السينما الفرنسية تغزو العالم عندما تنطق بالإنجليزية

أرقام قياسية في نسبة الإقبال على الشاشة الذهبية في عاصمة النور

TT

دراسة نشرها «المعهد الوطني للسينما» في باريس تؤكد بالأرقام أن السينما الفرنسية تعيش انتعاشة لا سابق لها، سواء بالنسبة لعدد الأفلام المنتجة الذي وصل إلى 230 فيلما في السنة أو بالنسبة لعدد المتفرجين الذين بلغوا الملايين أو حتى المداخيل التي تتصاعد سنويا. وقد لجأ الفرنسيون إلى استراتيجيات جديدة بحيث إنهم عدلوا عن مواضيعهم الواقعية، وأنتجوا أعمالا ضخمة، وبعض أفلامهم باتت تنطق بالإنجليزية لأسباب تجارية.

بعد عشرية من التألق والإقبال الجماهيري، تواصل السينما الفرنسية مسيرتها الناجحة، وكل الدلائل تشير إلى أنها ماضية قدما نحو مزيد من التطور، ضاربة عرض الحائط بالآراء المتشائمة التي تنبأت بموتها منذ عام 1990 بعد انفجار القنوات التلفزيونية وانتشار ألعاب الفيديو وظاهرة تحميل الأفلام، هذا على الأقل ما كشف عنه المعهد الوطني للسينما والصور المتحركة (سي إن سي) في تقريره السنوي الأخير، متحدثا عن انتعاش منقطع النظير لهذا القطاع الفني الحيوي.

التقرير أفاد بأن السينما الفرنسية نجحت سنة 2009، وللمرة الأولى منذ 27 عاما في اجتياز حاجز الـ230 فيلما منتجا. وهو رقم قياسي على الصعيد الأوروبي حيث اكتفت ألمانيا بإنتاج 100 عمل سينمائي، وبريطانيا 130، وإيطاليا 150 فيلما.

كما كان إقبال الفرنسيين على الشاشات الذهبية أقوى من إقبال جيرانهم أيضا، حيث وصل عدد التذاكر التي بيعت في دور العرض إلى أكثر من 200 مليون تذكرة. وهو ما يمثل زيادة 5 في المائة عن عام 2008. علما بأن السينما الفرنسية لم تكن قد وصلت إلى هذه النتائج الجيدة منذ سنة 1982 حين كان التلفزيون الفرنسي لا يملك أكثر من ثلاث قنوات تلفزيونية.

لكن الإقبال الشعبي والأرقام القياسية ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة. فالسينما الفرنسية تأخذ منذ سنوات منعطفا جديدا فيه نزعة نحو المغامرة والتنوع مع الابتعاد عن الطابع الواقعي الروائي الذي كان قد صنع مجدها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وهو ما جاءت لتؤكده دراسة «المعهد الوطني للسينما»، لافتة الانتباه إلى أن إبداعات الموجة الجديدة لغودار وتروفو قد تركت مكانها لأعمال لوك بيسون (سبيلبرغ الفرنسي) ذات الميزانيات الضخمة والناطقة باللغة الإنجليزية (تاكن، تراستبورتغر)، وإن كان هذا الأخير يعمل تحت راية الألوان الفرنسية، فهو يروج أيضا للغة شكسبير وثقافة الهامبورغر. الموجة الجديدة من المخرجين التي تمثل هذا التيار ترفض الدخول في مثل هذا الجدال الذي تراه «عقيما». يقول المخرج لوي لوتولي منفذ فيلم «هولك العجيب»: «ما معنى أن يكون لعمل درامي جنسية معينة، ولماذا نحاول إلصاق هوية محددة بعمل لا يعبر إلا عن الرؤية الفنية لصاحبه، فبيكاسو رسم في باريس وفي مدريد ولندن، ولكن لا أحد يتحدث عن لوحات فرنسية أو إسبانية، وإنما عن لوحات تحمل بصمات الفنان المبدع بيكاسو وحسب».

الملامح الجديدة لهذه السينما تكشف أيضا عن ميول نحو الأفلام التجارية وعلى رأسها الأفلام الكوميدية، وليس من قبيل الصدفة أن تحتل 5 منها مرتبة الريادة في قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة في العشرية الأخيرة. كما يظهر تطلع غير معهود لفضاءات جديدة لم يتم الاهتمام بها من قبل، كأفلام الكرتون التي تحقق إيرادات كبيرة في فترات الأعياد (إغور، والقصة الحقيقية للقط المحتذى..).

وإن كانت الأفلام الأميركية قد احتلت كعادتها قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة سنة 2009، فإن كثيرا من الإنتاج المحلي عرف نسب إقبال مهمة بدرجات متقاربة، دون أن يكون هذا النجاح قد خص عملا مميزا دون آخر، كما حدث مع السنة التي سبقتها. وفيلم «مرحبا في بلاد الشتي» للمخرج والممثل داني بون، الذي انفرد بتحقيق إيرادات خرافية، حيث شوهد من قبل أكثر من 20 مليون متفرج في فرنسا ودول الجوار. من بين الأعمال التي تم إنجازها هذه السنة 21 فيلما تجاوز عدد مشاهديها حاجز المليوني متفرج، و7 أخرى كوميدية، شاهدها أكثر من 4 ملايين متفرج. على رأس هذه الأعمال فيلم «لوبوتي نيكولا» المقتبس من السلسلة المصورة المشهورة للمؤلف سومبي والرسام غوسيني التي شوهدت من قبل 6 ملايين متفرج، وكذلك فيلم «لول» الذي يعالج مشكلة تدهور العلاقات بين أم وابنتها المراهقة في قالب كوميدي. وهو من بطولة الممثلة المعروفة «صوفي مارسو». وكان نجاح هذا الفيلم الذي جلب أكثر من 3 ملايين متفرج قد آثار شهية منتجي هوليوود الذين قرروا إنتاجه بنسخة أميركية.

نجاح الأفلام التجارية لم يحجب الضوء عن أفلام روائية كانت قليلة لكنها جاءت متميزة حازت النجاح الفني، ونجحت في الوقت نفسه في استقطاب جمهور مهم. أهم هذه الأعمال فيلم «النبي» لجاك أوديار، الذي يروي قصة شاب من أصول عربية يعيش تجربة السجن القاسية ويخرج منها زعيما، وقد دخله وهو شاب ضعيف دون أي تجربة. وقد حاز هذا العمل إعجاب النقاد واعتبر من بين أفضل أفلام السنة، كما فاز بأكثر من 9 جوائز في مهرجان «السيزار» الفرنسي وجائزة «الغراند جوري» في «مهرجان كان الدولي» وجوائز أخرى كثيرة، وكذلك فيلم «لوكونسر» أو«الحفل الموسيقي» الذي شاهده نحو مليوني متفرج.

لكن التقرير السنوي لـ«المعهد الوطني للسينما والصور المتحركة» (سي إن سي) لم يحمل الأخبار السارة فقط، بل كشف الضوء أيضا عن نقطة سوداء ظلت تلاحق السينما الفرنسية منذ ظهورها، وهي ضعف الإقبال الجماهيري عليها في الخارج. فبعد أن كانت الأفلام الفرنسية قد استمالت نحو 80 مليون شخص سنة 2008، تراجعت في السنة التي تلتها بنسبة 20 في المائة، ولم تستقطب سوى 66 مليون متفرج في جميع أنحاء العالم، 9 أفلام فقط اجتازت حاجز المليون متفرج مقابل 15 فيلما عام 2008. التراجع كان واضحا في بعض الدول، وبخاصة روسيا التي تربطها بفرنسا معاهدات تعاون سينمائي منذ 1967، والتي تراجع فيها الإقبال على الأفلام الفرنسية بنسبة 70 في المائة. وهي نسبة أثارت الهلع في نفوس الموزعين والمنتجين الذين طالما اعتبروا روسيا سوقا مهمة للأفلام الفرنسية، بنسبة لم تنزل أبدا عن 6 في المائة. التراجع خص أيضا إيطاليا 61 في المائة، وكذلك إسبانيا 40 في المائة وبريطانيا 67 في المائة. وإن كان الإقبال جيدا في دول كالولايات المتحدة الأميركية واليابان والصين خصوصا التي عرفت زيادة مذهلة بلغت نسبة 320 في المائة، فإن التحفظ على أرقام المعهد الوطني للسينما والصور المتحركة (سي إن سي) يبقى شديدا نظرا لأن الأعمال التي لاقت الإقبال لا تعكس وجه السينما الفرنسية، خصوصا فما يتعلق بالأفلام الناطقة باللغة الإنجليزية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تعتبر فرنسية كفيلم «تيكن» مثلا الذي صور في باريس بتمويل فرنسي مائة في المائة حيث أسهمت فيه قناتا «أم6» و«كنال+» وتحت إشراف فرق فرنسية ومخرج فرنسي. يفسر أنتوان دو كليمون تونير، رئيس جمعية «يونيفرانس» المكلفة دعم الأعمال الفرنسية والترويج لها في الخارج، هذا التراجع إلى المنافسة الشديدة التي باتت تتعرض لها الأفلام الصغيرة من قبل موجة الأفلام المجسمة، الثلاثية الأبعاد. كما اعترف هذا الأخير بالضائقة المالية التي باتت تتخبط فيها «يونيفرانس»، مما يجعلها غير قادرة على مساعدة الموزعين وفتح قاعات «آرت إي إسي» المجهزة عادة لاستقبال الأفلام الفرنسية في الخارج، دون أن يفوته التذكير بتبعات الأزمة الاقتصادية التي كانت شديدة على الأوروبيين في السنوات الأخيرة، وقد تفسر إلى حد ما عزوفهم الكبير عن الشاشات الذهبية. وقد كان ضعف الإقبال على الأفلام الفرنسية في الخارج جعل مسؤولي هذه الهيئة يفكرون في تنظيم مهرجان خاص بالأفلام الفرنسية على الشبكة «لجلب الجمهور وجذبه حيث ما وجد»، حسب تعبير أنتوان دو كليمون تونير.

المعهد الوطني للسينما والصور المتحركة (سي إن سي) أرجع القفزة الكمية التي عرفها هذا المجال للتقدم الذي يشهده تجهيز قاعات العرض بالتقنيات الرقمية التي تسمح بعرض الأفلام المجسمة وارتفاع عدد المجمعات المتعددة القاعات (موليتيبليكس) التي وصل عددها اليوم إلى 170 قاعة. والمعروف أن هذه النوعية الجديدة من الأفلام تستقطب أعدادا كبيرة من المتفرجين تصل إلى ثلاثة أضعاف ما تحققه الأفلام الثنائية الأبعاد، حسب دراسة لمعهد «بي في إيه».

الأرقام التي تنشرها شبكة موزعي الأفلام السينمائية تتحدث عن نسبة 20 في المائة من القاعات التي تم تجهيزها كليا لتمكينها من عرض الأفلام ثلاثية الأبعاد، وقد بدأت هذه النوعية من الأفلام تعرف الإقبال الجماهيري منذ النجاح الذي لقيه فيلم «أفاتار» للمخرج جيمس كاميرون. كما كان الانتقال لهذه التقنية الحديثة قد أثار حماس الموزعين والمنتجين منذ 2007 فكانت قاعات عرض «سي جي آر» ثالث أهم شبكات دور العرض في فرنسا، هي أول من قرر تبني هذه التقنية أوروبيا في قاعاتها الـ400، قبل أن تلتحق بها قاعات العرض الأخرى. عن أهمية هذه الرهانات يقول نتانائيل كارميتز، المدير العام لشبكة قاعات «أم كا 2» السينمائية: «الأفلام الثلاثية الأبعاد ليست تقنية غريبة، بل هي حركة صناعية مهمة، هذه الثورة الموازية لاختراع الأفلام الناطقة سوف تنقذ قطاع السينما من منافسة التلفزيون». أما البعض الآخر فيعتبرها ببساطة الوسيلة المثلى لاستقطاب جمهور الشباب، المسؤول الأول عن استفحال ظاهرة القرصنة. وهو ما عبر عنه جوسلان بويسي، المدير العام لقاعات عرض «سي جي آر» بقوله: «العروض الباهرة التي تقدمها الأفلام المجسمة هي وحدها قادرة على إخراج الشباب من غرفهم، إذ يستحيل في الوقت الحالي تحميل هذه النوعية من الأفلام». أسعار تذاكر مثل هذه العروض التي تزيد بثلاثة يوروات عن أسعار التذاكر العادية أسهمت أيضا في ارتفاع مداخيل القاعات، حيث وصلت إيرادات الشاشات الذهبية إلى تحقيق أرقام قياسية بأرباح بلغت سنة 2009 المليار ونصف المليار يورو. علما بأن الطريق نحو تجهيز جميع دور العرض الفرنسية، لا يزال بعيدا بسبب تكلفة مثل هذه العمليات التي قد تتطلب، حسب تقرير لجنة برلمانية، إجمالا نحو 450 مليون يورو. وهو المبلغ الضروري لتجهيز 5400 قاعة تتوزع على كامل التراب الوطني، على أن تكلفة تجهيز قاعة سينما واحدة لا تقل عن 100 ألف يورو.

لكن تبقى السينما الفرنسية مدينة بالدرجة الأولى لنظام المساعدات الحكومية المتميز عالميا، الذي يقوم على فرض ضرائب على مداخيل الأفلام الناجحة لتمويل أعمال جديدة، مما قد يسمح بالتنبؤ بسنة سينمائية أكثر تميزا سنة 2010.