عبد الحفيظ الشمري: القرية أصابها هوس مادي مجنون.. وتحولات المدينة أعيتني

قال: إن الرواية تعتمد على ثنائية الإنسان والمكان.. وليست نزوة كتابية

عبد الحفيظ الشمري
TT

رغم إشارته إلى أن رواياته هي تدوين أمين لرؤيته في الحياة، على الرغم مما يعتريها من حدة ومكاشفة، فإن القارئ لا يكاد يغفل انحياز الأديب والروائي السعودي، عبد الحفيظ الشمري، للقرية وحياة الريف؛ فكتاباته «هي محاولة للوذ بالقرية ضد المدينة المملوءة بالزيف والغي والفحش والتحولات والماديات التي أعيته سبلها وتاه في دروبها»، كما يقول.

وفي روايته الأخيرة «شام.. يام» التي تأتي تتويجا لأعماله السابقة؛ «فيضة الرعد» و«جرف الخفايا» و«غميس الجوع» و«القانوط»، يقدم الشمري تدوينا يسبر من خلاله أغوار التحولات الأليمة في حياة الناس، وتقاطعها الفج مع المصالح المادية، التي باتت هي المحور الرئيسي والمحرك القوي لما يزعم أنها الحياة العصرية. «الشرق الأوسط» التقته في الرياض وفيما يلي نص الحوار:

* يلاحظ في رواياتك «فيضة الرعد» و«جرف الخفايا» و«غميس الجوع» و«القانوط» أنك تحاول معالجة العلاقة بين الإنسان والمكان.. ما سر هذا التوجه في أعمالك؟

- حينما شرعت في تدويناتي السردية في مجال القصة القصيرة، كان هاجسي الأول يتمثل في رغبتي الملحة أن يقوم الشخوص وأبطال القصص بنبش واقع المكان الذي يخبئ الكثير من الحكايات المعبرة في ألمها وفرادة صورها، واكتنازها للكثير من المتناقضات الحياتية الجديرة بالتدوين والكتابة، التي ستجد طريقها للقارئ.

فبعد تجربة أربع مجموعات قصصية، وجدت أن المكان لا يزال يحفل بالكثير من القصص والحكايات، التي لا بد لها من فضاء أكبر للبوح والتدوين، فكانت الرواية الأولى «فيضة الرعد» هي البوابة للحديث عن سيرة المكان وعلاقته بالإنسان. فالمكان في بيئتنا المحلية، لا سيما ما هو ماضوي، يحفل بالكثير من المفارقات والصور المعبرة، التي غالبا ما يكون الحديث عنها طريفا ومبتكرا يسترعي الذائقة والاهتمام. نحن من جيل تقاطع مع الخضرمة، أي أننا أدركنا شيئا من ذلك الماضي، ورأينا بأم أعيننا تحولات الحاضر الذي صار إلى جنون مادي جامح عصف بكل ما هو بريء وعفوي، فالمدينة لم تعد هي الملاذ لحياة البسطاء.

* من خلال ما كتبته من روايات، كيف قرأت التحولات التي مرت بها القرية والمدينة في البيئة السعودية؟

- في دائرة ما عنيت به من سرد، وضعت نصب عيني تدوين هذا العصف الأليم من التحولات، التي يقال عنها تطوير أو تحديث، التي جاءت من وجهة نظري الشخصية مجانبة لأوجه التحول المنطقي؛ حيث كانت القرى في بعض مناطق السعودية، على وجه التحديد، تدفع دفعا إلى أتون هذه التحولات. في حين نجد أن القرى والهجر والضيعات في لبنان مثلا، رغم تحضرها، لم يطلها هذا الهوس المادي المجنون؛ إذ ظلت تلك القرى الجبلية تحافظ على هيئتها وسلوكها وثقافتها، رغم أن العاصمة بيروت تعج بكل ما هو جديد وعصري.

من هنا أدرك حقيقة أن «فيضة الرعد»، القرية المفترضة في روايتي الأولى، لا بد لها أن تقاوم هذه التحولات لتبقى قرية نلوذ فيها نحن التعساء من أبناء الخضرمة والتحولات والماديات، التي أعيتنا سبلها، وتهنا في دروبها الشاقة، ولم أجد بدا في الرواية الثانية «جرف الخفايا» من أن ألتقط الخيط الواصل بين المدن التي لا تحفل بأحد، وأبناء الريف الذين نزحوا إليها؛ فهؤلاء لم يجدوا - للأسف - الملاذ الآمن لهم.

لم تكن هناك مندوحة من العودة إلى المنابت الأولى والجذور القديمة في الرمال والجبال والكتابات على جدران الكهوف، للتفتيش والسؤال عن سبب مأساتنا نحن أبناء الريف، لأجد في أتون هذه اللواعج أن المشكلة لا تقبع في القرية أو المدينة أو الريف، إنما فينا نحن الذين نركن إلى تحولات المادة والدعة والبحث عن اليسير.

* حاولت في روايتك «جرف الخفايا» أن ترسم صورة ذهنية للرياض بشكل غير واضح المعالم.. في رأيك؛ هل هذه الصورة الذهنية ما زالت باقية كما هي؟

- لم تكن العاصمة الرياض هي الحالة الذهنية النمطية للسرد في روايتي الثانية «جرف الخفايا»، إنما هي صورة للمدينة العصرية، قل عنها أبوظبي أو مسقط أو الدوحة أو بيروت أو دمشق أو أي عاصمة عربية، تعد هي مصدر الجذب للطاقات البشرية، في وقت تصبح الأرياف والقرى أماكن طاردة، ويفقد الإنسان توازنه، ليذعن أو يميل أو ينهار مشروعه الإنساني، ليصبح مجرد ضيف ثقيل على المدن، حتى ينخرط في طابور البحث عن اللقمة، فيكون شأنه شأن أي مرتزق جاء من أي مكان.

* المتأمل في روايتك «فيضة الرعد» سيجد أن الأحداث واللغة صنعتا من العمل مشهدا بانوراميا مؤثرا.. هل كان هذا نتاج هواجس نقدية تجاه قضايا معينة؟

- لا أخفيك أنني نبشت ماضي المكان، واستحضرت دلالاته بشكل واضح، من أجل أن أؤسس مشروعا سرديا، يمكنني أن أتكئ عليه في مقاربتي بين الواقعين المادي والمعنوي في حياة القرى، فكان لزاما علي أن أبرع في رصد جميع التحولات. ولأكون أمينا في النقل والمكاشفة، كان لا بد لي من أن أمسّ الرموز التي أسهمت في هدم صورة القرية الجميلة على رؤوسنا، ومن ذلك شخصية بطل الرواية (حدران الكيس)، الذي قال عنه الراوي: «إنه الناهق النابح، باسم النظام والانضباط!».

*بدت تصرفات بعض أبطالك في «جرف الخفايا» مشوبة بكثير من العبث

- لا أخفيك أنه رغم ما يظهر على الشخصيات من عبث ومجانية، فإنهم يعكسون وجه حضارة المدن الدعية، وعلى الرغم من أن بعضهم من أبناء الريف، فإنهم تخلقوا بما يعتقدون أنها حياة المدن، زد على ذلك أن أمر البطالة والبحث عن فرص للعيش وعدم وجود يقينيات ممكنة، أسهم في خلق هذه المعادلة التي يتصورها البعض عبثية. ولا بد لي أن أشير هنا إلى أن النقل كان أمينا، فقد سعيت إلى أن أوظف أدوات الرواية وفنياتها في رصد الحقيقية؛ لأن الرواية فن يعكس الواقع، وليس بالضرورة أن يكون مؤيدا أو رافضا له.

* هل تعتقد أنك عبرت في رواياتك عن التحولات الاجتماعية في السعودية؟

- في روايتي «القانوط» إجابة فعلية على هذا السؤال، فقد وجدت أنه من المناسب أن أحلل من خلال منقولات الرواية وفضائها عوالم الواقع في المدن الجديدة، وتحولاتها المعاصرة بفعل المادة فقط، لا بفعل الحضارة، بوصفها سياقا متحولا ينبني على معطيات نضج الفرد وتكامل منظومة المدنية، فوجدت في شخصية «القانوط» لونا اجتماعيا يترجم هذه الحالة التي باتت تعيشها المدن العربية والإسلامية بشكل عام، فالخلاف في المدن لا ينشأ عادة إلا من منطلق مادي صرف، ولا يكون بالضرورة مبنيا على أي تصادم في الأفكار والرؤى، إنما هو شحناء تسببها نزوات المادة، فقد يحسب البعض أن هناك حوارا حضاريا أو خلافا آيديولوجيا، إنما هو في الأساس مشاجرة على اقتسام ترهات المدن وإفرازاتها.

* في حديث لك سابق، ذكرت أن الرواية بمفهومها الفني الخالص تأتي على هيئة طرح بانورامي، يعتمد على ثنائية المكان والإنسان، كما في تجارب عبد الرحمن منيف وتركي الحمد ورجاء عالم.. ماذا تقصد بهذا الطرح البانورامي؟

- ما ذكرته لا مندوحة من إعادته أو التحاور حوله، فالفن الروائي لا يمكن لنا أن نقول عنه إنه مجرد تجريب أو محاولات، إنما هو عطاء متواتر ومضطرد، ربما يتجاوز في نضجه وتكامله غوغائية من يرى في الرواية نزوة كتابية، وعبثا حضوريا لا أساس له، في وقت تعول الذائقة على الطرح الروائي الجاد الذي ينمو من خلال تراكمات زمنية، وبناء بانورامي تتقاطع فيه ثنائية المكان والإنسان على نحو طروحات عبد الرحمن منيف في خماسيته «مدن الملح»، وتركي الحمد في ثلاثيته «أطياف الأزقة المهجورة»، ورجاء عالم في «سيدي وحدانه» و«خاتم» و«طريق الحرير»، وأعمال أخرى لهؤلاء الثلاثة الذين أكدوا أهمية تقاطع ما هو إنساني مع ما هو مكاني، على نحو ما ذكرته سلفا في إجاباتي التي أرى فيها أهمية المكان بوصفه حاضنا للكثير من القصص والحكايات والأساطير والحقائق الجديرة بالتدوين.

* روايتك الأخيرة «شام.. يام» ربما نسجتها على منوال روايتك الثانية «جرف الخفايا»، رغم اختلاف الشخوص وبيئة المكان.. لماذا المدينة تبدو غارقة في غيها وفحشها في أعمالك؟

- روايتي «شام.. يام» الصادرة هذا العام (2010) عن دار «الانتشار العربي» ببيروت، جاءت تتويجا لخطاب المكاشفة الحاد لحالة العواصم العربية هنا، لا سيما ما هو خليجي، حيث تداخلت فيها صور الحضارة والمادة مع ما سواها من قشور وبقايا للمعاني الغاربة، فكان للبطلين في رواية «شام.. يام» رأي آخر في المدن، لا سيما أنهما نزحا من الريف نحو المدن، حاملين معهما مأساة الأمة العربية التي تتشابه معاناة أهلها، وإن اختلفت صور وأنماط العيش والبيئة.

الرواية تدوين أمين، ورؤية تتسم بالحدة والمكاشفة، وسبر لأغوار التحولات الأليمة في حياة الناس، وتقاطعها الفج مع المصالح المادية التي باتت هي المحور الرئيسي والمحرك القوي لما يزعم أنه الحياة العصرية للأسف.