فنون خلف القضبان الفرنسية تنقذ المساجين من الانتحار

محكومون يصورون.. يرسمون ويبيعون تحفهم الإبداعية لمن يرغب

TT

إدخال الأدب وشتى أنواع الفنون إلى السجن ثبت أنه يعطي نتائج إيجابية للغاية، ليس فقط أنه يخفف الشعور بالاكتئاب والإحباط عند النزلاء، لكنه أيضا يرفع الثقة بالنفس، ويخفض نسبة الانتحار التي تعتبر مرتفعة بين المساجين، ويساعد على دمج هؤلاء في المجتمع بعد إنهاء محكومياتهم، فرنسا هي واحدة من الدول الأوروبية التي تخصص ميزانيات وهيئات لتبرمج وتدير النشاطات الفنية وتؤهل المكتبات في السجون، وبذلك تعتبر أحد النماذج التي تستحق الاطلاع عليها عن قرب.

قليلون أولئك الذين يعلمون أن الفيلم الشهير «بابيون» أو «الفراشة» الذي لعب دور بطولته في السبعينات ستيف ماكوين وداستين هوفمان هو اقتباس لقصة هنري شاريار، أشهر سجين فرنسي، وأن السيرة الذاتية التي كتبها هذا السجين قد بيع منها أكثر من 17 مليون نسخة، أي أكثر من رواية «الأمير الصغير» للكاتب أنتوان سان أكزوبيري. ثمة فنانون ومثقفون عاشوا تجربة السجن ونجحوا في الوصول إلى العالمية كأوسكار وايلد، وفيدور ديتوفسكي، وجيمس براون (مغني الروك) وماركي دو ساد. فالمواهب لا تخمد ولا تستكين خلف القضبان، بل إن تجربة السجن بكل قساوتها قد تكون الدافع وراء تحريرها وانطلاقها في إبداعات مميزة ذات قيمة إنسانية عالية، لا تقل في شيء عن أعمال الفنانين الطلقاء.

من هذا المنطلق، اهتمت الحكومات الفرنسية المتتالية بتطوير نشاطات ثقافية متعددة، تقدم لنزلاء المؤسسات العقابية الإصلاحية. وقد أصبح دخول الثقافة غياهب السجون ممكنا أول مرة سنة 1986، بفضل إرادة رجلين هما وزير الثقافة السابق جاك لانغ ووزير العدل روبرت بادنتر اللذين وقعا أول معاهدة توصي مسؤولي هذه المؤسسات بفتح أبواب السجون أمام رجال الثقافة والفنون وتشجيع النزلاء على ممارسة نشاطات تخرجهم من العزلة والكآبة وتنمي قدراتهم الفكرية والفنية. وقد استند الرجلان على نصوص «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» لعام 1949 الذي تنص المادة 27 منه على «حق كل شخص مهما كان وضعه الاجتماعي على المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع والتمتع بالفنون». واستند الرجلان أيضا على عدة مواد في القانون الفرنسي تفيد أن المساهمة في النشاطات الثقافية «حق من حقوق نزلاء المؤسسات العقابية تماما كحقهم في العلاج والتعليم». وقد تلت هذه المعاهدة عدة نصوص أخرى: عام 1990 لإرساء قواعد شراكة جديدة بين السجون والهيئات الثقافية المحلية للاستفادة من تعاون شخصيات متمرسة، ثم عام 1999 الذي عرف ظهور «مصالح المراقبة والإدماج» التابعة لوزارة العدل والمسؤولة رسميا عن تنظيم مختلف النشاطات الثقافية داخل المؤسسات العقابية الفرنسية. وهذه الجهة هي همزة الوصل بين وزارة الثقافة ووزارة العدل، ومهمتها حصر احتياجات السجون وإيصالها لوزارة الثقافة.

أشكال مختلفة من النشاطات موجودة اليوم، في هذه المؤسسات ابتداء بالمكتبات التي تعتبر رئة الحياة الثقافية داخل السجون، على أساس أنها المنفذ الوحيد الذي يبقى متاحا للنزلاء طيلة أيام السنة، بينما تبقى النشاطات الثقافية الأخرى مؤقتة وغير ثابتة. فكل السجون الفرنسية التي يصل عددها إلى 194 تحتوي على مكتبة واحدة على الأقل، أهمها المكتبة التي توجد في سجن «فلوري مرجيس» بضواحي باريس (وهي أكبر مؤسسة عقابية على المستوى الأوروبي) والتي تتسع لغاية 4000 قارئ. وهي تضم مكتبة مركزية و9 مكتبات أخرى تتعدى مساحة الواحدة منها 60 مترا مربعا خمسة منها في مبنى الرجال، واحدة عند النساء، اثنان في مبنى الحبس الانفرادي، واحدة عند القصر، وواحدة في عنبر النزلاء الجدد، وبها أكثر من 5000 مرجع وأكثر من 30 مجلة، يرتادها 55 في المائة من مجموع النزلاء الذين يعرفون القراءة حسب إحصائيات 2009 التابعة لهذه المؤسسة العقابية. الوقت المخصص لاقتناء الكتب لا يفوق الساعة، وعلى النزيل بعدها أن يكمل قراءة كتابه في الزنزانة. «تمرين صعب» حسب شهادة سجين سابق على موقع مختص بشؤون المسجونين (بان بوبليك) والذي يضيف أن «وجود أكثر من سجينين في مساحة لا تتعدى التسعة أمتار، وضجيج التلفاز الذي يبقى مفتوحا طيلة اليوم لا يسمح بالتركيز على القراءة، لكن الأكثر حماسا منا يختلسون لحظات الهدوء النادرة للهروب من واقع السجن بالقراءة».

تشجيع السجناء على القراءة يبدأ من اليوم الأول لدخولهم المؤسسة العقابية حيث يعطى لهم كتيب به معلومات عن محتويات المكتبة وكيفية الاستفادة منها. ويتم الذهاب إلى أبعد من ذلك، بتنظيم نشاطات مختلفة حول الكتاب، وهو ما تشرف عليه جمعية «القراءة هي الحياة» التي تهتم بتشجيع القراءة داخل السجون: كتنظيم قراءات عامة مرة في الأسبوع أو لقاءات مع كتاب كبار وفلاسفة (سيمون فاي، بيتر بروك، نانسي هوستن)، أو ورش للكتابة كتلك التي أسفرت سنة 2009 عن طبع كتاب به محاولات نثرية وقصصية للسجناء بعنوان «من زنزاتي، طفت حول الشمس..». وإن كانت المكتبات الأخرى لا تتمتع بسعة الاستقبال نفسها، إلا أن جميعها تحظى باهتمام المؤسسات العقابية التي تعتبر القراءة أول وأهم خطوة نحو تقويم السجناء وإعادتهم إلى دائرة النظام العام.

لتجديد محتواها، تستفيد مكتبات السجون من تبرعات مختلفة تأتيها من جمعيات خيرية، سفارات، وحتى محلات الكتب، لكنها تعتمد أيضا على ميزانية السجون التي تذهب نسبة 2 في المائة منها لاقتناء كتب خاصة يكثر طلب السجناء عليها كدواوين الشعر والروايات البوليسية والتاريخية وسلاسل القصص المصورة. يحدث أيضا أن يطلب المكلفون بتنظيم الحياة الثقافية داخل السجون مساعدات من هيئات حكومية خارجية كـ«المركز الوطني للكتاب» الذي منح على سبيل المثال لسجون ضواحي باريس (إيل دو فرانس) سنة 2009 مساعدة قيمتها 55.000 يورو لاقتناء الكتب التي يحتاجها السجناء.

النشاطات الثقافية الأخرى تبقى مؤقتة ودورية، وهي تتخذ شكلين، فإما أن تكون بتدخل أطراف خارجية كالمغنيين والرسامين والكتّاب والسينمائيين والمثقفين، من خلال حفلات موسيقية، لقاءات، ندوات وعروض سينمائية وإما أن تكون تفاعلية بمساهمة السجناء ومشاركتهم: كورشات الرسم والكتابة والنحت والرقص والمسرح والمونتاج السينمائي. وهي تؤدي في الغالب إلى تنظيم معارض أو طبع منشورات وحتى تسجيل شرائط. تتم النشاطات بفضل الشراكة الثنائية بين وزارة العدل ووزارة الثقافة، اللتين تمولان المشاريع التي تتقدم بها إدارة السجون. لكن يبقى عمل ممثلي وزارة الثقافة أساسيا، فهم المكلفون بالبحث عن مؤسسات ثقافية ترضى بتقديم عروضها داخل المؤسسات العقابية، وحملها على توقيع معاهدات كي يتكرر تنظيم هذه التظاهرات. وهي الجهود التي أسفرت سنة 2009 عن تنظيم أكثر من 150 حفلا موسيقيا في مختلف المؤسسات العقابية الفرنسية بمناسبة «عيد الموسيقى»، بعضها لفنانين معروفين أمثال المغنيان رونو وفرانسيس كابريل. كما تقود كثير من المؤسسات الإصلاحية منذ سنوات عدة تجارب ناجحة لإشراك السجناء في نشاطات متنوعة: بعضها تعتبر نموذجية كإدارة سجن «أفنيون لوبونتي» التي تنظم منذ أكثر من سبع سنوات عروضا لتحف ولوحات فنية متميزة بفضل معاهدات الشراكة التي وقعتها مع عدة متاحف فرنسية أو سجن «لا سانتي» في باريس و«ليبوميت» في مرسيليا اللذين يمنحان للنزلاء منذ 1987 فرصة المشاركة في ورشات للتصوير والمونتاج السينمائي، وكذلك سجن «مو» الذي ينظم منذ 1988 ورشات للمسرح وفنون التعبير الجسدي.

دخول الثقافة دهاليز السجون يتم أيضا بفضل جهود الجمعيات الأهلية التي تتطوع لضخ البهجة والحيوية في عتمة السجون المظلمة أهمها: جمعية «المواهب الخفية» التي تتدخل منذ 1996 في أكثر من ست عشرة مؤسسة عقابية من أجل تشجيع المواهب الدفينة، وهي تعرض ثمرة إبداعاتهم الفنية على لجنة خاصة من الخبراء تختار أكثرهم تميزا لعرضها في الخارج. آخر هذه العروض ضم 250 تحفة فنية وخمسين نصا، بيع جزء كبير منها. وهناك جمعية «الفن نحو طريق الحرية» التي تهتم بعرض لوحات وأعمال السجناء التي تنجز في إطار الورشات الفنية. وتهتم سيدة فرنسا الأولى كارلا بروني ساركوزي شخصيا بهذا الموضوع، وترعى مؤسسة خيرية تحمل اسمها وتهتم بتنمية المواهب الفنية لأشخاص مهمشين كالسجناء وذوي الاحتياجات الخاصة. وعلى الرغم من جهود جميع هذه الأطراف فإن نسبة السجناء الذين يطلبون المشاركة في نشاطات ثقافية لا تتعدى 20 في المائة حسب إحصائيات وزارة العدل التي ترجعه إلى ضعف المستوى التعليمي لهؤلاء، حيث إن 40 في المائة منهم لم يتعدوا المرحلة الابتدائية وأغلبهم بالكاد يحسنون القراءة، ولكن أيضا إلى طبيعة بعض النشاطات التي تبقى «نخبوية» أو بعيدة عن دائرة اهتمام هذه الشريحة. وهو ما يفسر ميول السجناء لبعض النشاطات دون غيرها كالمونتاج والتصوير السينمائي، والرقص أو الموسيقى. لكن جميع المساهمين في إحياء الحياة الثقافية وراء القضبان يتفقون على منافع مثل هذه التجارب المعروفة في علم النفس «بالأرت تيرابي» أو «العلاج بالفن» بالتأثير على سلوك ومعنويات السجناء، حيث إنها تسهم في رفع ثقتهم بالنفس وتخفض معدلات الانتحار المرتفعة وتسهل إجراءات تأهيلهم داخل المجتمع من جديد.