رد اعتبار للشاعر أم للحزب القومي السوري؟

نصوص غير معروفة للشاعر محمد الماغوط

الشاعر محمد الماغوط
TT

تثير النصوص الشعرية، والرواية المنشورة في هذا الكتاب لمحمد الماغوط الكثير من الأسئلة، منها ما هو متعلق بالنص ذاته، ومنها ما هو مرتبط بأغراض النشر. أما أغراض النشر فإن مؤلف الكتاب، اللبناني جان داية، لا يخفي غاياته من نشر هذه النصوص غير المعروفة، وغير المنشورة في كتاب من قبل، فيقول: «الغرض من هذا الكتاب هو وضع بدايات الماغوط، في متناول الباحثين، كي يتسنى لهم تحديد تأثير عقيدة سعادة، (أي أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي) ونظريته في التجديد الأدبي، على نتاجه الشعري والمسرحي والنثري في المراحل اللاحقة». حيث تجشم عناء البحث عنها، في صحافة الخمسينات، وبخاصة صحافة الحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان، والصحافة في سورية خلال حقبة الخمسينات من القرن العشرين، وبداية الستينات. ولكن الحقيقة هي أن المؤلف أبدى غرضا آخر كانت له الأولوية عنده، وهو أن يثبت بالدليل القاطع، أن الشاعر محمد الماغوط، لم يكن عضوا في الحزب القومي، طوال عقد الخمسينات، وأكثر من ذلك بقليل وحسب، بل كان إلى جانب ذلك، قد جند قلمه من أجل التعبير عن سياسة الحزب، من جهة، وهجاء أعدائه المحليين والدوليين من جهة ثانية، والتعبير المباشر عن توجيهات مؤسسه وقائده أنطون سعادة.

ويشير عنوان الكتاب إلى أسباب، أو سبب، تأليفه فقد سبق للشاعر الراحل أن ذكر أكثر من مرة، أنه انتسب إلى الحزب القومي، حين وجد في مكتب الحزب في بلدته السلمية صوبيا (مدفأة) يمكن أن تقيه غائلة البرد، يوم كان فقيرا، وأنه خرج من الحزب بعد فترة قصيرة، وقد أخذ بعض اشتراكات رفاقه.

يثبت المؤلف هنا بالشاهد، أن الماغوط لم يكن جادا في هذا الشأن، وأن انتماءه الحزبي كان قويا، في تلك الفترة من الزمن، بل إن هذا الانتماء قد تجسد بأوضح الصور بالولاء لمؤسس الحزب القومي أنطون سعادة، حيث كان يردد، ويعيد في مقالاته، أفكاره في السياسة، وفي الأدب والفن، وقد تجلت عقيدته الحزبية في هجائه لدولة الوحدة السورية المصرية، التي كان الحزب القومي قد عارضها بسبب إيمانه بوحدة بلاد الشام، وهجائه لجمال عبد الناصر أيضا، كزعيم لهذه الوحدة، كما في قصيدته «منام»، التي ندد فيها بأحلام عبد الناصر في العودة إلى دمشق، بعد انفصال الوحدة. كما تجسدت في هجائه المتواصل للقومية العربية، والشيوعية العالمية التي كان يجسدها آنذاك خروشوف كزعيم للاتحاد السوفياتي.

وهنا يميل هذا الكتاب إلى أن يكون محاولة لرد الاعتبار إلى الحزب، لا إلى الشاعر، الذي ما فتئ ينكر في السنوات الأخيرة من عمره، لا قصة ولائه، للحزب، بل قصة انتمائه أصلا، أو يغلفها بطرفته الشهيرة عن الصوبيا وأموال الاشتراكات المهدورة. لا يدخل المؤلف في الأسباب، ولا يناقش الدوافع التي حدت بالماغوط إلى إنكار انتسابه إلى الحزب، ومن الصعب اليوم التحقق من هذه الأسباب، إلا إذا اكتشفت كتابات جديدة أخرى للشاعر تظهرها. كما أن المؤلف يدافع عن النهج الساخر الذي يبرع فيه الشاعر الماغوط، في نقده لخصوم الحزب القومي، لكنه لا يبدي مثل هذا الدفاع بشأن طرفته عن صوبيا الحزب القومي. والكتاب، كما قلنا، مخصص للرد على هذه الطرفة بالذات.

السؤال الآخر يتعلق بقيمة النصوص المنشورة في الكتاب، من الناحية الفنية، وفي البداية يجب أن نذكر أن الكتاب يضم 34 مقالة، و16 قصيدة، ورواية واحدة غير منشورة في كتاب، وأننا لن نتطرق هنا إلى المقالات التي غلبت عليها الروح الحزبية العابرة، أو المؤقتة التي تسم حياة الأحزاب، من حيث التحالفات والمواقف السياسية. ولا يبقى منها بالنسبة لنا سوى التعرف على طريقة الماغوط في الكتابة. وقد وقعت القصائد، والرواية في حالة مماثلة، ولكن انتماءها إلى الفن يدفعنا إلى محاولة قراءتها ضمن منظوره.

وفي قصائد الماغوط، المنشورة في هذا الكتاب، تتجلى عقيدة الحزب القومي بشكل صريح، ويشير المؤلف إلى المقاطع، والأبيات التي تترجم هذه العقيدة بتغيير حرف الطباعة، ومنها هذه الأمثلة: «أبدا أبدا لن نكون/ باقة ناعمة من ريش العصافير/ تضغطها الأنامل/ وتكسرها الرياح». قصيدة «على الحدود». أو يتحدث عن: «نسمة أخرى/ أهم وأقوى.. تقودها زوبعة بناءة/ تترنح في موكب من دماء الفجر». قصيدة «الجمجمة الذهبية». والمعروف أن الزوبعة هي رمز الحزب القومي. أو يشير إلى: شموس الهلال الخصيب، ومركب المعلم، إلخ.

أما الرواية التي سماها الماغوط «غرام في سن الفيل» من مقدمة، و9 مقالات، وخاتمة. وتدور أحداثها في بيروت، بادئة من بلدة سن الفيل التي تقع شمال شرقي بيروت على بعد 5 كيلومترات. ويحكي الماغوط فيها كيف تعرف إلى الفتاة اللبنانية نفلة، التي دفعت لجابي الترامواي ما يستحق عليه من أجر، إذ كان مفلسا، وأنه أحبها من تلك اللحظة، ولحق بها إلى بيتها. وهناك لاقى اعتراضا من أمها وإخوتها وأبيها.

وتتسم الأحداث في الرواية بالغرابة، حيث يتجاهل الماغوط حقائق الواقع، ويبتكر علاقات لا تراعي شروط الزمان، أو المكان، على الرغم من أنها تأخذ شخصيات تدعي أن لها هوية ما. غير أن الهوية أو الوطنية، مستعملة من أجل تحويل الشخصية إلى رمز لفكرة، أو استخدامها وسيلة لقول الخطاب السياسي. والدليل هو أن لقاءات الراوي مع «الشخصيات» في النص، يستهدف إجراء نقاش ما في الخطاب السياسي الذي يريد قوله، والأحرى أن نقول إنه يستهدف تسفيه خطاب الآخر، وسياساته، بحيث يكون النقيض هو سياسة الحزب، وهو ما يحدث مع شخصية «ظمح المصري»، الذي يقدمه نشالا، ويشهر به على أنه ممثل لنظام عبد الناصر، أو مع شخصية ستالين، أو هتلر، أو مع شخصية بيتهوفن، حيث يشتكي إليه انحطاط الغناء العربي.

من الضروري أن ننوه هنا بأنه من الصعب أن ننسب هذا العمل إلى فن الرواية، وأن استعمالنا للمصطلح خدمي بحت، يراعي استخدام المؤلف له في كتابه. فالنص ركيك من الناحية الفنية، وتبدو السخرية فيه منحازة، بحيث تجرد ذاتها من روح الإضحاك، وتجعل نفسها عديمة الجدوى، لأنها تخلو من الحس الإنساني الرفيع الذي يعلو بالأعمال الأدبية جادة أم ساخرة، عن الحزبي المتسم باليومي العابر.

والحقيقة هي أنه إذا كانت المقالات وبعض القصائد، والرواية تؤكد ولاء الماغوط وانتماءه الحزبي، فإنها تظهر وجها آخر للماغوط يتسم بالتعصب، والانغلاق، ورفض الآخر، مقابل تعظيم الحزب، وسياساته، وإذا كان هذا الأمر مفهوما في سلوك السياسي، فالحقيقة أن أكثر ما يدهش المرء اليوم هو أن يكون قد انخرط مثقف ومبدع من وزن محمد الماغوط، ومن كثافة حضوره الذي اتسم بالقطيعة التامة مع القواعد، ورفض الالتزام بالسياسات المرحلية، أو العابرة التي وسمت، وربما تسم دائما، مواقف الأحزاب السياسية في العالم العربي، في اليومي والحزبي والعابر. لا نقول هذا الكلام في معرض الإشارة إلى الحزب القومي، أو غيره من الأحزاب، فالأحزاب هي الأحزاب بصرف النظر عن هذه الآيديولوجية أو تلك. بل في معرض الإشارة إلى أن انخراط المبدع في العمل الحزبي، يجب أن لا ينسيه أن نشاط الأحزاب قائم على التكتيك المتغير وفق المصالح، بينما يعمل الشاعر في النطاق الاستراتيجي، وقد يكون الماغوط أدرك هذا المنحى، في سنواته الأخيرة، فراح يحاول التنصل من الماضي، ويردد نكتة الصوبيا واشتراكات الحزب، ولكن الماضي لا يريد أن يتنصل منه، وهذا الكتاب دليل مطبوع على ذلك.