عالم تولستوي الكبير في «يوميات صوفيا»

بدأت تحتفظ بيومياتها منذ الـ16 من عمرها.. لكنها أخذت تكتبها بتوق شديد بعدما تزوجته

TT

* إنني مندهشة لعدم وجود نساء كاتبات أو فنانات أو موسيقيات عبقريات. السبب هو أن كل حماسات وقابليات امرأة نشيطة تستهلك من قبل عائلتها وزوجها وخصوصا أطفالها. أما قابلياتها الأخرى فتبقى مضمورة، غير ناضجة ولا تتطوّر. وحينما تنتهي من عبء الولادة وتعليم أطفالها، تستيقظ متطلباتها الفنية وعندئذ يكون الأوان قد فات.

بالنسبة للكاتب الروسي ليو تولستوي وأفراد أسرته والمقربين منه، كانت اليوميات أو المذكرات تمثل شكلا مبكرا من أشكال التدوين اليومي الأدبي. كل واحد كانت له صفحته، وأغلبهم كانوا مثل أجهزة تسجيل لمشاعرهم الخاصة. تولستوي نفسه كان يحتفظ بمجلدات من اليوميات. طبيبه، سكرتيره، أتباعه، أطفاله وبشكل خاص زوجته، كلهم احتفظ بدفتر يوميات خاص به. ولكن من بين كل هؤلاء كان أهم من كتب من يوميات هي صوفيا أو الكونتيسة تولستوي.

بدأت صوفيا تحتفظ بيومياتها منذ السادسة عشر من عمرها، لكنها أخذت تكتبها بتوق شديد بعد عام 1862، حينما تزوجت تولستوي. لم تتوقف بعد ذلك عن كتابتها حتى وفاتها عام 1919، عندما هددت الثورة البولشفية بالاستيلاء على ياسنايا بوليانا، ضيعتها وتولستوي التي تبلغ مساحتها أربعة آلاف هكتار والتي عاشت فيها أكثر من نصف قرن «كان هناك اجتماع لتقرير كيفية الدفاع عن ياسنايا بوليانا ضد عمليات النهب»، كتبت ذلك في آخر تدوين لها: «لم يقرّر شيء حتى الآن. العربات، الثيران والناس، يتدفقون أسفل الطريق باتجاه تولا».

كان يبدو امتيازا لها العيش مع رجل تزداد شهرته اتساعا كلما تقدم به العمر. ولكن، عند منتصف حياته، تحوّل تولستوي إلى ما يشبه واعظا دينيا وأدار ظهره لكتابة الروايات. لقد تطوّر إلى نوع من راهب، مكتسبا الأتباع من أنحاء العالم، من ضمنهم المهاتما غاندي. أثناء ذلك شكّل تولستوي رؤيته الخاصة للمسيحية، لاغيا مظاهرها الإعجازية. أما الأسوأ من كل ذلك، كما تقول زوجته صوفيا، فإنه قد أخذ يهدد بالتنازل عن كل ما يملك، حتى حقوق طبع أعماله، إلى الشعب الروسي. من هنا أصبحت «يوميات صوفيا» شديدة الانفعال خلال الثمانينات والتسعينات من القرن التاسع عشر، وامرأة مرعبة خلال العقد الأخير من حياة تولستوي (1900 - 1910).

وجدت صوفيا نفسها محاطة بمجموعة «مجانين مفترسين». كل الأحاديث التي تدور من حولها كانت أحاديث عن العزوبية والطعام النباتي والمقاومة السياسية. كان لزوجها أتباع، تجمعوا حوله وضربوا الخيام خارج عزبته، يرومون إجراء المقابلات والتقاط الصور وإخبار العالم بأن الزوجين يعيشان في خلاف ونزاع. وتساءلت إن كان الآخرون حقا بحاجة لمعرفة شؤونها الخاصة. وهنا يمكن قراءة فقرة من يومياتها المبكرة التي يشوبها توق إلى العالم المفقود. ففي الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) كتبت تقول: «عيد ميلاد ابنتي تانيا الرابع عشر. حالما استيقظت، ذهبت إلى المزرعة حيث الأطفال يتنزهون.. كانت هناك أربعة مشاعل في الهواء الطلق.. مرحنا كثيرا وأكلنا كثيرا، وكان الطقس رائعا. عدنا إلى البيت وكانت للتو قد بدأت لعبة الكرات الخشبية لكن طابورا من الخيول والحمير ملأ أمامنا الأفق.. كان الأطفال في اهتياج شديد، وعلى الفور اندفعوا بسرعة صاخبة يثبون فوق الحمير ليمتطوها.. شربنا الشمبانيا في صحة تانيا؛ تورّدت وجنتاها، لكنها كانت جد مسرورة».

الحياة بين عائلة تولستوي كانت ممتعة وحلوة: حفلات العشاء، الشاي، الحفلات الراقصة، النزهات، حملات الصيد، حفلات الكونسرت، العروض المسرحية وخاصة بالنسبة إلى صوفيا العروض الأوبرالية، ثم المشي الطويل أو ركوب الخيل في الريف. كانت العائلة تمضي الشتاء في البيت المديني الكائن في موسكو. كان كل شيء يتسم بالإثارة، ولكن في الأخير كان هناك الميل إلى الانغماس في الذات الذي نبذه تولستوي ونبذ مثل هذه الحياة، مفضلا أن يحيط نفسه بأناس قريبين إلى أفكاره.

من طرفها، لم تكن صوفيا تطيق حلقة زوجها، «يا لهم من نماذج غير محبوبة، أتباع ليف نيكولايفيش. ما من شخص طبيعي واحد بينهم. وأغلب النساء هستيريّات». كثيرا ما كان تولستوي يبدو باردا حيالها، كما تشير هذه الملاحظة التي دونتها في الخامس من فبراير (شباط) 1893، عندما ذهبت وزوجها التي تطلق عليه الاسم الحميمي ليوفوشكا إلى رحلة صيد طيور الشنقب: «كان ليوفوشكا يقف خلف إحدى الأشجار.. وسألته لماذا لم يعد يكتب. طأطأ رأسه وتطلّع حوله بطريقة أقرب إلى الكوميديّة وقال: لا أحد يستطيع سماعنا عدا هذه الأشجار، كما أعتقد يا عزيزتي - كان ينادي كل شخص يا عزيزي حينما تقدّم به العمر -، لذا سأخبرك بأنني قبل أن أكتب أي شيء جديد، أحتاج أن التهب بالحب، وهذا ما انتهى الآن. «يا للعيب» قلت مضيفة بروح النكتة، يمكنك أن تقع في حبي، إن أحببت لكي تستطيع أن تكتب شيئا ما. قال: «كلا، لقد فات الأوان».

كان معروفا أن صوفيا ذاتها كانت تمتلك موهبة محترمة للكتابة. ومن دون جهد، رسمت صورا مختلفة وعديدة لمعاصريها، نجد من خلالها رأيها ومواقفها حول مشاحنات وصدامات تولستوي مع شخصيات معروفة مثل تورجنيف أو شيخوف. خلال هذه اليوميات يمر أمامنا عالم تولستوي الكبير مشهدا إثر مشهد. كما هناك مواقف تأزّم وصراعات من طرف تولستوي مع أحد ما أو شأن ما، مثل موضوع الكنيسة والدولة. باستمرار أخذت مسألة ملكيات وعقارات تولستوي تصبح مركز الحركة التي تنبئ بثورة 1917، ويرى البعض أن الكثير من أتباعه كانوا يستغلّونه طمعا لتحقيق أهدافهم السياسية الخاصة. وفي موضوع حقوق المرأة كتبت صوفيا في الثاني عشر من يونيو (حزيران)1898 تقول «إنني مندهشة اليوم لعدم وجود نساء كاتبات أو فنانات أو موسيقيات عبقريات»، ثم تجيب على ذلك قائلة: «السبب هو أن كل حماسات وقابليات امرأة نشيطة تستهلك من قبل عائلتها وزوجها وبخاصة أطفالها. أما قابلياتها الأخرى فتبقى مضمورة، غير ناضجة ولا تتطوّر. وحينما تنتهي من عبء الولادة وتعليم أطفالها، تستيقظ متطلباتها الفنية وعندئذٍ يكون الأوان قد فات».

كانت صوفيا زوجة وأما مخلصة كرّست نفسها لخدمة عائلتها، تحب الموسيقى والفنون، وكان عليها أن تكافح ضد ما اعتبرتهم «شلّة مجانين طائشين». لقد رأت زوجها ينزلق بعيدا عنها، حينما انسلّ في الساعة الخامسة من صباح يوم الثامن والعشرين من أكتوبر 1910، من ضيعته الأثيرة إلى نفسه، مخلفا زوجته البالغة (48) عاما، فمات عند محطة قطار صغيرة تبعد نحو ثمانين ميلا عن بلدته، محفوفا بأتباعه المقرّبين، الذين رفضوا دخول صوفيا بعدما تبعته قبل موته في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بوقت قليل.