أتوحم أن أحمل ثلاثمائة كتاب في حقيبتي

TT

عزيزي جوهانز غوتنبرغ، ليتك تحضر فورا كي نفرح معا بهاتفي الأريب، ذي العرى الوثيقة بالشبكة الكونيّة. عبره، سنجمع أحرفا باللغات التي نتقن، ونرسل رسائل نصّية وإلكترونيّة لكلّ من نحبّ. ليتك معي في هذه اللحظة التاريخيّة المدهشة كي نتفكّر ونعمل ونلهو بواسطة الحواسيب وما لفّ لفّها من تقنيّات. أفليست هذه الآلات، أوطاننا الجديدة، البرهان الدّامغ أنّ لحظتك الطباعية الأولى - تلك التي قلبت حياة أجدادنا رأسا على عقب، وسحرتنا - لم تذهب هباء رغم ما راب عالمك، عالم المكتوب، من مدّ وجزر؟ هل تخيّلت لحظة، وأنت واقف في محترفك ممسكا أحرفك القصديريّة بالملقط، أن مواطني العالم الضاجّ باللغات واللهجات سيصيرون، كلّهم، بين ليلة وضحاها منضّدي الكون وكاتبيه؟

الهواتف، وما أكثرها في زمن انتصارها الفاحش، ترنّ بلا كلالة؛ فمن ذا القادر على المجاهرة بتخلّيه عن جليل خدماتها؟ من ذا الذي يتجرّأ وينكر ما تقدّمه لنا المحطّات التلفزيونيّة البابليّة الألسن من مشاهد لا استغناء عنها؟ من ذا القادر على مقاطعة ما جهّزنا به العصر من عتاد؟ إنّه زمن الهاي تكنولوجي، زمن الآلات والتقنيّات الجماهيريّة المبسّطة القارنة الظرف بالجد والمشافهة بالمكاتبة والملتهمة جلّ وقتنا ومداخيلنا.

تعال أيّها السيّد الصديق ترَ العجب.. ترَ أعناقنا مغلولة إلى شاشاتنا: شاشة الحاسوب والهاتف، وقريبا الكتاب الإلكتروني، وسيحيّرك، على ما أظنّ، ما آلت إليه القراءة والكتابة بعد أن عُدّلتا جينيّا.

يوم طبعت كتابك الأوّل في العام 1455 كانت القراءة والكتابة والنّسخ والطباعة الحرفيّة حكرا على صفوة من العلماء والفقهاء الحاذقين، يستأثرون بكنوزهم الثمينة، غير راغبين بتعميمها. أفلا يُضنّ بالنّادر الخطير؟

بلى! ضُنّ بالحروف وما وراءها طوال قرون. ثمّ دارت رحى الحياة دوراتها الشاهقة وراجع البشر أفكارهم بالحروب والثورات تارة، والابتكارات وغيرها طورا، فرأى من أتيح له التأثير بالمصائر والدول أن تصير القراءة والكتابة بمتناول السواد، فأرسل من أرسل إلى المدارس والمعاهد والجامعات، وصار العلم بكلّ أصوله وفروعه هو المنصّة التي انطلقت منها العقول لاجتراح أبدع الاختراعات والفنون.

بالعلم وما يسانده من قراءة وجدّ وكتب اختطّ آباؤنا طرقهم وطرقنا؛ ولمّا وصلوا إلى بعض ما حلموا به وتيقنوا أن التكنولوجيا وتسويقها قد انتصرا على العقل وقيمه تخلّى جلّهم عمّا يمثّله الكتاب من قيم..

سيّدي الجليل، كثيرون اليوم، والزمن نفعي بامتياز، يجافون الكتب كما حلمت أنت بها. أمّا الأقليّون، الحاملون ما تمثّله القراءة والكتابة عن الناس جميعا، فهؤلاء أهلي وإليهم وإلى مطبعتك الحِرفيّة وإلى كلّ من يجمع حرفا إلى حرف أنتمي.

ما زالت الجرائد والكتب الورقيّة حاضرة في حياتي اليوميّة، علما أنّ أربعة من قواميسي موجودة على حاسوبي. ولن أفشي سرّا إن قلت لك إنني أتوحّم، منذ سنوات، ذلك الكتاب الإلكتروني اللذيذ المتيح لي أن أحمل ثلاثمائة كتاب - وهي سعة الكتاب الإلكتروني اليوم - في حقيبتي.. لا تنظر إلي بريبة واستغراب. كلّ ما حولنا اليوم كثير وعملاق ونهم سوى الأفئدة؛ والأفئدة في لغتنا الأثريّة لا تعني القلوب قطعا، بل العقول أحيانا.

السيّد غوتنبرغ، عالمنا التكنولوجي العملاق بأسواقه وأنيابه وقسوته قد ردّ القراءة كفعل عقلي حرّ إلى أهلها الأوائل، إلى أقلّيها وكرامها، فلا يغرّنك مشهد الملايين الجالسين أمام شاشاتهم.. هؤلاء افتراضيّون ليس إلا، قرصنوا القراءة والكتابة وقد شبّه لهم أنّهم أسياد العالم. أسياده ربما، بيد أننا أنت وأنا وكلّ من يقرأ بالرّوح لسنا منهم والسلام.

* روائيّة وناشرة لبنانية.