عبارات مقتضبة عبرت عن تاريخ

المؤرخ الفرنسي دانييل لاكوت يجمعها في كتاب واحد

«كلمات غيرت وجه التاريخ» المؤلف: دانييل لاكوت
TT

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث والمؤرخ الفرنسي دانييل لاكوت. وهو يبتدئ كتابه بالعبارة التالية للمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت: «الناس يتوهمون أنهم هم الذين يتحكمون في الأحداث، ولكن في الواقع فإن الأحداث هي التي تتحكم بهم! فالإنسان مسير أكثر مما هو مخير». ثم يروي المؤلف قصة العبارات الشهيرة التي بقيت في ذاكرة التاريخ، كعبارة يوليوس قيصر بعد أن عرف بخيانة أقرب مقربيه بروتوس وتآمره مع الآخرين عليه: «حتى أنت يا بروتوس!» وقد ذهبت مثلا. وهذا يعني أنه: «من مأمنه يؤتى الحذر»، كما تقول العرب. ومنها أيضا عبارة ملك فرنسا هنري الرابع: «باريس تستأهل صلاة كاثوليكية (أو قداسا كاثوليكيا)». وقد قالها بعد أن غير مذهبه البروتستانتي، واعتنق مذهب الأغلبية الكاثوليكية، لكي يقبل به الشعب ملكا على فرنسا.

ولم يكن من السهل عليه أن يغير مذهبه ويعتنق المذهب المعادي له ولطائفته كلها. فبينهما أحقاد ودماء، ولكن ليس في اليد حيلة، ففرنسا في ذلك الزمان (أي في القرن السادس عشر) ما كانت مستعدة لأن تسلم زمام نفسها لملك غير كاثوليكي. ثم يردف المؤلف قائلا، والغريب في الأمر هو أن قادة المعسكر الكاثوليكي المتعصبين كانوا يخشون أن يقدم على هذه الخطوة، أي أن يصبح كاثوليكيا مثلهم! لماذا؟ لأنهم كانوا يعرفون أن شعب فرنسا سيقبل به بعدئذ، وسوف يلتف حوله ويعطيه تاج الملك. وهذا ما لا يريدونه على الإطلاق، لأنه عدوهم اللدود، ثم لأنهم لم يأخذوا على محمل الجد قصة اعتناقه لمذهب الأغلبية، واعتبروا ذلك مجرد تكتيك أو عملية سياسية. والواقع أن هنري الرابع اتخذ عندئذ أخطر قرار في حياته، ولم يكن من السهل عليه أبدا أن يتخذه. وقد لامه أتباع مذهبه من البروتستانتيين على ذلك لوما شديدا. ولكنه قال لهم في نهاية المطاف لكي يسكتهم: «باريس تستحق قداسا كاثوليكيا!»، بمعنى أن باريس لن تعطي قيادها لأي شخص لا ينتمي إلى دين الأغلبية أو مذهبها، وبالتالي فاتركوني لأنتمي إلى هذا المذهب، ولو شكليا، لكي يصبح حكم فرنسا في أيدينا، ونرد الظلم عنا. وهكذا سكتوا على مضض. ولكن الحزازات المذهبية عنيدة. فقد اغتاله في نهاية المطاف متعصب كاثوليكي مشهور باسم رافياك. هذا وقد حاول هنري الرابع، أثناء حكمه، أن يصالح بين مذهب الأقلية (البروتستانتي) ومذهب الأكثرية (الكاثوليكي). ونجح في ذلك لفترة من الزمن، واستطاع عندئذ إيقاف الحرب الأهلية المدمرة التي كانت متواصلة منذ أكثر من ثلاثين سنة، التي أدت إلى تمزيق فرنسا. وكانت من أخطر الحروب الأهلية، وأكثرها ضررا وفتكا وضحايا. وعلى الرغم من ذلك، أو ربما بسبب ذلك، فإن المتعصبين الكاثوليك أرسلوا له رافياك لاغتياله. وبعد عدة محاولات نجح في مسعاه وأرداه قتيلا بعدة ضربات خنجر. وكان ذلك في شارع ريفولي الشهير.

واستغرب الناس كيف استطاع أن يصل إليه وهو محاط بالحراس والجنود، والواقع أن الحزب الأصولي المتعصب لدى الكاثوليك لم يغفر له أنه تجرأ على أن يجلس على عرش فرنسا، وهو البروتستانتي الزنديق الكافر! (في نظرهم بالطبع)، كما أنهم لم يصدقوا قصة تخليه عن مذهبه واعتناقه لمذهبهم. ولكن هذا لم يمنعه من أن يصبح أحد كبار ملوك فرنسا، بالإضافة إلى لويس الرابع عشر وسواه.

ثم يورد المؤلف عبارة شهيرة للملكة ماري أنطوانيت تقول فيها: «لماذا لا يأكلون البسكويت؟!»، ولكن الشيء الغريب العجيب هو أنها لم تقلها على الإطلاق، وإنما هي منسوبة إليها زورا أو خطأ. وهذا يعني أن الإشاعة أقوى من الحقيقة، فكل الناس يعتقدون بأنها قالتها عندما زحف فقراء باريس على قصر فرساي أثناء الثورة الفرنسية، أو قبلها بقليل. وعندما سمعت الصياح والصراخ خرجت إلى الشرفة وسألت الحاشية: «ماذا يريد هؤلاء؟»، فقالوا لها: «إنهم جائعون يا جلالة الملكة، ويريدون أن يأكلوا الخبز، ولا يوجد خبز لديهم». فأجابتهم: «ولماذا لا يأكلون البسكويت؟» ومعلوم أن البسكويت أغلى من الخبز بكثير. ومن لا يستطيع أن يشتري الخبز فكيف له أن يشتري البسكويت؟ والواقع أن هذه العبارة الشهيرة موجودة في كتاب «الاعترافات» لجان جاك روسو، ثم نسبت عن طريق الخطأ إلى ماري أنطوانيت. ومعلوم أن الثوار الفرنسيين كانوا معجبين جدا بروسو.

وهناك عبارة أخرى تنسب لماري أنطوانيت، ولكن هذه المرة بشكل صحيح. فعندما صعدت على المنصة لكي يقطعوا رأسها تحت المقصلة، تعثرت وداست على قدم الجلاد المكلف بقطع رأسها بعد دقائق أو ربما ثوان، قالت له: «اعذرني يا سيادة الجلاد، فأنا لم أفعل ذلك عن قصد»! ثم قطع رأسها! وهناك كلمة شهيرة في التاريخ بعنوان: «وجدتها، وجدتها!» وهي للعالم اليوناني الكبير أرخميدس. وكان عالما بالرياضيات والفيزياء، والهندسة. ومعلوم أنه كان يبحث عن سر أحد القوانين الفيزيائية طيلة شهور وشهور، دون أن يجد له حلا، وقد أعياه البحث والتساؤل، وفي أحد الأيام دخل في حوض مليء بالماء لكي يأخذ حمامه ويغتسل، وفجأة وجد الحل، فخرج عاريا من الماء، وسرح في الشوارع وهو يصيح بأعلى صوته: «وجدتها! وجدتها!»، فكانت هذه الكلمة رمزا على روعة الاكتشاف وفرحة الوصول إلى نتيجة بعد طول عناء، ولم يهمه أن الناس رأوه عاريا، بل ربما لم يشعر بذلك، لأنه كان مذهولا بلحظة الكشف..

وهناك عبارة شهيرة يعرفها كل الفرنسيين بعنوان: «اسحقوا العار والشنار!»، وهي لفيلسوف التنوير الكبير فولتير، وكان يختتم بها كل رسائله إلى أصدقائه الخلص، وفي البداية راحوا يتساءلون، ماذا يقصد بها يا ترى؟ فالبعض يقول إنه يقصد الدين المسيحي، والبعض الآخر يقول لا، فقط المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني. والبعض يقول شيئا ثالثا، إلخ. ثم عرفوا أنه يقصد بالضبط، التعصب والمتعصبين الأصوليين. وبما أن هؤلاء كانوا في معظمهم من أتباع البابا والمذهب الكاثوليكي، فإن الكلمة راحت تنطبق عليهم، ومعلوم أن فولتير قضى كل حياته وهو يهاجم رجال الدين، والخرافات، والشعوذات، والمعجزات، والعقلية الغيبية المناقضة للعلم والعقل.. وكانوا يعتبرونه رئيسا لحزب الفلاسفة المشكل من ديدرو، وجان جاك روسو، ودلامبير، وآخرين كثيرين.

وقد اختلف فولتير مع الملك لويس الخامس عشر فطرده من فرنسا، ومنع كتبه، ولاحقه ملاحقة شديدة. فهرب إلى ملك بروسيا المستبد المستنير فريدريك الثاني، وكان ذلك عام 1750، فكرمه في البداية وخلع عليه الهبات، ورفعه إلى أعلى المستويات، ولكنه اختلف معه بعدئذ، فطرده من قصره ولاحقه لفترة أيضا. فذهب إلى سويسرا، حيث أقام لفترة من الزمن قبل أن يستقر نهائيا على الحدود الفرنسية - السويسرية. ومن هناك خاض معركته الفكرية مع الأصوليين المسيحيين والظلاميين حتى آخر لحظة في حياته. وهناك عبارة شهيرة لنابليون بونابرت، قالها عندما وصل إلى مصر غازيا عام 1798: «أيها الجنود من أعلى هذه الأهرامات تنظر إليكم أربعون قرنا من التاريخ»! ومعلوم أن نابليون عندما حقق انتصاراته العسكرية في إيطاليا بين عامي 1796 - 1797، وعاد إلى باريس ظافرا تكلله هالة المجد والشهرة، أصبح عالة على الحكم، بل أصبح يخيف جميع قادة فرنسا السياسيين، وعلى رأسهم شخص يدعى باراس. وقد فكروا في أفضل طريقة للتخلص منه، قبل أن يكبر أكثر، ويأخذ السلطة منهم. فاقترحوا عليه أن يغزو إنجلترا! ولكنه أدرك فورا أن عملية كهذه تعتبر جنونا ما بعده جنون، فإنجلترا كانت تمتلك آنذاك أكبر أسطول حربي في العالم، وبالتالي فمن المستحيل أن يصل إلى شواطئها، ولذلك اقترح هو على القيادة السياسية مشروعا آخر، ألا وهو ضرب المصالح الاقتصادية لبريطانيا عن طريق قطع التبادلات التجارية بينها وبين جوهرة مستعمراتها في الشرق الأقصى (أي الهند). كيف؟ عن طريق احتلال مصر وبلاد الشام، ومعلوم أن تجار مرسيليا كانوا يتعاطون علاقات تجارية قديمة وعريقة مع مصر، وهكذا أقنع الجميع بمشروعه، بمن فيهم الداهية تاليران، ورأت القيادة السياسية في هذه الحملة وسيلة لإبعاد الجنرال بونابرت عن مركز السلطة في باريس.

وسافر نابليون إلى مصر على رأس أسطول حربي كبير، يضم ثلاثمائة وخمسا وثلاثين سفينة حربية، وثمانية وثلاثين ألف رجل. وفي طريقه إلى هناك احتل مالطا، التي لم تستطع مقاومة هذا الجيش الجرار والأسطول الكبير. وقد سافرت معه بعثة كبيرة من العلماء والفنانين والمهندسين، وعندما وصل إلى شواطئ الإسكندرية احتلها خلال أربع وعشرين ساعة. ثم يردف المؤلف؛ في ذلك الزمان كانت مصر تابعة لتركيا، وتقع تحت حكم المماليك منذ عدة قرون. وكانوا مشهورين بشجاعتهم وفروسيتهم، فقرروا الدفاع عن أرضهم وبلادهم، وجرت عندئذ معركة شهيرة، هي معركة الأهرامات، بالقرب من الجيزة. وعندما احتدمت المعركة راح نابليون يهيج جنوده بهذه العبارات قائلا: «أيها الجنود، التاريخ ينظر إليكم. من أعلى هذه الأهرامات تنظر إليكم أربعون قرنا من الزمن. فإلى الأمام أيها الجنود، صبرا في ساح الوغى». والواقع أن نابليون كان سيخسر المعركة، لولا أن جيشه كان يمتلك أسلحة حديثة لا يمتلكها المماليك، كالمدفعية مثلا، وبالتالي فماذا يمكن أن تصنع السيوف المصقولة وشجاعة الرجال أمام المدفعية الثقيلة والتكنولوجيا الحديثة؟ لقد حصدت مدافع نابليون الجنود الأشاوس للمماليك حصدا وبالآلاف، وهكذا استطاع أن يحتل القاهرة ويسيطر على مصر.

وهناك كلمات أخرى شهيرة في التاريخ، مثل كلمة شارل ديغول، التي يقول فيها: «أيها الفرنسيون، لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب». ومعلوم أنه قالها بعد دخول جيوش هتلر إلى باريس وسقوط خط ماجينو الشهير. وفي ذلك الوقت استسلم كل القادة العسكريين والسياسيين تقريبا، ما عدا الجنرال ديغول، الذي وجه نداءه الشهير إلى الشعب الفرنسي من لندن. والآن يحتفل الفرنسيون بمرور سبعين سنة على هذا النداء الشهير. وهناك كلمات، أو عبارات، كثيرة شهيرة في التاريخ، نضرب على ذلك مثلا: «أصعب شيء هو الخطوة الأولى»، أو «بعدنا الطوفان»، أو «إنه أكبر ميتا منه حيا»، إلخ.. وكل هذه الكلمات ذهبت مثلا بعدئذ، لأنها جاءت في وقتها، وعبرت عما هو أساسي بعبارة مقتضبة، قاطعة، بليغة.