الحص يرسم صورة مصغرة عن أحوال الأمة العربية

العراق وقضايا العرب والتخلف والوحدة في «ومضات في رحاب الأمة»

«ومضات في رحاب الأمة» المؤلف: سليم الحص الناشر: شركة المطبوعات في بيروت 2010.
TT

بصدور هذا الكتاب «ومضات في رحاب الأمة» عن شركة المطبوعات في بيروت 2010، أصبح للرئيس سليم الحص من المؤلفات عشرون، سجَّل فيها آراءه وأفكاره ورؤيته في مناحي الحياة العربية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتجاربه في الحكم، وقد تولى رئاسة الحكومة خمس مرات، وشغل مقعدا وزاريا في حكومة واحدة، كما شغل مقعدا نيابيا في دورتين متتاليتين، وعندما لم يحالفه النجاح في الانتخابات النيابية في عام 2000، التي أدارتها حكومة يرأسها بنفسه، قرر الانتقال من العمل السياسي إلى العمل الوطني، ومزاولة العمل العام، فأصبح لديه فائض من الوقت لمراقبة الأوضاع العامة والكتابة والتأليف.

كتاب الدكتور الحص الجديد يضم مجموعة من المقالات التي سبق أن نشرت في الصحف، وبعضها يُنشر للمرة الأولى، إضافة إلى عدد من المحاضرات ألقيت على منابر مختلفة، كما يحتوي على مجموعة من الدراسات، تراوحت بين أخلاقيات المجتمع والأزمة المالية العالمية. وبين قضية فلسطين وأوضاع العالم العربي.

يقول المؤلف إن الأمة العربية كانت منذ أجيال تواجه جملة قضايا لا قضية واحدة، صحيح أن الفكر الغالب كان يتمحور على قضية مركزية، هي قضية فلسطين، لكن قضايا التنمية التي تمتد بجذورها إلى ظاهرة التخلف اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا، وقضية الوحدة التي تنبع من واقع متشرذم على المستوى القومي، فتَّت الأمة أقطارا وشعوبا متباينة المصالح والأهداف والتوجهات، وأبرز تجليات هذه الآفة أنها رسمت خطا وهميا ومصطنعا بين الفئات الدينية والمذهبية.

قضية العراق الإثنية والطائفية تقدمت بأولية الاهتمام والمعالجة على المستوى القومي، والمؤلم أن الأمة لم تبادر إلى تدارك الانفجار في العراق، ولم تطرح على الصعيد القومي مشاريع جدية تدرأ عن البلد الشقيق مغبة المخاطر التي واجهها ويواجهها. وحتى الآن لا يلمس المواطن العربي حراكا عربيا جديا لاحتواء الكارثة، وكما في العراق، كذلك في لبنان، فإسرائيل ترى في هذا البلد مرجلا يخدم مراميها بإثارة الفتن الطائفية والمذهبية، وتعميمها من ثم على سائر شعوب الأمة.

ويرسم الدكتور الحص صورة مصغرة عن وضع الأمة، فيقول: «إن الوضع العربي ليس في أحسن حالاته، كما في العلاقة غير الجيدة بين مصر وفلسطين، مما ينعكس سلبا على السلطة الفلسطينية وعلى الوضع العربي العام».

وفي كلمة ألقاها المؤلف في الندوة العربية لمكافحة الفساد، رأى أن مقياس تقدم أو رقي أي مجتمع لا يقاس بمستوى دخل الفردي فيه، بل بمقدار ما ينعم به من أمن واستقرار، وما يسود أخلاقيات المجتمع من مزايا، منها الشفافية والعفة والتواصل البناء. والمجتمعات الغربية، على ارتفاع معدل دخل الفرد فيها، تفتقر في حالات كثيرة لهذه المزايا، وإن بدرجات متفاوتة. فهي تشكو من تفاقم الأعمال الإرهابية، وعمليات الإخلال بالأمن والقانون، وتصاعد معدلات الجريمة. فأخلاقيات المجتمع ترتبط بمستوى التربية العائلية وفعالية التربية الوطنية، والدين له فعله المشهود في ضبط سلوك الناس ضمن الأخلاقيات التي بشَّرت بها الرسالات السماوية. فالبنية الاقتصادية، تنمي في حالات ظاهرة الفساد، مثل حالة البطالة، التي قد تكون سببا في تفاقم الفقر والعوز، مما ينشئ حالات متزايدة من تجاوز القانون، كالسرقة والقتل والتخريب، وقد يترتب عليها آفات اجتماعية تكون مجلبة للفساد والإفساد.

وفي الأزمة المالية العالمية يرى أنها أظهرت حقائق لم تكن مكشوفة، منها: أولا: أن أميركا، الدولة العظمى، لا تقف على أرض صلبة من الاستقرار، كما كان الانطباع السائد. ثانيا: كشفت الأزمة الأميركية ركاكة النظام الاقتصادي العالمي. وكان الاعتقاد السائد أن أوروبا تطورت فاكتسبت كيانا اقتصاديا متميزا، يُنافس الاقتصاد الأميركي، فإذا بالسوق الأوروبية مكشوفة كليًّا على تداعيات الاقتصاد الأميركي، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الصين واليابان وسائر دول العالم. كانت العملة الأميركية ملاذا للأموال الباحثة عن الاستثمار والأمان، فإذا بهذا الملاذ يتداعى فجأة، من دون مقدمات، ولا يحل محله ملاذ آخر. لذا كانت الظاهرة العجيبة أن أخذ الدولار الأميركي يرتفع في السوق مقابل اليورو وبعض العملات الأخرى، في الوقت الذي كانت فيه أميركا مِحور الأزمة الناشئة.

ثالثا: لبنان كان لحسن الحظ من الدول القليلة جدا التي لم تتأثر سلبا بتطورات الأزمة المالية. والفضل في ذلك يعود إلى سياسة مصرف لبنان، إذ حال دون لجوء المصارف اللبنانية إلى توظيف أموالها على وجه كثيف في السوق الأميركية، ويعود أيضا للجنة الرقابة على المصارف التي أسهمت في ضبط أوضاع المصارف وتوظيفاتها، وحماية المودعين من أي خسائر يمنون بها جراء تعثر أي مصرف، وضمان حقوق المودعين كليا في جميع الحالات، الأمر الذي عزز الثقة في سلامة القطاع المصرفي.

رابعا: يبدو محتما أن الواقع المالي في أميركا، كما في سائر أقطار العالم، لن يبقى بعد الأزمة كما كان قبلها. فالثقة بأميركا، والرهان عليها اقتصاديا وماليا، أصيبت بالتصدع، وهذا يستتبع أن العالم سيسعى إلى البحث عن بديل للنظام الذي كان فيه الدولار الأميركي العملة الاحتياطية.

كما سيكون ثمة بحث جدي في إعادة النظر في صندوق النقد الدولي، الذي أثبتت الأزمة العالمية عدم جدواه في الملمات، وسيكون التوجه نحو استحداث آلية جديدة للتنسيق الدولي في الإطار المالي الاقتصادي أوسع نطاقا مما يوفره صندوق النقد الدولي.

يختم المؤلف بالتساؤل: هل كانت ذروة العولمة انهيارها، أم أن الحصيلة ستكون إعادة تفصيل ثوب العولمة في ضوء الكارثة التي وقعت، وكيف سيكون هذا الثوب؟

ويعرِّف المؤلف في مقال آخر الرقابة، فيقول إن الرقابة عنوان تنفيذي مركزي من عناوين، وظيفة أساسية من الوظائف التي تقوم بها الدولة. إنها المساءلة والمحاسبة. وهي شرط ملازم للإصلاح. إلا أن الرقابة تتوزع في مهامها بين ميادين متعددة، فالرقابة الإدارية تملي على الحكومة مواكبة الأداء والإنتاج على مستوى الإدارة الحكومية العامة. ومن المفترض أن تبدأ الرقابة في تتبع مسار الأداء وتمر بتقويم فعاليته وإنتاجيته، وتنتهي بتصحيح أي خلل قد يظهر في سياق العمل.

وهناك الرقابة المالية، التي تمارس عمليا على مختلف المراتب، فالواردات معرضة للتفلت، الأمر الذي يستوجب رقابة تردم الثغرات في الجباية، وتحول دون تحوير الواردات عن أهدافها المرسومة. والرقابة على النفقات تهدف إلى ضبط أبواب الإنفاق، والحرص على عدم خروجها عن السبل المحددة في موازنة الإدارة، سواء عن طريق الهدر، أو عن طريق شطط في التصرف، أو سوء الائتمان، وعلى هيئات متفرغة ذات اختصاص أن تمارس مهمة الرقابة المالية.

أما الرقابة الإعلامية فتمتد مساحتها لتشمل الجوانب السياسية والإدارية والمالية وغيرها، إنما من زاوية إعلامية تتجلى في الخبر والتحليل والتعليق، وسائر وسائل الترويج على الرأي العام. وقد اكتسبت الرقابة الإعلامية في عصرنا أبعادا متميزة، حيث أضحى الإعلام ركيزة أساسية من ركائز توجيه الرأي العام في اتجاه معين، وهو يؤدي في حالات كثيرة دورا حاسما في صنع سياسات الدول داخليا وخارجيا.

إن الرقابة أداة طبيعية من أدوات المساءلة والمحاسبة، والمحاسبة ظاهرة ملازمة للتقدم والإصلاح، ولقمع عمليات الفساد والإفساد. ومقومات الرقابة الفاعلة ليست مجرد ترتيبات تقنية، الأهم وجود مناخ أخلاقي يملي ضوابط رادعة. والمناخ الأخلاقي يفترض تحلي القيمين على عملية الرقابة بالحصانة الأخلاقية المنيعة، التي تجعلهم بمنأى كليا عن مؤثرات أي تهديد أو وعيد وأي إغراء أو رشوة. وهذا الرادع الأخلاقي كثيرا ما يكون وليد ثقافة وبيئة أخلاقية عامة تسود المجتمع، لها جذورها في بنيته وتكوينه وتراثه ودينه. فهل لنا بمراقبين من أصحاب الرسالة، الذين لا أثمان لهم في عصر طغت المادة على نسيجه؟

يتضمن الكتاب مقالات شتى في نواحي الحياة العربية، ويتعرض للمشكلات المتجذرة في مجتمعنا كآفة الطائفية، والعصبية الفئوية، التي تشكل انجرافا في وجهة معينة لا محيد عنها، وهي تدفع بالمُبتلي بها إلى إصدار أحكام مسبقة على ما يواجه من أمور وقضايا. فهو أسير تفكيره وسلوكه، مكبل بقيود العصبية العمياء.

كما يتناول الكتاب مقالات تعبر عن رأي الكاتب في عقوبة الإعدام، والتحولات العالمية الكبرى، ومكافحة الإرهاب، وإفلاس الليبرالية المطلقة، وأزمة النظام السياسي العربي، والعراق إلى أين، والطائفية والسلم الأهلي، وغيرها من المواضيع التي تضعنا على مفترق جذري وصعب في هذا العصر المضطرب.