي تضمنها المجلد المذكور يقول: «الكتب مضجرة من قراءتها. اذ ليس هناك حرية التنقل. نحن مدعوون الى ان نقتفي الأثر. فالطريق مرسوم وواحد لا غيره. اللوحة مختلفة تماما انها بلا وساطة وكاملة، على اليسار، على اليمين، عمقا، مثلما نحن نريد». ومواصلا وصف اعجابه بالرسم، يكتب هنري ميشو قائلا: «لغة جديدة، مديرا الظهر للكلمة (...). القدرة اخيراً على التعبير بعيداً عن كلمات الآخرين، ولأني تحررت من الكلمات، هذه التي تلتصق بك، وتريد ان تكون شريكة لك في الحياة، فإن رسومي اصبحت مشيقة وهيفاء وتقريبا سعيدة».

وكان ميشو رحالة كبيرا، اذ طاف في آسيا واميركا اللاتينية وفي العديد من الاماكن الاخرى. وقد كتب عن ايطاليا نصا يقول فيه: «ذكاء فرحة الحياة. ايطاليا تجعلنا اكثر انسانية. ها هو البلد الذي كان بودي لو انني امضيت فيه طفولتي». وعندما توفيت زوجته ماري ـ لويز في حادث عام 1948، كتب هنري ميشو يقول: «التدمير بدأ مع موت واحد كنت اعيش معه، هذا الواحد كان امرأة، يعني ذلك انها قادرة على التسرب الى كل ممرات الروح، سقطت في الموت، فجأة، بدون اي اتفاق. بعيدا عن الرملة، سينحسر البحر».

* بين الرسم والشعر

* نظم في مدينة جوهانسبورج بجنوب افريقيا معرض فني ضخم تضمن اللوحات التي ابدعها الشاعر برايتن برايتنباخ الذي يعد من اهم مبدعي افريقيا الجنوبية في النصف الثاني من القرن العشرين والذي امضى سنوات عديدة في السجن لرفضه سياسة التمييز العنصري. ويقول برايتنباخ، ان الرسم والشعر كانا دائما متلازمين عنده حتى وان كان الناس لا يعرفون ذلك. ورسومه مثل قصائده، تلميحية، غير مباشرة، وثمة لوحات تبدو كما لو انها تتحاور مع بعض قصائده. واحيانا هو يكتب بعض القصائد على لوحاته، مازجا بذلك الكلمة بالصورة. ومعلقا على هذا الامر، كتب احد النقاد يقول: «على اللوحات الكبيرة المعلقة، الكلمات والصور تتقاطع وتتماس الواحدة بالاخرى. ونحن باستطاعتنا ان نرى شبح الشاعر نفسه وهو جالس على الأرض، لكأنه يداوي جراحه في حين تساقط عليه ابيات الشعر».

في رسوم برايتنباخ هناك عناصر ونباتات وحيوانات عديدة، غير ان الكلاب هي الاكثر حضوراً، وهي تتشمم طول الوقت بحثا عن «عظم في حديقة الليل». وفي لوحة اخرى نحن نقرأ «المستقبل له رائحة كلب ميت». وعن الفرق بين الصورة والكلمة، يقول برايتنباخ: «احيانا تأتي الكلمات في الأول. في اوقات اخرى، الصورة هي التي تسبق الكلمة. ولكن في العادة، يكون التعبيران مثل الخلية قبل الانقسام وقبل ان تمتلك خاصياتها (..). انا لست واثقا من ان الكلمة يمكن ان تكون فتوى. اود ان اتخيل مثلما ان الكلمة (في المعنى الذي يذهب اليه كل من بروست وكافكا والسورياليين) يمكن ان تفقد معناها لتمتلك من جديد نفوذها الحركي والجزئي».

* الحب الضائع

* عودنا الكاتب الايطالي انطونيو تابوكي عاشق لشبونة وشاعرها العظيم فرناندو بسوا ان ينقلنا من مكان الى آخر غير عابئ بالحدود وبالثقافات وباللغات. وفي رواياته كما في قصصه تتحدد الامكنة وتتقاطع حتى لكأن العالم بأسره بلد واحد. احيانا نحن في ازقة برشلونة واحيانا في مقاهي روما العتيقة واحيانا في الهند مع الفقراء والمتسولين او في باريس او في مدريد او في امستردام. وفي كتابه الجديد الحامل لعنوان: «الوقت يزداد تأخرا يوما بعد يوم» ظل انطونيو تابوكي امينا لهذا الاختيار الكوسموبولوتي.

وها هو يقودنا الى الاسكندرية والى نابولي والى سمرقند ولندن وباريس وبقدرة فائقة يطوف بنا في هذه المدن والاماكن ملتقطا روائعها واسرارها وخفاياها، محيياً كل ما هو ميت فيها، مسائلا الحجر والبشر، وتبدو القصص في هذا الكتاب شبيهة بالألغاز. لذا على القارئ ان يجتهد كثيرا لفك الغازها. في واحدة من هذه القصص نحن مع رجل يروي لصديقته قصة اعمامه الذين ماتوا. ثم نحن نجده بعد ذلك وهو يطوف في العالم يعزف الموسيقى في الشوارع قبل ان يستقر في سالونيك حيث كل شيء يذكر باولئك الذين رحلوا منذ زمن بعيد. ويستعمل تابوكي كعادته دائما الزمن بطريقة موسيقية اخاذة، ففي احدى القصص نجد انفسنا داخل شقة فيها تعيش امرأة وزوجها المهندس وابنها، ثم سرعان ما تغادر الذاكرة الشقة لتعود الى طفولة الابن الصعبة ثم الى فترة اخرى من حياته تزداد فيها متاعبه النفسية والروحية.

* امرأة أمام الانتحار والوحدة

* في مجموعتها القصصية الجديدة التي تتضمن 21 قصة، تضعنا الكاتبة الاميركية جويس كارول اواتس امام عالم غريب مطعم بالكآبة والاحاسيس المدمرة، والانفعالات العاطفية القاتلة. عالم تتحرك فيه شخصيات تعاني من الوحدة والانفصام وتواجه مشاكل حياتية كثيرة مثل الطلاق والانتقام. القسم الاول من المجموعة يتضمن 7 قصص تدور احداث جميعها في احدى الضواحي التي يعيش فيها الاثرياء الجدد. وفي احدى هذه القصص هناك رجل عجوز يهتف لاحد اقاربه ليعلن انه وزوجته البالغة من العمر 62 عاما قررا الانتحار ويطلب منه ان لا يتصل بابنته قبل ان يتم تنفيذ هذا القرار. وببرود يضيف قائلا: «لقد تركنا كل شيء على احسن ما يرام.

الوصية جاهزة. وجميع الملفات الاخرى الخاصة بالتأمين وغير ذلك جاهزة هي ايضا والمفاتيح كذلك». وفي قصة اخرى نجد انفسنا امام امرأة تطارد رجلا تركها وحيدة في احد الطرقات الكبيرة. وحتى عندما لا تتمكن من قتله مقتصرة على احداث ضرر كبير بعموده الفقري فانها تشعر بلذة كبيرة وتشرع في اعداد نفسها لـ «انتقام قادم يكون اجمل واروع». وفي قصص اخرى من المجموعة تتلازم خيانة الاخر مع خيانة النفس وهناك شخصيات مجروحة بسبب رغبة لم يتم ارضاؤها او بسبب عدم تحقيق رغبة. وتكتب جويس كارول اواتس عن الوحدة قائلة: «الوحدة هي مثل التجويع فنحن لا نعي اننا جائعون إلا عندما نشرع في الاكل». وثمة قصص من المجموعة يبدو فيها الرجال كما لو انهم حيوانات كئيبة، لذا هم يفكرون طول الوقت في الانتحار ويعيشون واهني العزيمة، بلا اي وسيلة للدفاع عن انفسهم. اما القصص العشر الاخيرة من المجموعة فتهتم بوضع الاميركي راهنا. هذا الاميركي الذي يعيش الانحلال والتمزق والفوضى وفي جميع هذه القصص هناك جريمة قتل او اعتداء بالعنف. ففي «قصة حب في مانهاتن»، هناك رب عائلة يرافق ابنته للتسوق ثم ينتحر برصاصة في الرأس، وفي قصة «جريمة رقم 2» يقتل صبي امه. انها قصص تصور رجالا في حالة غضب شديد بسبب الخيبات التي منيوا بها في حياتهم العاطفية بالخصوص. عن قصصها هذه، كتبت جويس كارول اواتس مخاطبة قراءها: «أنتم داخل هذه القصص. انها تحكي عنكم انتم ايضا وليس عن آخرين».