الكندي.. الفيلسوف العربي الأول الذي نسيناه

على هامش كتاب البروفيسور جان جوليفيه

الفلسفة العربية واللاتينية في القرون الوسطى المطبوعات الجامعية الفرنسية
TT

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور جان جوليفيه أستاذ الفلسفة العربية في جامعة السوربون. وهو صاحب الأبحاث الشهيرة عن المفكرين العرب والمسلمين في العصور الوسطى وبخاصة الكندي: الفيلسوف العربي الأول. ولكنه مختص أيضا في الفلسفة اليونانية وكيفية انتقالها إلى اللغة العربية. وكذلك فهو مختص في الفلسفة اللاتينية المسيحية التي تشبه الفلسفة العربية الإسلامية بل والتي استفادت منها وأخذت عنها. ويقدم البروفيسور جوليفيه في أبحاثه صورة عامة وحية عن حياة الكندي وأعماله وكيفية تأسيسه للفكر الفلسفي العقلاني في العالم الإسلامي قبل اثني عشر قرنا من الزمن. لكن من هو هذا الفيلسوف العربي الأول؟ إنه أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي المعروف في الغرب إبان العصور الوسطى باسمه الحقيقي: الكندي.

وكان أول فيلسوف عربي يظهر في التاريخ. وكان يتحلى بمعرفة موسوعية شاملة. وقد حظي برعاية ثلاثة خلفاء عباسيين أولهم المأمون الذي شجع العلماء والفلاسفة والمعتزلة كثيرا كما هو معروف. وقد وظفه في بيت الحكمة الذي كان يمثل آنذاك أكبر مركز للترجمة والبحوث في العالم الإسلامي. الآن ابتدأت مراكز الترجمة تظهر في السعودية ومصر والكويت والإمارات وقطر الخ.. فلعلنا ننقل المعرفة الحديثة إلى لغتنا كما فعل المأمون من قبل ونستعيد أمجادنا السابقة.. لعلنا نخرج من انغلاقاتنا المزمنة ويقيناتنا المطلقة التي عفا عليها الزمن. لعلنا نخرج من قبورنا التراثية ونستيقظ أخيرا كما استيقظ أهل الكهف! كان من زملائه عالم الرياضيات الكبير أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي وآخرون عديدون. وقد كلفوه بترجمة المخطوطات الإغريقية. ولكن بما أن معرفته باللغة اليونانية كانت ضعيفة فإنه اكتفى فقط بتحسين ترجمات الآخرين ومراجعتها. وقد كتب الكندي في مختلف المجالات من الحساب، إلى الهندسة، إلى الموسيقى، إلى الفلسفة بطبيعة الحال، إلى الدين.

وقد ظل مسلما مؤمنا طيلة حياته. وبالتالي فالفلسفة لم تخرجه عن إيمانه قط على عكس ما يتوهم بعضهم. لقد ظلت فلسفته داخل إطار الدين الإسلامي. ولم يكن يجد أي تعارض بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين. فهما متكاملان لا متصارعان في نظره. وهذا شيء رائع. وفي كتابه الأول عن الميتافيزيقا كتب يقول إن علم الميتافيزيقيا يعني معرفة الحقيقة الأولى التي هي أصل أو سبب كل حقيقة.

ثم قال الكندي هذا الكلام المهم: إن الفيزيقا أو علم الطبيعة تعني معرفة الأشياء والظواهر الموجودة في هذا العالم. وأما الميتافيزيقا فتعني معرفة الأسباب العميقة التي تقف خلف هذه الظواهر. وهذا يعني أن الكندي كان من أتباع أرسطو طاليس القائل بأن الميتافيزيقا أهم من الفيزيقا وأجل شأنا. وهذا ما سبب له بعض المشكلات مع الفقهاء ورجال الدين المسلمين الذين كانوا يعتبرون فلسفة الإغريق بمثابة المعرفة الضالة أو الوثنية. ولكنه أقنعهم بضرورة الأخذ عنها وتبني مناهجها العقلانية في البحث والكشف عن قوانين الكون. أو قل أقنع بعضهم وفشل في إقناع البعض الآخر. ولو لم يكن مؤمنا حقيقيا لكفروه ونبذوه. بل إن بعضهم راح يشكك بإيمانه لأنه يأخذ عن الإغريق وفلاسفتهم.

وقد برر هذا الأخذ بعبارة لا تزال حديثة المضمون والشكل حتى الآن. يقول ما معناه: »لا ينبغي أن نشعر بالخجل أو العار إذا ما اعترفنا بالحقيقة وتبنيناها أيا كان مصدرها حتى ولو جاءتنا من أجيال سابقة أو من شعوب أجنبية». المقصود: أجيال سابقة على الإسلام وشعوب غير إسلامية وغير عربية.

أليس هذا أكبر رد على أولئك الذين لا هم لهم إلا مهاجمة الغزو الفكري؟

ثم قارن بين هذا الموقف المنفتح على الفلسفة والموقف المنغلق لابن خلدون في فصله الشهير: «في أبطال الفلسفة وفساد منتحلها!»

حيث يقول: «وضررها في الدين كثير». المقصود ضرر الفلسفة بالطبع.

ولد الكندي نحو عام 800 ميلادية أي قبل أكثر من ألف ومائتي سنة من عصرنا هذا. ومع ذلك فلا يزال يثير الاهتمام نظرا لعقلانيته ولكونه أول من تبنّى الفلسفة من بين العرب. وكان والده موظفا في عهد الخليفة العباسي الشهير: هارون الرشيد. وقد عاصر الكندي ثلاثة خلفاء كبار هم: المأمون، فالمعتصم، فالمتوكل. ولكن الأخير انقلب على الفلسفة وانضم إلى معسكر أعدائها في المرحلة الثانية من حكمه. ولذا راح يضطهده ويضايقه كما ضايق المعتزلة ولاحقهم.

والواقع أن الآراء الفلسفية التي كان الكندي يتبناها أزعجت المتوكل في فترة من الفترات، فأمر بمصادرة كتبه ومخطوطاته. ولكنها أعيدت إليه لاحقا، وهذا يعني أن مشكلة السلطة مع المثقفين العقلانيين قديمة العهد في العالم الإسلامي وليست بنت اليوم أو البارحة. كما ويعني أن الصدام بين أتباع الفلسفة وأتباع الفقه قديمة أيضا. هذا وقد مات الكندي عن عمر مديد عام 873 في ظل خلافة المعتمد. وقد كان الكندي فيلسوفا، وعالم رياضيات، وعالم فيزياء وفلك، بل وحتى طبيبا، وجغرافيا، وموسيقارا. وهذا شيء نادر في ذلك الزمان. ولكن ينبغي أن نعلم أننا كنا نعيش آنذاك في أوج الحضارة العربية الإسلامية في ظل خلافة بغداد العباسية. وبالتالي فلم يكن عصر الانحطاط قد بدأ بعد حيث منعت الموسيقى واعتبرت رجسا من عمل الشيطان. ومعلوم أنها لا تزال مع الغناء ممنوعة حتى الآن في البيئات المحافظة. فهي مرادفة للفسق والفجور! وأتذكر شخصيا أن والدي الشيخ رحمه الله كان ينزعج جدا عندما نفتح الراديو على صباح أو فريد الأطرش أو سواهما. ولذلك كنا ننتظر غيابه عن البيت لكي نتنفس الصعداء ونستمتع بهذا الأشياء المحرمة على هوانا. وعندما نشعر بأنه عاد كنا نسارع إلى التظاهر بالتقى والخشوع ونفتح الراديو فقط على تلاوة القرآن الكريم أو نشرات الأخبار!

هذا هو العصر العربي الإسلامي الراهن. كيف يمكن ألا تختنق في مثل هذا الجو؟

لكن لنعد إلى الكندي الآن بعد هذا الفاصل الشخصي القصير. لقد كان كاتبا مكثرا غزير الإنتاج. فقد ألف اثنين وثلاثين كتابا في علم الهندسة، واثنين وعشرين كتابا في علم الطب، واثنين وعشرين كتابا في الفلسفة، وستة عشر كتابا في علم الفلك، واثني عشر كتابا في علم الفيزيقا، أي الفيزياء بحسب لغتنا المعاصرة. أما الميتافيزيقا فتعني ما وراء الفيزيقا أو ما وراء الطبيعة، كما ألف الكندي أحد عشر كتابا في علم الحساب، وتسعة كتب في علم المنطق، وسبعة كتب في الموسيقى، وخمسة كتب في علم النفس. بل وألف عدة كتب في الهندسة العملية من أجل دراسة المدّ والجزر، أو صناعة الآلات الفلكية، أو دراسة الصخور، أو الجواهر، الخ. وبالتالي ففلسفته لم تكن فقط نظرية وإنما عملية أيضا لكي تنفع الناس.

ولكن للأسف فإن معظم كتبه هذه ضاعت على الطريق ولم تصل إلينا. ولكن ما وصلنا منها يكفي للدلالة على مدى حجم علمه وسعة اطلاعه. حقا لقد كان المسلمون الأوائل رجالا يحبون العلم ولا يستسلمون للتواكل والعقلية الكسول التي سادت لاحقا في عصور الانحطاط. كانوا يشغّلون عقولهم ولا يلغونها كما يحصل اليوم للأسف الشديد. باختصار كانوا عباقرة العالم ومؤسسي الحضارة. ليس غريبا إذن أن الحضارة العربية الإسلامية ازدهرت في وقتهم أيما ازدهار.

لكن الكندي لم يكن نافعا للمسلمين فقط وإنما امتدت شهرته لكي تصل إلى أوروبا المسيحية. ينبغي العلم بأن قسما كبيرا من مؤلفاته ترجم إلى اللغة اللاتينية من قبل المسيحيين الأوروبيين في القرون الوسطى. نذكر من بينها «رسالة في التنجيم»، «رسالة في الموسيقى»، «إلهيات أرسطو»، «كتاب المدّ والجزر»، «الأدوية المركبة»، الخ. هكذا نلاحظ أن علم الفيلسوف العربي الأول أشع على العالم الأوروبي وساهم في إخراجه من ظلمات العصور الوسطى إلى نور الحضارة الحديثة.

وقد اعتبره بعض مفكري أوروبا بمثابة واحد من أهم عشرة أو اثني عشر مفكرا في تاريخ البشرية. وقد ساهمت مؤلفاته طيلة عدة قرون في دفع الناس إلى التفكير وتطوير العلوم وفهم قوانين الكون. وبالتالي كانت أحد أسباب نهضة أوروبا الحديثة.

أخيرا، ينبغي العلم بأن الكندي ينتمي إلى قبيلة «كندة» العربية الأصل ومن هنا نتج اسمه. وقد ولد في الكوفة. وفيها درس وترعرع قبل أن يذهب إلى بغداد، عاصمة الدنيا في ذلك الزمان. فكل مثقف كان يريد أن يشتهر آنذاك كان مضطرا في لحظة أو أخرى من حياته إلى الذهاب إلى بغداد.

ويقال بأن أصله أرستقراطي نبيل ورفيع. ويبدو أن قبيلته هاجرت من اليمن إلى العراق في قديم الزمان. وهذا جائز جدا، فالقبائل العربية كانت تتنقل بسهولة من بلد إلى آخر. والواقع أن لخلفاء بني العباس فضلا كبيرا عليه، فلولا أن المأمون وظفه في «بيت الحكمة» لما استطاع أن يتفرغ للبحث والترجمة والعلم. وكذلك فعل الخليفة التالي: المعتصم. فقد زاد راتبه بل وعيّنه مربيا لابنه: أي لولي العهد. وهذه رتبة كبيرة كان العلماء يتنافسون عليها آنذاك تنافسا شديدا. ولا يحظى بها إلا من حظي بثقة الخليفة بشكل كامل. ولكن أموره ساءت في عهد المتوكل كما قلنا سابقا إما بسبب حسد الآخرين له وإيقاعهم به، وإما بسبب انقلاب المتوكل على خط المأمون العقلاني، وانتصاره لخط أهل التقليد والفقهاء الحنابلة المعادين للفلسفة بشكل عام وإما بسبب الأمرين معا. مهما يكن من أمر فإن الكندي استطاع خلال تلك الفترة الذهبية أن يؤسس الفلسفة كعلم ذي شرعية في الساحة العربية الإسلامية، بل واستطاع أن يشكل لغة فلسفية وعقلانية عربية لأول مرة في التاريخ. وكل من جاءوا بعده استفادوا منه بدءا من الفارابي وانتهاء بابن رشد مرورا بابن سينا. وهكذا استحق بجدارة لقب: «الفيلسوف العربي الأول».