دورة ناجحة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي

نظرة على خمسة عروض عربية وأجنبية فازت بجوائز متنوعة إخراجا وتمثيلا وتقنية

TT

أسدل مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الستار على دورته الثالثة عشرة التي بدأت فعالياتها في مستهل هذا الشهر واستمرت حتى الحادي عشر منه، وحصدت خمس فرق جوائز المهرجان الخمس الأفضل في: العرض، والاخراج والتمثيل والتقنية المسرحية، بعد ماراثون فني شاق وحار تبارى فيه 62 عرضاً قدمتها 44 دولة بينها 14 دولة عربية.

وفي الثلث الأخير من هذه الدورة التي تعد من أفضل دورات المهرجان برزت مجموعة من العروض قدمت لعبة التجريب بخصوصية فنية راقية سواء على مستوى التقنية المسرحية أو على مستوى الرؤية، وجسدت هذه العروض الهموم والقضايا الانسانية باستعارات وصيغ مسرحية بسيطة شديدة الصدق والواقعية.

هنا إطلالة على العروض الخمسة الفائزة بجوائز المهرجان

* الجرح الفلسطيني

* في العرض الفلسطيني «قصص تحت الاحتلال» الذي قدمته فرقة القصبة برام الله وأخرجه نزار الزغبي، والفائز بالجائزة الأولى في المهرجان (احسن عرض)، اعتمد المخرج على فضاء مسرحي حر، وعناصر سينوغرافيا بسيطة: ديكور عبارة عن خمس كومات من ورق الصحف أخفى تحت احداها منضدة صغيرة وكرسيين، اضافة الى كرسي آخر يتدلى من سقف المسرح تجلس عليه دمية بملابس سوداء معصوبة الوجه بشرائط بيضاء، ومن زوايا المسرح تتهادى نثارات ضوء خافتة تبرز حركة الممثلين السبعة ابطال العرض والذين يمثلون بدورهم شرائح المجتمع الفلسطيني ومعاناته. ومن خلال مجموعة من المنولوجات السردية ذات الطابع الشخصي والمشاهد المرتجلة تتكشف صورة الواقع الفلسطيني المأساوية، وكيف اصبح الفلسطيني مجرد خبر تتناقله وسائل الاعلام بصورة مكرورة ومعادة في شتى أنحاء العالم، لكنه برغم ذلك انسان له طموحه، يحزن ويفرح، ويقاوم ويستشهد من أجل حياة بسيطة عادية خالية من الاحتلال والقهر، وتتخلل النص كولاجات شعرية من شعر صلاح عبد الصبور تتواشج مع ما يحدث الآن، ومؤثرات صوتية يمتزج فيها صوت الرصاص المتوحش بلحظات القلق والخوف والانكسار والتحدي التي يعيشها أبطال العرض، وقد برع المخرج في توظيف هذه المفردات البسيطة واكسابها عمقاً درامياً خاصاً مستخدماً اسلوباً «تراجكوميدي» تخللته الدعابة والسخرية والمفارقة أحياناً. كما برع الممثلون في مسرحة صور حياتهم وتجسيد فكرة الموت الذي يواجهونه في كل لحظة تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي بشكل فانتازي وبوعي ممزق، وكأنه شيء عادي، وخبر ينضاف الى جملة الاخبار المتراكمة فوق كومة الصحف التي يدفن فيها الشاب الموسيقي نفسه، حين لا يجد أحداً يكتشفه أو يحس بوجوده، والتي يتحصن خلفها الشاب وحبيبته من أجل لحظة عاطفية خاصة، يتبادلان فيها الهدايا الرمزية، طلقة رصاص وقنبلة، ومن المشاهد الدالة أيضاً في العرض مشهد النبتة المورقة المدفونة تحت كومة الصحف، وفي مشهد النهاية يحصد رصاص الغدر الجميع فتتهاوى أجسادهم وتختفي رويداً رويداً في تلال الصحف التي افترشت ارضية المسرح، ولا تظهر من هذه الاجساد سوى أصابع وأياد تلوح بايحاءات مجروحة في اشارة الى انها لا تزال تنبض بالحياة، وتمتلك الأمل والارادة.

* إسطورة معاصرة

* وفي العرض الاسباني «اليكترا» الذي قدمته فرقة اتالايا على خشبة المسرح القومي استطاع مخرجه ريكارد انييستا ان يعيد صياغة اسطورة اليكترا في ثوب مسرحي جديد معتمداً على الابهار الرائق في كل عناصر السينوغرافيا من اضاءة وديكور وملابس وموسيقى، وتشكيلات ايقاعية راقصة، فشاهدنا اليكترا ابنة الخطيئة والتواطؤات والنزق الانساني الذي جمع بين اجاممنون وكليتنسترا تتحول الى ساحرة جميلة، وهي تحاول الانتقام من اعدائها وفك لغز حياتها، معتمدة على جمالها وجموحها في الوصول الى الحقيقة والخلوص الى لحنها الخاص الذي تتوحد فيه بالحياة بلا عقد أو احساس مميت بالانتقام. لقد برع المخرج في تحريك كل مفردات العرض بإيقاعات مدهشة فبدت وكأنها تتناسل من تلقاء نفسها في غلالة شعرية شفيفة، واعتمد على عنصر ديكور موحد عبارة عن مجموعة بانيوهات من البلاستيك الشفاف وزعها بتشكيلات جذابة بعضها في خلفية المسرح وبعضها الآخر في عمق التكوين البصري، وبأدوات اضاءة باهرة حرك هذه البانيوهات ليصبح لها أكثر من دلالة ووظيفة، فهي احياناً تتحول الى تابوت للاختبار، وأحياناً أخرى تصبح مثيرة مشعة بصورة كرنفالية خاصة في لحظات الاستقبال الرسمي للملكة اليكترا، وفي لحظات تالية تصبح مصدراً للتفجر والاشتعال بخاصة مع توتر الصراع الدرامي في النص بين اليكترا وهواجسها اللعينة وأقنعتها القاتلة، وقد برعت الممثلة تشارو سوخو في تجسيد صراع اليكترا بصورة مبهرة والقفز بانسيابية بين حزمة المتناقضات المعقدة بصورة انتزعت اعجاب الجمهور وجعلتها تستحق جائزة أحسن ممثلة في المهرجان.

* الشاهد الصامت

* أما العرض البولندي «كارمن فوتيري» الحائز جائزة أفضل تقنية مسرحية، فهو يعد أحد افضل العروض التي قدمت في المهرجان من ناحية السينوغرافيا وبساطة وعمق المضمون الفكري في الوقت نفسه، فمن الصعب تماماً حصر القضية التي تطرحها فرقة مسرح الجوال في مفهوم قضية الحرب في البوسنة على أهميته، حيث تتعدى مفردات العرض المستخدمة حدود وطن بعينه لتطرح اشكالية الصراعات العرقية العالمية المنبعثة من التعصب الفكري والديني وانغلاق العقول والتي بسببها ترك الكثيرون أوطانهم وأصبحوا يهيمون مشردين في كل أنحاء العالم بأحضانه التي لم تعد تتسع لكل المغتربين عن أنفسهم. قدمت الفرقة عرضها في أحد اركان دار الاوبرا المصرية، واستخدم فيه المخرج بول ميزكوتاك أرض الشارع الأسفلت كفضاء مسرحي بينما جلس المتفرجون على الجانبين مفترشين الحشائش مما يذكرنا بتكنيك المسرح الممتد القديم. وهنا لعب المتلقي دور الشاهد الصامت الايجابي على أهوال الحرب التي جسدها العرض بوضوح منذ اللحظة الأولى، من خلال دخول بعض الممثلين يرتدون في أرجلهم عصىاً شديدة الطول في توظيف غير مألوف للعبة السيرك المعروفة وهم يضعون على وجوههم ورؤوسهم أقنعة جلدية تفيض بالقسوة، فتحولوا بالفعل لوحوش بشرية تنتمي في ملابسها الى حد ما لخطوط العصور الوسطى وهي المعروفة بأنها من أشد العصور تعصباً وتدهوراً، وراحوا يطاردون بالسياط بشراً أبرياء عزل يفيضون بالفقر والبؤس والاستسلام، وعلى يسار الفضاء المسرحي بوابة حديدية ضخمة تنقسم الى ضلفتين وتتقاطع تفريغاتها ببلوكات معدنية مليئة بالثقوب ويقابلها في الجانب الآخر من الفضاء كمعادل ترديدي درامي وتشكيلي بناء حديدي مفرغ مرتفع كثيراً عن مسطح الارض استخدم كثيراً مثل اقفاص الحيوانات الضارية، مع الاستبدال بالضحايا من الحيوانات البشر الذين لا ذنب لهم سوى معتقداتهم الفكرية والدينية، وقد اجاد المخرج كثيراً في توظيف الفضاء المجرد لتكثيف حالة القهر والقمع الشديدة التي تعتري العالم، بزيادة عدد زبانية التعذيب وسطوتهم المستمرة بأدواتهم التي تحميهم ومن خلال اشعال النار في بعض الملابس التي علقت على أربعة أعمدة على شكل مربع، في دلالة شديدة العمق على مدى تطاير بركان القهر في كل مكان وعلى نغمات ايقاعية حية ترددت من خلف البوابة الحديدية اشعلت الحالة المسرحية توتراً واثارة.

أما أفضل ما في العرض الذي استمر قرابة خمس وأربعين دقيقة فكان نهايته، حين اشعل المقهورون النيران في البوابة الحديدية الضخمة فانطلق اللهب من بين التجويفات والثقوب في كل مكان، مما اشعل تصفيق المتفرجين حتى اولئك الذين كانوا يتابعون الموقف من خارج أسوار دار الاوبرا المصرية.

وبحكم خبرة السنوات السابقة كنا نأمل كثيراً في مشاهدة عرض جيد لتونس التي عودتنا دائماً تقديم عروض متميزة، لكن فرقة مسرح فو التي قدمت عرض «المنشار الحائر» فاجأتنا مفاجأة محبطة من خلال هذا العرض الذي لا ينتمي الى عالم التجريب. أما على المستوى الكلاسيكي فلم يكن العرض على سخريته اللاذعة، سوى كلمة معبأة داخل مونودراما اكتظت بالتطويل والملل اغلب الاحيان، فقد ارتكز المؤلف (المنصف الصايم) الذي شارك في اخراج العرض مع (رجاء بن عمار) على فنان ممثل وكاتب سيناريو ومخرج وكل شيء، المهم انه ينزوي في مكتب صغير يبتكر المشاهد التي ينوي كتابتها في مفارقة بين احلامه الابداعية ومتطلبات السوق التجاري والفضائيات. ورغم ان المخرجين قدما ديكوراً جذاباً بدأ بأسلاك طولية مشدودة خلف الفنان وخلفها افترشت العديد من الصخور الصغيرة أو الاحجار أرض مسرح العرائس، لكن عدم توظيف هذا الديكور حوله بالتدريج إلى لوحة تشكيلية جامدة وليست درامية فقدت بريقها بمرور الوقت وماتت داخل قنوات استقبال المتلقي لانها لم تجد من يحييها سواء بالاضاءة أو بمفردات التكوين الموحي، اضافة الى احتشاد العرض بمونولوجات طويلة جداً مليئة بالتكرار والمترادفات التي لا حصر له. ورغم ذلك فمن الانصاف ألا نتجاهل مطلقاً موهبة وحضور بطل العرض الذي انتزع جائزة افضل ممثل في المهرجان فقد حاول جاهداً الخروج من بوتقة دوره الضيق درامياً، مضفياً عليه حالة جمالية خاصة، ساهمت في تنشيط وعي المتلقي بروح مرحة خاصة في اللحظات التي فقد فيها العرض بريقه.

* عرض نمساوي باهت

* وجاء العرض النمساوي «الشموس الجانبية» لفرقة (اديتا براون) وهي المؤلفة والمخرجة أيضاً والحائزة جائزة أفضل مخرج في المهرجان، حيث تناول العرض فكرة علاقة الأم ببناتها، لكن ظلت الفكرة في حيز النوايا الحسنة، عندما لم ينجح فاصل العرض الجسدي المدعم ببعض الحوار على شاشة الفيديو المبكرة في الخلفية، في طرح مفاهيم ابداعية جديدة فكرياً وتعبيرياً سواء على مستوى ذكريات الماضي أو تفاعل العلاقات في الحاضر، والنتيجة النهائية كانت حبسنا في مقعدنا الذي تحول لزنزانة تجريبية صغيرة، لم يطلق سراحنا منها إلا اضاءة الأنوار في مسرح الهناجر معلنة اطلاق سراحنا بعد طول اشتياق.

جوائز المهرجان:

* أفضل عرض: «قصص تحت الاحتلال» لفرقة مسرح القصبة، رام الله، فلسطين.

* أفضل اخراج: المخرجة اديتا براون عن عرض «الشموس الجانبية» لفرقة اديتا براون، النمسا.

* أفضل ممثلة: تشارو سوخو عن دورها في عرض «اليكترا» لفرقة اتالايا، اسبانيا.

* أفضل ممثل: المنصف الصايم عن دوره في عرض «المنشار الحائر» لفرقة مسرح نو، تونس.

* أفضل تقنية مسرحية: عرض «كارمن فوتيري» لفرقة مسرح بيورو يودروجي، بولندا.