الكتب تقاسمني أمكنتي

رحلتي مع الكتاب

TT

لنا نحن - جيل الحرب في لبنان - علاقة خاصة بتجربة الأحزاب، جمعتنا بها صلات آيديولوجية وثقافية وشبكتنا دوائر من الألفة والصداقة. لقد أسهمت هذه الأحزاب في تفتّح وعينا مبكرا خصوصا منها الأحزاب العلمانية كالشيوعي والقومي السوري ومنظمة العمل، وهي أحزاب كانت تضع من بين أولوياتها تثقيف عناصرها الشابة. لقد اقترنت قراءاتي الأولى ببدايات تواصلي مع «حلقات أصدقاء» لخلايا الحزب الشيوعي اللبناني، كنت في عمر السابعة عشرة مندفعة نحو الأفكار التحررية التي يحملها هذا الحزب، أردت أن أعرف أكثر عن الثورة البلشفية وعن كارل ماركس ولينين ونيكيتين، قرأت «الاقتصاد السياسي» وأهم نظريات «رأس المال»، وقد تلقّف شغفي متحمسون مثلي، شباب وفتيات سبقوني إلى الانخراط في صفوف اليسار، كانوا يعقدون أسبوعيا جلسات تجمع أبناء الحي نفسه ومن السن نفسها، يناقشون معا كتبا محددة ننكبّ على قراءتها طوال أيام الأسبوع.

القراءة بالنسبة إلي هي مصدر الوعي، قرأت مبكرا كتبا من العيار الثقيل: «عشرة أيام هزّت العالم» لجون ريد، الكتاب ذا الغلاف الأزرق الفيروزي الذي وضعني على طريق فرعي بعيدا عن مسالك أخرى كان يمكن لي أن أختارها. قرأت تباعا «الجدلية المادية» و«الديالكتيك» ومن ثم «رأس المال» لكن بشغف أقل لصعوبة النظريات التي يحويها، وهكذا بقيت قراءاتي محصورة في إطار آيديولوجي محدد، قبل أن أنتقل لاحقا إلى قراءة الروايات، وغالبا ما أتذكر قلق والدتي من تلك الكتب وإمكانية تفتح ذهني على واقع العالم والتعرض لعملية «غسل دماغ» كما كانت تقول بعفويتها، مدركة قدرة الأفكار بالتراكم على تحويل مسارات الناس وأقدارهم.

«مائة عام من العزلة» للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز كانت الرواية الأولى التي سرّبت الخيال والغرابة إلى عالمي، ومن ثم «الحب في زمن الكوليرا»... هذا الماركيز قلب رأسي فسابقته على قراءة كل جديد له، كنت شغوفا بجورجي أمادو وخصوصا رائعته «غابرييلا قرنفل وقرفة»، تأثرت عميقا بالطيار ألكسي ميريسييف الذي تجاوز إعاقته ليحلّق أبعد من حدود السماء. لم أكن أفرغ من رواية حتى أبدأ الأخرى، قرأت في ميناء حنا مينا وبحره، غُصت في «سمرقند» أمين معلوف وحدائقه الروحية، بهرتني «الخيميائي» لباولو كويلو وكتب غادة السمان و... أدمنت الكتب التي تقاسمني منذ ذلك الزمن أمكنتي: الأريكة.. والسرير.. وكورنيش البحر.. ومقاهي شارع الحمرا البيروتي...

لقد أدركت أن الكتب هي حياة أخرى، حياة حقيقية من دون جدال. لا يترك لك الكتاب مجالا للتراجع وتصبح بعده شخصا مختلفا عما كنته. صحيح أن للكتب تأثيرا مختلفا من قارئ إلى آخر، لكن الكتاب يجعلنا متكافئين مع الآخرين، لا بل متفوقين على أنفسنا. نحن نتاج ما نهلناه من مئات الكتب في المدرسة والجامعة والحياة عموما، إنها تملؤنا ونخوض معها أماكن يصعب الخوض فيها بالواقع. غالبا ما أرهقتني العودة من عوالم هذه الكتب، إلى حد أنني انقطعت لفترة طويلة عن قراءة الروايات تحديدا لصعوبة فك ارتباطي معها وعلاقة الوحدة التي تحيل خروجي منها أمرا فيه معاناة. اتجهت نحو كتب من نوع آخر لكني عدت أخيرا بشغف إلى قراءة هذا النوع الأدبي ونجحت أن لا أقيم في جغرافيا الرواية، وأن أتأثر إلى حد أقل بعوالمها كي أحقّق المتعة والمعرفة. لا أخفي خجلي في كل مرة أدخل فيها إلى مكتبة بيسان أو أنطوان، أعرق مكتبتين في بيروت، أو أزور معرضا للكتب، أخجل أمام مئات العناوين التي قصّرت في قراءتها، أشتري المزيد وأعاهد نفسي بأنني سأرفع منسوب ساعات القراءة، لكنني لا أوفق إلا نسبيا.

* إعلامية لبنانية