دفء الحياة في غرفتين.. وسيجار وزيارة واحدة في اليوم للمقهى

ستيفان تسفايغ .. أحد بناة العالم

الكتاب: «رسائل للأصدقاء» المؤلف: ستيفان تسفايغ دار النشر: فيشير فيرلاغ 2009 فرانكفورت
TT

من يتعمق في هذه الرسائل، يجد نفسه مرة واحدة في عوالم غريبة، سكانها يبدون كما لو أنهم سلموا أنفسهم تماما للعمل الفكري، وثقتهم الكبيرة لقوة الفن ولغة القلوب، التي هي في أحايين كثيرة تثير الشغف بصورة مباشرة. هناك نظام منضبط بالتعبير، وفي طريقة الاشتغال على العمل الأدبي، وإرادة بالبوح والتعبير تجعلان حاضر الكتابة الحالي يبدو مقارنة بذلك رطانة وحسب. تلك هي طريقة الكتابة عند كل أولئك الذين يفرحنا نعتهم بـ«بناة العالم»، كما نعتهم «ستيفان تسفايغ»، في كتابه ذائع الصيت الذي سحر جيلي بصورة خاصة، والذي ربما يدرك أكثر من غيره معنى قراءة عمل عظيم ينتمي إلى الماضي، ليكتب: «الحاضر يعاني دائما بعد نظر غريب للعين: المرء يتعرف على كل ما هو كبير في البعيد، على عكس صورة كل ما هو قريب، التي يشعر بها مشوشة ومجهولة».

والحاضر بما يخص الجزء الثالث من رسائل ستيفان تسفايغ التي نقرأها هنا، هو أعوام 1920 – 1931؛ تلك الأعوام التي استطاع فيها كاتبها تثبيت نفسه ككاتب روائي، وصاحب منمنمات تاريخية، ومؤلف سير شخصية وكاتب مسرحي: «24 ساعة في حياة امرأة» و«خوف» و«اضطراب المشاعر»، ثلاثة أعمال مهمة في حياة المؤلف نشأت بين أعمال أخرى في هذه السنوات، من ضمنها مقالاته الثلاث الرائعة عن عالم الكلاسيكيين، التي تُرجمت عندنا تحت عنوان «بناة العالم»، بالإضافة إلى السِّير التي كتبها عن حياة «جوزيف فوكه» و«ماري أنطوانيت».

نحن نلتقي هنا إذن بفنان في قمة حياته الإبداعية، رجل في عقد سنواته الخمسين، يودعها في رسالة إلى أخيه ألفريد بمناسبة ميلاده الخمسين في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1931، لا تخلو من تفاؤلية خاطئة ينهيها: «أقرأ للتو في الصحف الألمانية أشياء سافرة تقريبا. لكني أشعر، إذا استدعت الحال، بنفسي. مستعدا بما فيه الكفاية لرمي كل أثاث البيت كي أبدأ مرة أخرى من جديد: كأولاد لأبينا تعلمنا منه شخصيا طريقة معينة بالعيش المتواضع. بإمكاني أن أعيش مرتاحا في غرفتين، والقليل من السيجار، مع زيارة المقهى مرة واحدة في اليوم، أكثر من ذلك لا أحتاج شيئا. لذلك، من غير الداعي أن يقلق المرء نفسه».

ربما كان يحاول في ذلك الوقت منح نفسه الشجاعة، التي سيحتاجها بصورة ملحة بعد ثلاث سنوات، عندما كان عليه أن يذهب للمنفى، إلى إنجلترا، ثم ليرحل بعدها بعيدا، حتى البرازيل، لكن ليس بعيدا بما فيه الكفاية، لكي يهرب من حب العودة لأماكن طفولته والشوق لرؤية أصدقائه، والحرب. ربما ذلك هو التفسير الوحيد، أو أحد التفسيرات لسبب انتحاره مع زوجته في عام 1942، في البرازيل. إذن، فقط عشر سنوات ظلت له للحياة بعد آخر رسائل هذه المجموعة - إنه بالفعل أمر يدعو إلى العويل! - التي نقرأ فيها تلك الجملة التي تفوق كل شعر: «أحيي كل أصدقائي، ليروا قدر ما يستطيعون بزوغ الفجر بعد ليل طويل! أما أنا، نافذ الصبر، فأرحل سلفا، قبلهم»، كتب في رسالته الأخيرة.

ليس بإمكان المرء الادعاء بأن ذاك الشؤم لم يدمغ رسائل سنوات الحرب تلك بوقت مبكر، وأن تسفايغ ذاته حدس ذلك: «ربما أنا متشائم جدا. لكن حتى اليوم كانت توقعاتنا الأكثر سوداوية تُكتسح دائما من الواقع» كتب في عام 1921. عام بعد ذلك قُتل صديقه «راتيناو»: «لم أر سوداوية أكثر من اليوم: الأمر الواقع، هو أن المرء ما زال يصيد المفكرين في ألمانيا، كما يفعل مع الأرانب.... إنه أمر مميز جدا!». وأكثر من ذلك بعد سنة: «إن ما يحدث في ألمانيا، يفوق كل التوقعات المحزنة. جنون على جنون!»، الرسالة معنونة لرومان رولان الكاتب الفرنسي وداعية السلام الأوروبي، الذي كان يتراسل معه تسفايغ منذ عام 1910 (غالبا باللغة الفرنسية) والذي كان بالنسبة إليه نموذجا عاليا للأديب الإنساني: «أن فضيلته»، كتب إلى مكسيم غوركي، «أحكامه العادلة، ونزاهته صفات نادرة على وجه هذه الأرض المسكينة، رغم أنه يصارع الشر بجسد عليل».

يلاحظ المرء بصورة جيدة الكلمات القليلة هذه وفيض المشاعر التي يغمرها تسفايغ على شركائه بالمراسلة، مثلما يلاحظ إصراره الدؤوب «بالعضّ على الشيء بأسنانه»، حتى إنه لا يتردد من توضيح سبب عدم رغبته في كتابة أي موضوع عن غوستاف فلوبير، وإن عذره: أنه يكتب إلى حد ما جيدا هناك فقط، «حيث أكون شغوفا بالموضوع»، وهذا يحدث تقريبا مع كل موضوع يمس شغاف قلبه، وليس لذلك علاقة باسم الكاتب ومكانته، وذلك ما نجد تأييده بصورة خاصة في أجوبته عن الكثير من المؤلفين الشباب، الذين أرسلوا إليه كتبهم. وفي تلك المراسلات، نلتقي تسفايغ المخلص لملاحظاته، تسفايغ البعيد عن كل دبلوماسية، وكيف أنه يبذل كل ما في وسعه، لتصعيد كل ما يجده جيدا، بل إنه لا يخفي انفعالاته المباشرة.

وبالذات، يشعر قارئ هذا القسم من الرسائل بخفقان قلبه بصورة خاصة. إنه لأمر يثير الدهشة حقا، كيف أن تسفايغ لا يستهين بأي كتاب، على العكس إنه يحرص في أجوبته على وضعه في حيز فكري، لكي يتفادى إثارة الانتباه بالتركيز على نقطة الضعف هذه أو تلك. وبعض الأحيان يُلبس شكوكه لبوس اعتراضات ناشر ويكتب للكاتب: «الناشرون عندهم خوف كافر كامل قبل كل شيء من كل ما لا يتجاوب معه الجمهور بطواعية». قول جميل. أو يقول لكاتب آخر، إن روايته تحتوي على «غنى حياتي وتنوع» وإن «القارئ المعاصر متعود على سرعة زمنية شبيهة بالسينما ولا يتوقع المرء تنقلات أحداث، من صورة إلى أخرى، إنما من الممكن ترتيبها واحدة بعد الأخرى بهدوء دون التوسط بينها». ثم يقترح على الكاتبين برقة، لكن بصورة قاطعة، أن يختصرا أعمالهما ويهذباها. لكن لا يفوتنا أن نفهم، خلف ملاحظاته، أن موهبة تسفايغ بتعشيق الحركة الداخلية للقصة مع المجرى الخارجي للحدث لا يملكها في كل الأحوال أي من الكاتبين.

على أي حال، إن كل ما نقرأه هو الجانب المعلن من كاتب الرسائل تسفايغ (طبعا أكثر إثارة للاهتمام هو نبرتها الشخصية)، الجانب المستخلص من عالم المفكرين المتوتر بعض الشيء، المقصود أيضا ذلك الجانب الذي يستطيع المرء التطلع إليه عبر كتف الكاتب؛ في الوقت الذي يجب على المرء أن يقول - في حالة تسفايغ - إن فنه في العيش يكمن بالذات في ذلك الشيء الحميمي: عقد الصداقات، حيث يختلط ما هو يومي مع ما هو أبدي. لكن، هناك طبعا على الجانب الآخر الكثير من تبجيل بشر، مثل فرويد أو غوركي، رسائل حميمة شخصية لزوجته «فريدريكه» أو لصديقه «فكتور فلايشر». من جانب آخر، يظل الأمر الأكثر إثارة في مجموعة رسائل مثل هذه أن المرء يحاول دائما استخلاص ما يشبه سيرة حياة للكاتب من كل الحلقة المنتظمة لتلك الكتابات؛ وأن على المرء أيضا تخيل كل ما يمكنه من سد ثغرات تلك الرسائل، بالإضافة إلى تخيل ما يمكن أن تكون حياة الإنسان الذي يختفي خلفها. في هذه الثغرات أو ما يطلق عليه البعض «بين السطور»، يقدم تسفايغ نفسه ممزقا بين التقرب إلى الناس والهروب منهم، بين الحماس بالعمل والتعب، بين وعي الواجب وضغط الحرية. إنه يسافر بشغف ويفضل الاختفاء في مجهولية الغربة. أما النجاح الذي عاشه الكاتب، فقد ترك تأثيراته الأولى بصورة واضحة، وبالتوازي مع ذلك أقلقته الشيخوخة: «إنني بحاجة لمصل من العناد، قوة العمل، ورش البودر (على المرء أن يقع في الحب ويسافر لمدة ثلاثة أسابيع مع بنت شابة!). الغثيان المتجمع عندي من الأدب لا يمكن وصفه». هنا كان تسفايغ قد قطع طريقا طويلا، وودع خلفه الرجل الشاب الذي كان يعبر في رسائله الأولى عن توقه إلى الاعتراف به وقبوله بين صفوف النخبة، والذي لم يتردد في الكتابة (كان في بداية سن الأربعين) لـ«جوزيف روث»، الأقل منه سعادة: «أنا أخجل قليلا أمامكم، لأن حياتي تجري سلسة، حيث لا أملك في العمق عدم الخوف فقط، إنما عندي توق سري وتراجيدي إلى الهزات الكبيرة».

طبعا، في لحظات الفراغ والكآبة هذه، يميل تسفايغ بالضبط إلى المبالغة والإسهاب، لكن هنا أيضا من الممكن النظر إلى ذلك بأنه من قوة التوتر هذه بالذات صنع عمله الأدبي الذي يتحدث دائما عن انعدام السيطرة والشعور بالفقدان «أحيانا هناك ما ينبع من هذه الأزمات»، يكتب لزوجته، «أحيانا يصل المرء عبرها إلى عمق أكثر، لكن في النهاية إنها جزء من الإنسان أيضا».

هكذا هو الأمر مع هذه الرسائل، أنها جزء من شخصية ستيفان تسفايغ التي تبدو أمامنا الآن أكثر شفافية، حتى في توقعاته المتشائمة: «هذا الفن العالي الصافي لكتابة رسالة يبدو أنه يسير إلى زواله. المخرب الأول هو الصحيفة، التي يكتب فيها كل شيء للجميع. المخرب الثاني هو آلة الطابعة، التي تسرق من الكلمة روحها، التي يمنحها كل إنسان في خطه، وكيف أنها تجعلها تختفي خلف مرآة باردة؛ الدمار الثالث جاء مع التليفون، حيث يخبر الناس بعضهم بعضا بعجالة، قبل أن يقتحم الدفء الأعماق، في الدم الحيوي».... لكن، لو كان صاحب «بناة العالم» يعلم.... ما الذي كان سيقوله يا ترى عن زمن الإيميل والإنترنت.. والإس إم إس؟