الخصوصية الثقافية.. عائق أم ميزة؟

مثقفون سعوديون يستعيدون السجال بشأنها

TT

جدل «الخصوصية السعودية» ما إن يخفت حتى يعود من جديد، وتدور رحى المعارك الكلامية بين تيار يريد أن يكرس متلازمة الخصوصية السعودية كلما اشتدت عناصر الجدل بشأن التحديث والانفتاح وغيرها، وتيار آخر يمضي قدما في تهميش وتهشيم أي وجود لمثل هذه الخصوصية.

وفي حين امتلأ المشهد بالكلام المباح وغيره بشأن موقف الفريقين من هذه الجدلية، فإن النقاش اليوم لا يستهدف إثبات أو نكران هذا الوجود للخصوصية، ولا التقليل من قيمها ومثلها العليا، مع ملاحظة وجود قدر واف من التعويل على مشجب الخصوصية للهروب من مستلزمات الواقع، كأنما هناك ثقافة مختلفة تماما عن ثقافات الشعوب المحيطة، لا تناسبها المشاريع التحديثية التي يمكن أن تستوعبها حتى الدول المجاورة، مما دفع مثقفا سعوديا بحجم سعيد السريحي للقول إن السعوديين أكثر شعوب الأرض حديثا عن الخصوصية.

السجال التالي، تطرحه «الشرق الأوسط» ويشارك فيه عدد من المثقفين للحديث عن الخصوصية، وهل هي أداة كبح أمام التنمية والتحديث، هل يمكن الاستفادة من الخصوصية التي لا يخلو شعب من وجودها كعامل أساسي لشد المجتمع وتمتين هويته وثقافته وفنه، ثم إلى أي مدى تمثل أهمية لرجل الشارع، وتخلق لديه تميزا عن غيره من أفراد الشعوب والمجتمعات الأخرى التي يشاطرها المكان والزمان والدين والهوية الثقافية الواحدة؟

* اكتشاف الخصوصية

* بداية نعود مع الدكتور توفيق السيف (مثقف وكاتب سعودي) إلى بدايات ظهور هذا المصطلح عالميا عندما بدأ نقل نماذج التنمية الاقتصادية والبشرية بشكل عام من المجتمعات والمدارس الغربية إلى المجتمعات العربية، وعندما صادفت هذه البرامج بعض العثرات وعدم الوصول إلى النجاح ذاته الذي تحقق لدى المجتمعات الغربية، مما دفع بالمنظرين الغربيين إلى الحديث عن خصوصية للمجتمعات، وأنه من غير الممكن نقل التجارب والمشاريع التنموية بطريقة «القص واللصق».

يقول السيف: «توصل المفكرون الغربيون والمثقفون آنذاك إلى أن كل تجربة تتأثر بالظرف الاجتماعي والثقافي، وأن هناك استعدادا لدى المجتمعات لتبنيها، إذا وجدت القابلية الاقتصادية ومستوى التعليم المناسب، وما إلى ذلك من المؤثرات التي تصوغ نجاح وفشل التجربة. وأن ما توصل له المفكرون الغربيون في ذلك أقر (أن لكل مجتمع خصوصية)».

لكن إلى أي مدى موجودة هذه الخصوصية في ذهنية الفرد، بحيث تشعره أنه مختلف عن غيره من الآخرين؟ يقول الدكتور عبد الرحمن الحبيب: «من الطبيعي أن لكل مجتمع خصوصية، وهناك خصوصية لكل فرد تختلف عن الآخرين، ولكل فئة عمرية وتعليمية ومناطقية»، وهذا من باب تحصيل الحاصل، كما يقول الحبيب، ومع ذلك لا يظن أن «لدينا خصوصية ذات امتياز على بقية المجتمعات».

ومن الجانب التحليلي، فما حدث في السعودية بحسب رأي السيف، هو توسيع نطاق استخدام المصطلح، بحيث أصبح أشبه بمتراس يلجأ له دعاة المحافظة عند الحديث عن فكرة جديدة أو نقل تجربة جديدة. وعند الحديث مع هؤلاء عن ملامح هذه الخصوصية لا تجد شيئا سوى عبارات من قبيل «لنا وضع خاص»، و«نحن مجتمع مسلم»، و«نحن مجتمع لديه عادات وتقاليد»، وغيرها من العبارات التي يرى السيف أنها تأتي في سياق التعريف بماهية الخصوصية التي يمتلكها الشعب السعودي، وكأن الآخرين ليسوا متدينين أو ليس لديهم مقدسات أو ليس لديهم عادات وتقاليد درجت مجتمعاتهم على إبرازها كوجه حضاري يميزهم عن غيرهم دون أن يكون ذلك عائقا لتطورهم.

في حين يرى الكاتب عبد الرحمن الوابلي أن الخصوصية هي مبدأ حقوقي للفرد على المجتمع، يجب بأن يؤمنها المجتمع للفرد داخله ويصونها ويحافظ عليها، لا العكس، إذ إن الفرد سابق على المجتمع، وهو المكون الأساس له، وعليه فسمات الفرد ونتاجه المادي والثقافي، المشكل الحقيقي لهوية المجتمع.

* الخصوصية ورجل الشارع

* لكن إلى أي مدى نجد رجل الشارع مهموما بهذه الخصوصية، ومدى تأثيرها إيجابا أو سلبا على حياته؟ يرى الدكتور عبد الرحمن الوابلي أن رجل الشارع قد يصدق بهذه الخصوصية، متى ما غيب عقله وزيف وعيه، بواسطة دغدغة مشاعره الدينية والعرقية، بينما يصنف الدكتور توفيق السيف رجل الشارع إلى صنفين، الصنف الأول من عمر الـ18 إلى 40 سنة، هذا القسم يمثل 50 في المائة إن لم يكن أكثر من المجتمع السعودي. هذا القسم، كما يؤكد السيف، تعلم في الجامعات ويتمتع انفتاح على ثقافات أخرى عبر السفر وعبر التواصل مع الآخرين بوسائل الاتصال الحديثة، وهو يميل إلى نمط حياة جديدة عكس حياة الآباء والأجداد، ويفضل السفر والعمل في شركات ضمن منظومة الاقتصاد الجديد، والتواصل مع وسائل الإعلام الجديدة واستخدام منتجات الحداثة، كما يفضلون عقد صداقات تتجاوز صلاته العائلية والقبلية. ويسمى السيف هذه الرغبات بنمط العيش الحديث، التي قد تولد لدى الفرد ميلا إلى اعتبار الخصوصية معوقا للنمط الذي ينشده.

الشريحة الأخرى أو الصنف الثاني من المجتمع، كما يراها السيف، تضم من هم أعمارهم فوق الـ40 سنة. وهي ترى، عموما، أن الماضي كان أجمل وأن قيمه ضرورة لكي نعيش حياة فاضلة.

في موازاة ذلك، يقول الدكتور عبد الرحمن الحبيب: «أعتقد أنه خلال عقدين من الزمن تم إقناع رجل الشارع عموما، لا البسيط فقط بل الأغلبية، بهذه الخصوصية التي تجعل من المجتمع صنفا آخر مختلفا عن المجتمعات الأخرى، والسبب هو زخم التعبئة الدعائية، وما تم التثقيف به في الإعلام والتعليم في الثمانينات والتسعينات، ولكثرة ما تم ترويجه من قبل تيارات متشددة ومحافظة، حتى أنها وضعت فزاعة في وجه كل تطور. أما في الفترة الحالية، فلم تعد الخصوصية بتلك الأهمية، بل أصبحت مجالا للتندر».

ويرى الكاتب محمد العثيم أن رجل الشارع لا يتصرف بتأثير من الخصوصية المبالغ فيها، بل هو تلقائي فيما يسلكه من عادات وتقاليد فهو مقلد لبيئته الاجتماعية، لذا فهو مقيد ولا يخرج عن النمط الاجتماعي لعام، أما إذا حدث تغيير فيختار السلوك النافع له وبما يحقق مصالحه الفردية، فكثير من الناس العاديين يتبنون سلوك القبيلة أو المجتمع المحلي في سبيل تسهيل أمورهم وليس اعتقادا بصحة هذا السلوكيات.

* عائق أم ميزة

* يشير الدكتور الحبيب إلى أن فكرة الخصوصية التي تميز الشعب السعودي عن غيره كانت عائقا ضخما مباشرا وفزاعة أمام أي تغيير، بينما في الفترة الحالية لا تشكل أكثر من عائق ذهني، لا أكثر ولا أقل.

ويتابع: «نحن كجماعات وأفراد سعوديين نحتاج إلى وقت لنتخلص من وهم خصوصية مختلفة عن الخصوصيات الأخرى». وفي السياق ذاته يقول الدكتور السيف إن «فكرة الخصوصية استعملت في السعودية بشكل مبالغ فيه، لمحاربة الأفكار والأطروحات الجديدة التي تدفع بالمجتمع إلى ميادين التحديث والتطوير والتحضر».

ويذهب الدكتور عبد الرحمن الوابلي إلى مستوى أبعد في تحليل تأثير الخصوصية على حياة أفراد المجتمع حيث يقول: «إن كثيرا من عوامل تنمية المجتمع، يقف حائلا دون تنفيذها الزعم بخصوصية المجتمع السعودي. ما يخيف هو أن هناك تباعدا بين الأجيال في الأفكار والقناعات ومصادر المعرفة، وهواة الخصوصية يبحثون عن نماذجهم في هذي الفجوة».

* من يتمسك بالخصوصية؟

* يقول الكاتب محمد العثيم إن صراع التيارات في المجتمع بحرية يكسر هذه الخصوصية، ويحد من تراكماتها، التي تحولت إلى تقاليد فكرية يعاني منها المجتمع المحلي، عندما تم ربطها ذهنيا بالقيم الدينية والاجتماعية، بينما يعتقد الروائي السعودي أحمد الدويحي أن هذه الخصوصية تحضر حينما يراد للرأي أن يكون أحاديا. ويضيف: «هناك نوعان من الحركة، حركة الفرد وحركة المجتمع ككل. ونحن نعرف أن حركة وحياة الشعوب، أقل إيقاعا من حياة الفرد، لذلك يستغل المنتفعون مصطلح الخصوصية في إعاقة حركة المجتمع التي بالتالي ستعيق حركة الفرد على المديين المتوسط والبعيد».

* توظيف الخصوصية فنيا وثقافيا

* ويدعو الدكتور الحبيب إلى أن يتم التعامل مع الخصوصية بشكل طبيعي، فالخصوصية «تأتي من داخل الشيء ولا تصطنع ولا تفرض فرضا»، ويضرب مثالا على ذلك قائلا: «لو أن شاعرا ما أبدع قصيدة مثلا، فلن نساعده لو قلنا له إنها تفتقر إلى الخصوصية السعودية، لكن قد نساعده لو قلنا له إنها لم تكن طبيعية بل كانت متكلفة ومصطنعة، وإنه (أي الشاعر) بالغ في اصطناعها وخرج عن عفويته».

ويقول الدويحي: «إن مفهوم الخصوصية يضيق إذا حصر في الجانب الثقافي، فالمثقف قادر على تجاوز كثير من شكليات الخصوصية»، بينما يعتقد الكاتب محمد العثيم أن من أولى الخطوات التي يجب تبنيها لمعالجة مصطلح الخصوصية فتح المجال أمام الحوار ومواجهة من يزعم بخصوصية المجتمع السعودي عن غيره، وفي هذا الاتجاه يؤكد العثيم ضرورة إعطاء التوازن لكل التيارات الفكرية داخل المجتمع المحلي، بحيث لا يوجد من يفرض رأيه على التيارات كافة.

ويعتقد الدكتور توفيق السيف أن الحديث عن الخصوصية لدى السعوديين يأتي وكأنها نقيض للعالمية أو الكونية، بينما يمكن استخدام المكونات المحلية في الوصول إلى العالمية، ويضرب مثلا على ذلك بالروائيين العالميين مثل غابريال غارسيا ماركيز، الذي انطلق إلى العالمية من ثقافة الريف الكولومبي، عندما حولها إلى أعمال روائية راقية، والعالم عرف هذه الثقافة من خلال أعمال ماركيز.

ويرى السيف أن التنوع الذي يزخر به المجتمع السعودي من تنوع مذهبي وقبلي ومناطقي وثقافي، يمكن أن يكون مصدر إثراء وإلهام لمنتج محلي - عالمي سواء كان ثقافيا أو فنيا أو علميا، ويمكن بهذه الطريقة وضع المحلية كخطوة أولى نحو العالمية.

* تجاوز عقبة الخصوصية

* «الكف عن توهم أن الحفاظ على الخصوصية يتم باصطناعها وتصنعها عبر فرض أنماط اجتماعية وثقافية معينة»، هو أيسر السبل لتجاوز معضلة خصوصية المجتمع، كما يقول الدكتور عبد الرحمن الحبيب، لأن المحافظة على الخصوصية تأتي بشكل طبيعي بلا فرض، في حين يرى الدكتور عبد الرحمن الوابلي أن تجاوز الجدل الدائر بشأن الخصوصية، يتم بكشف ملابسات المصطلح نفسه ورفضه رفضا قاطعا، وذلك لتهافت منطقه وعدم صموده أمام معطيات الواقع والتاريخ.

ويشير الروائي أحمد الدويحي إلى ثراء المجتمع السعودي بتعددية شرائحه وتراثه وقيمة وتقاليده العريقة الضاربة في الجذور من شرق الوطن إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وهو يرى أن تجاوز الجدل حول خصوصية المجتمع يكون في حراك المشهد السعودي بشكل عام على مختلف مستوياته، وفتح مزيد من أبواب الحوار بحرية.