كيف نجمع بين عالمين متناقضين؟

المفكر الإسلامي الوحيد الذي التقاه بابا روما في جلسة خاصة بالفاتيكان يحاور جاك دريدا

غلاف الكتاب
TT

* شريف: لماذا يحتقر الغرب الدين؟ ألم يؤد ذلك إلى الفساد الأخلاقي؟ > دريدا: فصل الدين عن الدولة لا يعني أبدا احتقار الدين.. وإنما تأمين الحرية الدينية > شريف: القرآن ليس مسؤولا عن 11 سبتمبر.. كما أن الإنجيل ليس مسؤولا عن محاكم التفتيش > دريدا: لماذا لم ينتصر التأويل العقلاني المستنير للإسلام على التأويل المتعصب الظلامي حتى الآن؟

* غدت كتب الحوارات موضة في الغرب، ويا نعم الموضة! فكبار المفكرين أصبحوا يلجأون إلى هذه الطريقة بغية توصيل أفكارهم إلى الجمهور بسهولة أكبر وعذوبة أكثر. فالواقع أن الكتاب المكتوب بصوتين والذي يملؤه التوتر الفكري والأخذ والرد والنقاش الحاد بين شخصين متباينين أو متقابلين يبدو أكثر إمتاعا وجاذبية من الكتاب الأحادي الجانب الذي قد يشعرك بالملل أحيانا. أما في كتب الحوارات فنادرا أن تمل. ضمن هذا المنظور قرأت مؤخرا باستمتاع واهتمام متزايد ذلك الحوار المطول الذي نشره الدكتور مصطفى شريف مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا تحت عنوان: الإسلام والغرب. والدكتور مصطفى شريف، لمن لا يعرفه، هو مفكر جزائري كان قد شغل سابقا منصب وزير التعليم العالي، وكذلك منصب سفير بلاده في القاهرة قبل أن يصبح أستاذا في جامعة الجزائر، ويختص بالحوار بين الثقافات والأديان والحضارات. وقد اشتهر مؤخرا أكثر من غيره لأنه كان المفكر الإسلامي الوحيد الذي التقاه بابا روما في جلسة خاصة في الفاتيكان من أجل ترطيب الأجواء بين الطرفين بعد كل تلك الضجة الكبرى التي أثارتها محاضرته في جامعة راتسبونغ في ألمانيا. وقد حاول الدكتور شريف أن يشرح له حقائق الإسلام وقيمه بشكل أفضل.

مهما يكن من أمر فإن حوار المفكر الجزائري مع الفيلسوف الفرنسي يتعرض لعدة مواضيع ساخنة تشغل وسائل الإعلام حاليا: كالعلاقة بين الشرق والغرب، ومسألة العولمة الجائرة، والأصولية المتعصبة، ومفهوم العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، وضرورة حوار الحضارات لا صدامها، وكيفية مواجهة الاحتقان المتزايد في العلاقة بين الإسلام والغرب.. إلخ، وعلى مدار الكتاب تشعر بأن المفكر الجزائري يحاول أن يقنع المثقف الفرنسي بضرورة عدم تهميش الدين، وضرورة تحقيق التحديث في العالم العربي في آن معا. كل شيء يحصل كما لو أن الأستاذ شريف يخشى أن يحصل عندنا الشيء نفسه الذي حصل في الغرب بعد انتصار الحداثة: أي غياب الدين عن الساحة العامة للمجتمع، أو تقليص وجوده إلى أقصى حد ممكن. وفي كل مرة يحاول جاك دريدا أن يفهمه بأن العلمنة، أو فصل الدين عن السياسة، لا تعني إطلاقا القضاء على الدين أو ازدراءه أو تهميشه. وإنما تعني فقط نيل حرية الاعتقاد والضمير، وعدم قمع الوعي الفردي بأي شكل كان. بل ويعتقد الفيلسوف الفرنسي أن التمييز بين الدين والسياسة أو عدم الخلط بينهما سيكون لصالح الدين لا ضده، على عكس ما يتوهم معظم الناس في العالم الإسلامي.

لماذا؟ لأن الدين لن يعود ملوثا بالشؤون الدنيوية والمناورات السياسية المتقلبة بطبيعتها، ولن يعود مستخدما كأداة لتحقيق مصالح هذه الفئة أو تلك، وإنما سيعود إلى جوهره الروحاني المنزه المتعالي. ولكن هذه المحاجة لم تقنع مفكرنا الجزائري إلا جزئيا على ما يبدو. ولذلك يظل يعود إليها في كل مرة. فهو يخشى أن يحصل فعلا تهميش للدين الإسلامي بحجة التقدم والحداثة، كما أنه يشير بشكل واضح إلى التناقض الصارخ بين عالم الإسلام وعالم الغرب. ففي الغرب تنعدم القيم الروحية وتسود الإباحية الجنسية، أما في الشرق فتسود قيم التشدد والإكراه في الدين أحيانا دون أن يعني ذلك أن أغلبية المسلمين متعصبون. وبالتالي فكيف يمكن أن تجمع بين عالمين متناقضين إلى مثل هذا الحد؟ إذا كانت قيمي مضادة لقيمك، فكيف يمكن أن نتلاقى؟ قد تكون الصورة كاريكاتيرية إلى حد ما ولكنها تعبر عن جزء من الحقيقة. فكلما زاد الحجاب والتحجيب في البلدان الإسلامية، زاد العري وإظهار المفاتن في الدول الأوروبية! مؤخرا اشتكت المدارس الفرنسية من مجيء الفتيات إلى الصف بثياب أقصر من اللزوم: ميكرو جيب. وبالتالي فقد احترنا: أحيانا يجئن متحجبات وأحيانا عاريات!

يحصل ذلك كما لو أنهن يفعلن ذلك عن قصد في كلتا الجهتين نكاية ببعضهن البعض. ألا يوجد حل وسط؟ خير الأمور أوساطها. هناك لباس محتشم وجميل في الوقت ذاته. فلماذا التطرف في هذا الاتجاه أو ذاك؟

ومرة أخرى يسأله المفكر الجزائري: لماذا يحتقر الغرب الدين؟ فيرد عليه الفيلسوف الفرنسي: فصل الدين عن الدولة أو السياسة لا يعني أبدا احتقار الدين. وإنما يعني تأمين الحرية الدينية، أي أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تذهب إلى الكنيسة أو لا تذهب على الإطلاق! فالإيمان عن خوف ليس إيمانا، والإكراه في الدين ليس مرغوبا ولا مستحبا.. ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن الغرب بالغ في الاتجاه المعاكس: أي في الابتعاد عن الدين والروحانيات وعبادة الماديات والشهوات الاستهلاكية التي لا نهاية لها. ومن هذه الناحية فإن مصطفى شريف على حق. كما أنه على حق عندما يقول إن الإسلام ليس الأصولية المتعصبة. هذا، ناهيك عن الإرهاب. فكما أن الإنجيل ليس مسؤولا عن محاكم التفتيش المرعبة فإن القرآن الكريم ليس مسؤولا عن 11 سبتمبر والتفجيرات الإرهابية. ولكن البعض يرد قائلا: إن مقاطع العنف قليلة جدا في الإنجيل إن لم تكن معدومة، هذا في حين أنها موجودة في القرآن والتوراة، وبكثرة أحيانا. ولكن يمكن الرد على ذلك عن طريق القول إن الآيات القرآنية الكريمة التي تدعو إلى العفو والصفح والمغفرة أكثر من آيات العنف بكثير. وبالتالي ينبغي أن يكف الغرب عن اتهام القرآن بأنه كله عنف في عنف. هذا خطأ ودليل على الجهل بجوهر القرآن والإسلام. ولكن يبقى السؤال مطروحا: لماذا لم ينتصر التأويل العقلاني المستنير للإسلام على التأويل المتعصب الظلامي حتى الآن؟ هذا السؤال يحاول جاك دريدا أن يطرحه بشكل غير مباشر لكي لا يصدم محاوره الذي يظل على الرغم من حسن نيته وسعة اطلاعه أقرب إلى التقليديين من بعض النواحي. ربما كان يراعيهم أكثر من اللزوم. ولكن ربما كان محقا في تنبيه جاك دريدا إلى أهمية الجوانب الروحانية والأخلاقية للدين. ومن هذه الناحية فهو يلتقي مع رجل دين كبابا روما أكثر مما يلتقي مع فيلسوف علماني محض كجاك دريدا. فلا ريب في أن الدين يقدم الطمأنينة للروح المعذبة القلقة، وخاصة أمام الموت. إنه يقدم لنا الغائية الأخروية التي تعني استطالة الحياة ما بعد الموت. وبالتالي فهو ينقذنا من الاحتمالية المرعبة للعدمية والفناء الأبدي. وهذه نقطة لا يستهان بها وتحسب لصالح المفكر الجزائري المؤمن. ولكنها لا تلقى أي صدى لدى جاك دريدا، على الرغم من أنه كان مشرفا على الموت بعد إصابته بالسرطان. بل ومات بعد أشهر قليلة من إجراء الحوار، وقد رثاه مصطفى شريف بشكل مؤثر وصادق فعلا في الكتاب نفسه.

هناك فكرة عميقة يركز عليها جاك دريدا، وهي أن السيطرة على المعرفة العلمية التكنولوجية لا تؤدي بالضرورة إلى الاستنارة الفكرية، ولا إلى شيوع القيم الأخلاقية والعدالة والديمقراطية في المجتمع. والدليل على ذلك أن أتباع الحركات الأصولية المتطرفة يسيطرون تماما على التكنولوجيا الحديثة من معلوماتية وسواها، ومع ذلك فإنهم متخلفون من الناحية العقلية والفكرية. بمعنى آخر، إنهم يعانون من انفصام الشخصية. فهم يأخذون من الغرب أجهزته التكنولوجية ويرفضون الفلسفة العلمية التي أدت إليها. ولذلك يبدو جاك دريدا غير آسف على إيقاف العملية الديمقراطية في الجزائر بعد أن أوشك الأصوليون على الوصول إلى السلطة في أوائل التسعينات من القرن الماضي. كل شيء يحصل كما لو أنه يريد أن يقول: لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، أو لا حرية لأعداء الحرية. وهنا يضع الفيلسوف الفرنسي الشهير يده على الجرح، أو على المعضلة الأساسية التي تواجه كل العالم العربي الإسلامي حاليا: هل نقبل باستمرار الأنظمة الحالية، أم نريد ديمقراطيات تنتصر فيها الأحزاب الأصولية؟ فالديمقراطية الشكلانية الناتجة عن صناديق الاقتراع سوف تؤدي حتما إلى انتصار التنظيمات الأصولية المتخلفة المضادة لكل الفلسفة السياسية الحديثة وحقوق الإنسان. وهذه هي أفضل طريقة لمصادرة الديمقراطية باسم الديمقراطية! انظر ما حصل في إيران، أو حتى ما حصل في غزة بعد انتصار حماس مثلا. ولكن في الوقت ذاته هل يمكن أن تستمر أنظمة بوليسية قمعية مقطوعة عن قواعدها الشعبية؟ هنا تكمن المعضلة المحيرة لعالمنا العربي، أو لبعض أنظمته على الأقل. ربما كان الحل يكمن في ظهور تيار إسلامي مستنير ومسؤول على طريقة أردوغان في تركيا. وهذا هو الحل الوسط.

هناك نقطة يتفق عليها المفكران العربي والفرنسي: هي تلك المتعلقة بالعولمة الأميركية الجائرة. وهي عولمة لا إنسانية تؤدي إلى تجويع ثلاثة أرباع المعمورة، ولا تقل خطورة عن الحركات المتزمتة الإرهابية التي تحاربها. وبالتالي، هناك أصولية رأسمالية أيضا، وليس فقط أصولية دينية. وأكبر دليل على أصولية الغرب ولا أخلاقيته اندلاع الأزمة المصرفية الشهيرة بسبب جشع أصحاب البنوك والمضاربين المصرفيين وبقية الرأسماليين. وبالتالي، ليكف الغرب عن اتهامنا بالأصولية، وليكنس أمام بيته أولا.

في الواقع أن البشرية وجدت نفسها مؤخرا بين فكي كماشة: عولمة بوش والمحافظين الجدد من جهة، وإرهابيي القاعدة وسواها من التنظيمات المتطرفة من جهة أخرى. وهكذا أصبح العالم رهينة للتطرف والتطرف المضاد. ثم يردف المفكر الجزائري قائلا: هل نعلم أن المساعدات التي تقدمها البلدان الغنية للبلدان الفقيرة لا تتجاوز 0.2% من ميزانيتها العامة؟ بل وفي حالة الولايات المتحدة لا تتجاوز 0.1%. وهل نعلم أن العالم الثالث تحول إلى عالم رابع من حيث التخلف والفقر والجوع؟ هذا في حين أن الثروات الأسطورية تتكدس وتتراكم في بلدان الشمال الأوروبي الأميركي. حقا إن الصورة لا تدعو للتفاؤل في هذا العصر المتأزم المحتقن.

ثم يضيف المفكر الجزائري قائلا إن نتائج 11 سبتمبر كانت كارثة بالنسبة للعالم الإسلامي. فالحقد على الإسلام أصبح عاما شاملا. ودعاية صدام الحضارات على طريقة المحافظين الجدد أصبحت سائدة، واحتلال العراق يغوص في مستنقع الدم، ومأساة الشعب الفلسطيني تزداد تفاقما. ثم يحذر مصطفى شريف دول الغرب قائلا: إن مثل هذا الوضع ليس لمصلحة أحد، بمن فيهم الشعب الإسرائيلي نفسه. وبالتالي فإذا لم تتغير سياسة الدولة الأعظم في العالم ومعها دولة إسرائيل ذاتها فإننا نسير جميعا نحو الهاوية.. وقد أعذر من أنذر. وأخيرا فإن السؤال المطروح هو التالي: هل يستطيع الرئيس أوباما أن يعكس الآية؟ إنه يحاول بدون شك. ولكن هل ينجح؟ هذه مسألة أخرى. كلنا يتمنى ذلك.