تحولات الصورة في المخيلة العاشقة

خيال شعراء الاغتراب يعيد تصنيع الوقائع لتتلاءم مع مثاليات الحنين وشفافياته الحارقة

TT

تأخير مشهد الوداع في يتيمة علي بن زريق البغدادي «لا تعذليه...» رغبة دفينة من الشاعر توحي بتفسيرين، فإما انه اراد ان يدفنه في ذلك الصقع النائي من القصيدة ليداري خجله من عواطف ما تعودت الذكورة العربية على التصريح بها ناهيك عن ابرازها، وإما ـ وهذا هو الأرجح ـ انه اراد لذلك المشهد ان يكون واسطة العقد واثمن الجواهر فيه، فالقصيدة كتبت في الاندلس وهم اهل ذوق وتفنن قبل «العقد الفريد» وبعده، وهل صور القصيدة إلا ماسات من فلذات قائليها؟

ان ابن زريق لا يخجل من حنينه، ومن ذا الذي يخجل من الحنين؟ ومع حبه للمشهد الوداعي فقد صوره من جانب المرأة المودعة مكتفيا بالتصريح بلوعة الراحل، ومن يقرأ ندمه الفاجع على ترك الحبيبة والوطن في سبيل هدف غامض يتأرجح بين البحث عن الرزق والمغامرة الاكتشافية، يلمس تقديسا للقيم العائلية، فهو اول شاعر يجعل العائلة مملكة ذات سياسات ويلقي على نفسه ضمنا صفة «المخلوع» دون ان يلوم القوى الخارجية على خلعه، فالفاجعة ذاتية وقرارها شديد الشخصانية والتقريع في هذه الحالة يظل في حدود الذات.

يقول ابن زريق في مشهده الوداعي المخلوط بلوعة الندم منذ المفردة الاولى:

* استودع الله في بغداد لي قمرا

* بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

* ودعته وبودي لو يودعني

* صفو الحياة وإني لا اودعه

* وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى

* وأدمعي مستهلات وأدمعه

* لا اكذب الله ثوب الصبر منخرق

* عني بفرقته لكن ارقعه

* رزقت ملكا فلم احسن سياسته

* وكل من لا يسوس الملك يخلعه

* ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا

* شكر عليه فإن الله ينزعه

* والآن الى القصة الاساسية، فدونها يصعب التفاعل مع هذه المعاني الفادحة الحزن، والمترعة باللوعة، والقصة ذاتها ليست من التراجيديات الشكسبيرية التي تتعدد اطراف الصراع فيها، وتتشابك تفاصيلها، فهي من بساطتها ـ والبساطة لا تنقض وضوء الاهمية ـ يمكن تلخيصها بعد ان تحولت نارها الى رماد في عدة اسطر لتكتشف بعدها ان رمادها دائم الاشتعال وانها قصتي وقصتك، وقصة جارك وقريبك، بل لعلها قصة البشرية منذ ان حصن اول انسان عائلته داخل كهف حجري ثم خرج يبحث عن الرزق، فتناوشته الذئاب على طريق العودة.

وباختصار، فعلي بن زريق البغدادي رجل فقير، مثقف ومتزوج تجبره ظروف العيش على الارتحال بعيدا عن وطنه بحثا عن الرزق، لكن سوء الطالع يقف له بالمرصاد، ويمنعه من العودة سالما ـ ناهيك عن غانم ـ فيموت في الغربة بعيدا عمن يحب، ويكتب قبل ان تصعد روحه الى بارئها قصيدته الاعتذارية الموجهة الى قمره البغدادي المشع الذي رافقه في ليالي الاغتراب لينير دياجي المنافي ويشهد على تبدلات الايام وتحولات الصور والمعاني.

والقصة كتاريخ اجتماعي وادبي لا خلاف عليها، فأمهات الكتب التي ظهرت في القرنين الرابع والخامس الهجريين تشير الى ارتحال ابن زريق عن بغداد للالتحاق بأبي عبد الرحمن الاندلسي الذي لم يكن عند حسن ظن الشاعر. فالاندلس ـ آنذاك ـ وبعد ان ازدحمت بالمهاجرين المشارقة، لم تكن تحتمل فماً جديداً ينافس على لقمة العيش، وهكذا ازداد ابن زريق فقرا بدل ان يزداد غنى وتحطمت احلامه امامه فلاذ باحضان الشعر ليكتب وداعيته اليتيمة.

* ضرورات الدراما

* ويضيف الرواة بعدا جديدا للمأساة فيقولون ان ابن زريق لم يكتب شعرا سوى هذه القصيدة وانها وجدت تحت وسادته، فقد افتقده ابو عبد الرحمن الاندلسي، وارسل من يبحث عنه فعاد مبعوثوه بالقصيدة دون شاعرها.

وان يكتب ابن زريق رائعته على فراش الموت مسألة مقبولة وجائزة، فحزنه فيها حزن مفارق احرق مراكب الامل، أما ألا يكون له من الشعر سواها، فقول مردود على اصحابه لان القصيدة جيدة السبك، متناسقة التكوين ومتقدمة من حيث الصياغة، لذا يصعب ان تصدق انها القصيدة الاولى والنهائية معا، قد تكون الاخيرة اما ان تكون الاولى والاخيرة، فضرورة درامية وللدراما كالشعر ضروراتها فكيف تؤثر بالناس ان لم تنبش منجم الحزن الجماعي المستعد للتعاطف مع حكاية هي مأساة الاغلبية قبل ان تكون قصة فرد واحد يندب عشا ورزقا ودفئا عائليا حرمته منه الغربة؟

ان ابن زريق يتماهى مع الجميع حين يهجر وسائل الاستهلال المتعارف عليها، ويتوجه الى الزوجة بدلا من الحبيبة، وقد جرت العادة في شعرنا العربي ان يوجه الشاعر الغزل والعواطف الجياشة الى العشيقة، اما الزوجة، فتكفيها حراسة الاولاد، واشادة المجتمع بخلقها العفيف. وليست هذه المخالفة الفنية الوحيدة التي يرتكبها هذا الشاعر المنكوب في تحولاته فهو ايضا يبعد الاطفال عن بؤرة الاهتمام العاطفي، فهم ليسوا «زغب الحواصل» كما في استجدائية الحطيئة الشفافة:

* ماذا تقول لاطفال بذي مرخ

* زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

* وهن لسن كزغب القطا كما في اعتذارية حطان بن المعلى الخارجي:

* فلولا بنيات كزغب القطا

* رددن من بعض الى بعض

* لكان لي مضطرب واسع

* في الارض ذات الطول والعرض

* مع ابن زريق العواطف لا تحتاج الى محرضات، فالحزن طافح رقراق، والحسرة على قرار النفي الطوعي تحسها في كل شطر، فكأن الحزن الانساني المصفى ـ لا العادي المبتذل ـ هو الاساس الذي ينهض فوقه كل بيت من ابيات تلك القصيدة الدامعة:

* اعتضت من وجه خلي بعد فرقته

* كأسا اجرع منها ما اجرعه

* كم قائل لي ذقت البين قلت له

* الذنب والله ذنبي لست أدفعه

* اني لاقطع ايامي وانفذها

* بحسرة منه في قلبي تقطعه

* لا يطمئن لقلبي مضجع وكذا

* لا يطمئن له مذ بنت مضجعه

* قد كنت من ريب دهري جازعا فرقا

* فلم اوق الذي قد كنت اجزعه

* واكاد اشك ان ابياتا كثيرة اضيفت الى هذه القصيدة، وهذه عادة عربية اصيلة تقلدها هوليوود هذه الايام، فكل فيلم ينجح يتبعونه بالجزء الثاني والثالث والرابع وجميعها اضعف من الاول، وكل قصيدة تذيع يتفنن الرواة في تزيينها وتجميلها والاضافة إليها استجلابا لاهتمام السامعين، وماذا يريد المغترب الذي يطحنه الحنين ان يسمع غير حديث مرابع الصبا...؟

* ماسات وهزائم

* وهل يستطيع الانسان بعد ان يطفح كأس الخيبات ان يحتمي بغير ذلك الماضي الجميل الذي يشع عن بعد كماسة وسط ركام الانكسارات والهزائم؟

وليس بالضرورة ان يكون الماضي مشعا ومشرقا لكن قبح الحاضر هو الذي يجعله كذلك، فابن زريق وكل من يصبح ماضيه هو مستقبله، سوف يتحايل على ذلك الماضي ويعيد تلوينه وروتشته ـ من رتوش ـ وتشكيل احداثه وصوره ليصبح صالحا لسكن مخيلة تتحايل على صاحبها وتوحي له بأن حبل اللذاذات قد انقطع منذ غادر ذلك الرحم السعيد:

* بالله يا منزل العيش الذي درست

* آثاره وعفت مذ بنت أربعه

* هل الزمان معيد فيك لذتنا

* أم الليالي التي امضته ترجعه

* وبقية القصيدة قد تكون من الاضافات لكني سأثبتها لكل من طلبها كاملة فلا يضير قلعة يائسة ان تفرش دروبها ببعض التفاؤل المحسوب ـ واكاد اقول المجاني ـ لان وداعية علي ابن زريق مكتفية بحزنها الداخلي، ولا تطمح الى تسجيل حكم ومأثورات اضافية بعد ان قامت مبكرا بهذه المهمة في لوحتها الثانية المخصصة لقسمة الارزاق وهو موضوع اتكأ فيه جميع شعراء الضاد على لبيد.

يقول ابن زريق ـ ولعلهم رواته ـ في ختام تلك القصيدة:

* لأصبرن لدهر لا يمتعني

* به ولا بي في حال يمتعه

* علما بأن اصطباري معقب فرجا

* فأضيق الامر ان فكرت اوسعه

* عسى الليالي التي اضنت بفرقتنا

* جسمي ستجمعني يوما وتجمعه

* وان تغل احدا منا منيته

* فما الذي بقضاء الله يصنعه

* ان «اضيق الامر..» لا بد ان يذكرك من باب وقع الحافر على الحافر بالسبيكة الخالدة: «... ما اضيق العيش لولا فسحة الامل»، وفي تلك الفسحة ما من شيء يوازن شراسة الحاضر غير الخيال الذي لا يتذكر الاشياء ـ فذلك عمل الذاكرة ـ انما يعيد تصنيعها ويقلبها، كما الفخار لتنضج على نار الحنين الهادئة لتصبح الصورة شفافة ومثالية ولائقة بحجم الاغتراب وعذاباته، فالحنين «يفلتر» العواطف وينقيها ثم يصبها ليرضي الخيال الجامح في قوالب جديدة لا هي الحقيقة، ولا هي اختها لكنها بنت الوهم الجميل الذي يومئ فنتبعه، ونترك ما سواه... وهل للعطشى وسط الصحارى غير الرجاء والامل وبعض السراب الخجول الذي يشاغلنا قبل الوصول الى تخوم الحقيقة والقاء تلويحة الوداع الاخيرة في السفر الاخير على عالم تذوب وقائعه تحت حوافر الايام ولا يبقى منه ما يستحق الوقوف غير تلك الصور الجامحة الفالتة في اقسى لحظات الحزن من عقال مخيلة عاشقة.