حين يتحول الصحافي إلى مقاتل

كانت من أكثر المراحل خطورة في تاريخ الصحافة

TT

في يوليو (تموز) 1936، نشبت الحرب الأهلية الإسبانية واستمرت حتى أبريل (نيسان) 1939. انطلقت الشرارة الأولى للحرب بتمرد قومي يميني للجيش ضد الحكومة الجمهورية اليسارية، ثم تحول القتال إلى ساحة للصراع الآيديولوجي شارك فيه أفراد وحكومات من خارج الدولة الإسبانية، وبرز إلى الوجود شكل دموي للحرب أصبح سمة للحروب التي شهدها القرن العشرين. في ذلك العام، كان هتلر يفتتح دورة الألعاب الأولمبية، ولم يكن أحد يدرك أن العالم كان يتجه نحو حرب عالمية ثانية، وأن تلك الحرب قد بدأت فعلا في إسبانيا. طرفا تلك الحرب الأهلية هما القوميون بقيادة تمرد الجيش ومساندة رجال الدين وملاك الأرض وتنظيم الفلانج، أي الكتائب، الفاشي، وكان هذا الفريق يتلقى الدعم الأجنبي من إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، يقودهم جنرالات الجيش الإسباني منهم قائد الانقلاب على الشرعية الجمهورية الإسبانية بمدريد الجنرال مولا في الشمال وفرانشيسكو فرانكو في الأندلس وجنرالات آخرون، أما الطرف الآخر فهم الجمهوريون بقيادة الزعيمين الاشتراكيين لارغو كاباليرو وخوان نغرين والرئيس الليبرالي مانويل أزانا، يدعمهم موظفو الدولة والطبقة الوسطى المتعلمة والشيوعيون المسلحون وجميع اليساريين.

في تلك الحقبة، كان يوجد على الأرض الإسبانية نحو ألف مراسل صحافي أجنبي، قتل على الأقل 5 منهم، وجرح عدد كبير، وسجن نحو 12 على يد قوات فرانكو. كانت الحالة كما وصفها أحد هؤلاء المراسلين «مرحلة جديدة من أكثر المراحل خطورة في تاريخ الصحافة».

خلال صفحات هذا الكتاب المتميز لباول بريستون تظهر أسماء بعض المراسلين والكتاب الكبار في تلك الفترة منهم ارنست همنغواي، وجون دوز باسو، وآرثر كوستلر، وآرتورو بيريا، مارتا جلهورن وهربرت ماتيوس، إضافة إلى أعداد أخرى منهم إليا إيرنبورغ، وجورج أورويل، آندريه مالرو وأنطون دي سنت – أكسيوبري، ممن تواروا سريعا عن الأنظار. لكن المراسلين الذين يشكلون بالنسبة للمؤلف اهتماما أكثر هم أولئك الذين كانت أعمالهم معروفة بشكل جيد لجميع القراء الذين تهمهم الحرب الأهلية مثل جي ألان، وجورج ستير، ولويس فيشر، وميخائيل كولتسوف وهنري باركلي. وحتى هؤلاء لا يمثلون إلا نخبة قليلة من الصحافيين الأساسيين الناطقين بالإنجليزية والفرنسية الذين ربطوا عملهم الصحافي هذا بوجودهم الحياتي.

من دون شك، كانت تلك الحرب خطرة، لكنها حالة تدفع إلى تحديات جديدة بالنسبة للمراسلين واستمر صداها يتردد حتى الآن: هل يمكن للصحافيين أن يكونوا من المحاربين الأنصار وفي الوقت نفسه يلتزمون جانب الحقيقة؟ وهل يمكنهم بشكل مكشوف دعم الجانب الذي يكتبون عنه ويبقون موضوعيين؟ وهل كان المراسلون الأنصار النشيطون الذين يرسلون تقاريرهم إلى مكاتب خدماتهم الأمنية الوطنية يخونون مهنيتهم؟ باختصار: هل كان كل هذا خطوة ارتدادية إلى أسفل طريق لولبي زلق حيث في النهاية تم التضحية بـ«الحقيقة»؟ ولكن، وكما هو اعتيادي في مثل هذه الحالات، فإنه من الضروري بداية الأخذ في الاعتبار الظروف التي نشأت فيها هذه التحديات.

«ركبت الترام الرخيص بعد ظهر ذلك اليوم متجها إلى الجبهة» كتب وليم فورست من صحيفة «الديلي إكسبريس»، فاعلا مثلما فعل مئات، بل ألوف، من المدنيين الذين تمت تعبئتهم للقتال. وفقط في اللحظة الأخيرة وصلت إلى مدريد الألوية العالمية والدبابات السوفياتية والطائرات المقاتلة والمستشارون العسكريون لدعم وتعزيز معنويات السكان المحاصرين للمقاومة. «من الطبيعي أن لا يكون من الممكن إنسانيا عدم الشعور بالانفعال، أو حتى الابتهاج في هذا التحول المفاجئ للأحداث: أن توجه إسبانيا الحديثة الديمقراطية صفعة للفرانكويين، حينما رفض نظراؤها القدامى؛ بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، توفير الدعم للجمهوريين، الذي يستحقونه وفق القانون الدولي»؛ كتب أحد المراسلين.

على مثل هذه الأسس الثابتة شعر المراسلون بأنهم لا يستطيعون إلا أن يكونوا من المقاتلين الأنصار. كل يوم أصبحوا فيه شهود عيان على الإندحارات والتضحيات وعلى جثث النساء والأطفال الممزقة أشلاء بفعل القنابل.. يشاركون المواطنين جوعهم وبردهم. وحتى هربرت ماتيوس، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز»، الذي تعاطف مع «التأثير الحضاري» للفاشية الإيطالية في الحبشة، كتب من مدريد يقول: «لا أحد يعلم ما الذي يحدث هنا، ولا أحد ممن يدعي الصدق والأمانة الثقافية يمكن له أن يبعد نفسه عن اتخاذ جانب ما». إذن فقد غاب الموقف الطبيعي للمراسلين حول البعد الحيادي. «كل هذه الموضوعية محض هراء»؛ كتبت المراسلة الأميركية مارتا جلبورن، التي كانت معارضة أخلاقية. لم تكن الكتابة بذلك الحماس والتأثير بعيدة عن حقيقة ما رأته هذه المراسلة أو أي مراسل آخر. إن الأنصار والموالين وكل أولئك الذين هبوا للمساعدة كانوا «يحاربون من أجلنا جميعا ضد القوى المتحدة للفاشية الأوروبية» كتبت ذلك في ما بعد.

على ضوء تدخل القوى الفاشية وعدم تدخل الديمقراطيات الغربية لدعم الجمهوريين، فإن الحرب تمركزت بالنسبة للمراسلين الأجانب على أبعادها الأممية المناهضة للفاشية. إن الأكثر وعيا من بينهم قد أدرك بوضوح أن الحرب الأهلية كانت النذير لحرب لاحقة كبرى لا يمكن منعها إذا لم يتم دحر الفاشية في إسبانيا. كان هؤلاء المراسلون مميزين، شعروا بأنهم «يكتبون المسودة الأولى للتاريخ»، كما كتب هربرت ماثيوس، وكانوا ساخطين بسبب مواقف بلدانهم المتخاذلة.

في الواقع، كانت تقارير هؤلاء الصحافيين تخضع للرقابة من كلا الفريقين، خاصة من الفرانكويين، ثم بصورة أشد من قبل صحفهم خاصة. هربرت ماتيوس وجي ألان وحتى همنغواي كانوا يتذمرون من أن تقاريرهم كانت تعطل أو تحور. يرى ماتيوس أن رؤساء التحرير الكاثوليكيين في صحيفة «نيويورك تايمز» كانوا يعاملون تقاريره بنوع من «الشك والغضب وأحيانا بعدم الثقة». ويتلاعبون بكلماته ويطمسون الروايات الموجودة داخل الصفحات، معتقدين أنها تخدم الجمهوريين، مانحين الأفضلية لخصوم ماتيوس في قطاع الانقلابيين، «ممن تم كشفهم أكثر من مرة متلبسين في اختلاق القصص المفبركة». ثلاثة تقارير صحافية أجراها جي ألان، تعتبر من أهم التقارير في هذه الحرب؛ الأول هو المقابلة الخاصة مع فرانكو في الأيام الأولى التي أعقبت التمرد في المغرب المستعمر من قبل إسبانيا، والثاني، هي آخر مقابلة أجريت مع أنطونيو بريمو دي ريفيرا، مؤسس الكتائب وذلك قبل إعدامه في سجن حكومي، ثم تقرير عن المجزرة التي ارتكبتها القوات الفاشية المتمردة في حق باداجوز، وتصفية كل من فيها، بلا استثناء، بعد السيطرة على المدينة. ومع كل جهوده هذه، فصل من قبل الجناح اليميني في صحيفة «شيكاغو تريبيون»، لكنه استمر على ولائه للجمهوريين، مرسلا تقاريره إلى صحف أخرى خلال فترة الحرب.

من خلال صفحات الكتاب نجد أن هؤلاء المراسلين مقاتلون متحمسون في الوقت ذاته؛ همنغواي، وفيشر، وألان ستير، وجلهورن، كلهم وقفوا إلى جانب الجمهورية والجمهوريين، وكانوا دقيقي التفاصيل في ما يتعلق بعملهم وكانوا شديدي الحرص على أن لا تصل تقاريرهم إلى مكاتب استخبارات بلدانهم خشية إتلافها أو تشويهها. وما تقرير ستير إلى مجلة «ذي تايمز» عن قصف النازيين لمدينة غيرنيكا إلا دليل على هذا الحرص. كان هذا التقرير واحدا من أهم تقارير الحرب، حيث أوصد الباب أمام أية محاولة من قبل أتباع فرانكو لتشويه ما شهده ستير.

كتاب بريستون يتصف بالحماس كتقارير المراسلين من على خط النار. كتب بحيوية ونشاط لكي يتسق وهذه التقارير. يمكن اعتبار الكتاب أيضا بمثابة رقيب ومؤرخ لإسبانيا في ثلاثينات القرن الماضي ورواية لأحداث الحرب الأهلية الإسبانية بروح الدعابة أو المأساة مثل إعدام الصحافي الروسي ومراسل صحيفة «البرافدا» كولتسوف على يد ستالين، وهو قدر شاركه فيه كثير من الروس الذين ساهموا في تلك الحرب. المؤلف بريستون لا يغفل دور المراسلات من النساء ويخص بالذكر جوزي هربست، الروائية الأميركية، ومواطنتها كيتي بولر والسويدية باربرو ألفنغ. وفي فصل مثير حول المراسلين المهمين والمشهورين، يفصل المؤلف ثنايا حياتهم المبكرة ومواقفهم السياسية وقصص حبهم، وما آلوا إليه بعد الحرب. وفي وصفه لحصار مدريد، خصص الكاتب حيزا للمشاهد الليلية الصاخبة في فندق «فلوريدا»، حيث كان يرتاده كثير من المراسلين والجواسيس وتجار السلاح والمومسات أو يقيمون فيه. ويذكر أن همنغواي أعاد تصوير هذه المشاهد في «عاهرات المعركة».