ثنائية الحرب والحب في رواية كردية

حروب العراق الداخلية والخارجية في «كولستان والليل» لحسن السليفاني

TT

يحتار المؤلف حينما يحاول أن يضع اسما لمولوده الجديد. لكن القارئ النشط يزداد حيرة وارتباكاً حينما يحاول ان يجنس هذا المولود، خاصة اذا كان هذا المولود نزقاً وطائشاً ولا يعير أهمية لقواعد التصنيف والتجنيس. هذه هي الاشكالية الأولى التي يطرحها علينا نص حسن السليفاني الموسوم «كولستان والليل». الاشكالية الثانية هي اشكالية الوعي الجمالي والفني للرواية كنص مفتوح على الأجناس الأدبية كافة ومدى تمظهره في الأدب الكردي.

وتتجلى مهارة الابداع في وعي المنتج للنص بأدوات عمله وبالتالي إمساكه بقواعد اللعبة الروائية وتسخيرها في مسارات النص الإبداعي، بحيث تتجلى هذه التقنيات في جمالية تحمل بصمة الكاتب الخاصة، فكيف تعامل السليفاني مع أدواته هذه؟

ابتعد حسن السليفاني في عمله هذا كثيراً عن تقنيات الرواية التقليدية. وهذا لا يعني انه كتب رواية حداثوية بالمعنى المعجمي للمصطلح والذي بالتأكيد لا يمتلك تحديدات معينة، ولكنه استخدم ادواته بمهارة فائقة في كتابة نص مغاير مستعيناً بتقنيات الشعر في الايجاز والتكثيف والسينما في القطع وتداخل الأزمنة والمسرح في الحوار الذي يزيد من التوتر والتصعيد.

على مستوى التكنيك تظهر لنا في الصورة شخصيتان ترتديان قناعي السارد أو الراوي ليوهمنا الكاتب أنه يتحدث عن أزمتي هاتين الشخصيتين الرئيسيتين في هذه الرواية وهما الحرب والحب. فهاتان الشخصيتان تفرضان حضورهما المستمر وبالتالي سلوكياتها وآليات تعاملهما مع الحياة والفضاء الروائي العام. الحرب المجنونة العبثية تدفع بضحاياها الى المحرقة. وأول ضحاياها هم الواعون بأبعادها الحاضرة والمستقبلية، وتزداد وتيرة تأزمهم وادراك عجزهم عن تجسيد مواقفهم المتقاطعة الى فعل يوازي ضراوة الحرب وقسوتها ولاإنسانيتها فيتحول رفضهم الى سخرية مريرة تتخذ طابعا انتقاميا حينا أو رؤية ظلامية للوجود والحياة (التفت اليَّ وخاطبني بالكردية).

ـ دلشاد فهِّم هذا الحيوان قل له...

ـ سألني الضابط ـ (ماذا يقول؟) ص 32 (مع الحرب، الحياة تكون حزينة، صدأ، العنادل نائمة، صامتة) ص 46.

(جميلتي، ارجو المعذرة. مبارك عيدك. لا استطيع ان اقولها لك. لا تحزني سيدتي ما زلت حياً، استنشق الهواء العفن) ص 56.

الحرب تقلب الأمور رأساً على عقب. الضابط يتحول الى حيوان والحياة الى صدأ والعنادل تضرب عن الغناء والهواء الذي هو من مقومات الحياة الأساسية يتحول الى عفونة، فكيف ستمضي الحياة في هذا الجو الظلامي. الحرب، هذه الشخصية الشريرة لن تبقى وحيدة في الساحة تفرض اخلاقياتها على الناس والبيئة والقيم فالضد يصنع ضده. يحفزه ويعطيه قوة دفع ليشهر حربه المضادة على الحرب. انه الحب.

الحرب ليست حدثاً طارئاً تزول اسبابه ومضاعفاته بزوال حالة الحرب. انها منظومة قيم ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية ورؤية للحياة وسلوك يتمظهر بالعنف الذي من مقوماته القسوة واللا انسانية. وهي بشموليتها تسعى لاخضاع كل مفاصل الحياة الجميلة. لقوانينها الشرسة ومن ضمنها الحب والذي هو تعبير غريزي وتلقائي لارتباط الإنسان بالإنسان وبالبيئة والقيم. من اقتباساتنا السابقة لاحظنا كيف أن الحرب تخلق لنفسها قيمها الخاصة والتي ربما تسير في الاتجاه النقيض لقيم الحياة، خاصة في حرب نفد الايمان بجدواها واهميتها ومن ذلك تقنين علاقات الفرد بالآخرين وبالأخص المقربين له. فالزوجة، الحبيبة بعيدة، والمناجاة تبقى واحدة من وسائل الاتصال مع الآخر. وتصبح الكتابة رفض لمشروع الحرب في تدمير ذات الانسان واستلاب خصوصيته والهيمنة على روحه وبالتالي افراغه من هويته وجعله هامشاً او ملحقاً ولتكون الذاكرة احد دروب الرفض.

(هيمن. أين أنت؟ أي صديق الأعظمية والكورنيش ومصيف صلاح الدين. أين أنت؟ ليس من المستبعد ان تكون قد سافرت ومن دون جواز الى ذلك العالم الذي كنت تسميه (الجنة الكبرى). عندي يقين أنك تسخر من هذا الوضع واعرف جيداً انك من الرجولة بحيث تملك الجرأة لقتل نفسك مفضلاً البقاء مثل فقاعة صابون في هذه الحياة). ص 57.

هكذا تنسج الحرب خيوطها الخبيثة ويصبح العيش في اجواء الحرب فقاعة صابون سرعان ما تنفجر، وهكذا بسرعة يمر العمر. شباب قد تفتحوا لتوهم يموتون بشكل يومي وبطرق عبثية. حرب بلا بطولة والموت يأتي مجاناً من كل الطرقات.

(نجدة ذهب. صديق الدراسة وشوارع الموصل والوزيرية والجسر الحديدي وليالي القطار ودعابات الأصدقاء. نجدة مضى.. غادر هذه الدنيا. تركنا جميعاً. سراب كانت تنتظره لاعلان خطبتهما. تركها. ترك الأختين والأم محنيات الظهر حزناً وغماً. مضى ولم يقل لأحد وداعاً. وا أسفاه. ان تقتل بأيدي اصدقائك.

ـ وكيف ذلك؟

ـ هو وأربعة جنود آخرين مزقتهم مدافعنا المضادة للطائرات.

ـ لم أفهم؟

ـ فجأة ظهرت طائرتان في سماء كركوك. مضتا نحو الهدف. الخوف والارتباك شاعا بين الجنود. مع صوت انفجارات قنابلهما تفجر صوت آمر الكتيبة عبر جهاز (التنوي).

ـ افتحوا النيران ـ طائرات معادية.

ست بطاريات فتحت النيران. خمسة وثلاثون مدفعاً مضاداً للطائرات فتحت النيران دفعة واحدة، فقط مدفع نجدة ورفاقه بقي صامتاً. المدفع الذي يحاذيهم أطلق عليهم الرشقة الأولى. الارتباك جعلهم يخفضون سبطانة المدفع الى درجة أن النيران سقطت على مدفع نجدة ورفاقه وفوراً سقط الخمسة قتلى) ص 49 ـ 50.

لقد نجح الكاتب في صنع شخصيات مكثفة مأساتها الحادة هي وعيها أنها تستهلك حياتها تحت جبروت وهيمنة شخصية الحرب الحاضرة جداً واللامرئية جداً. ربما تبدو هذه الشخصيات سلبية، لكن ايجابيتها تبدو في اصرارها على استعادة هويتها الانسانية عن طريق مواصلة الحوار مع الآخر كذات مستقلة، ومع العالم كقيمة تتجلى في الصداقة والحب وعشق الكتاب والكلمة النظيفة.

لقد عبر السليفاني عن وعيه العميق بأساليب استخدام تقنيات الفنون الأخرى من أجل انجاز نص ذي مواصفات فنية. فقد استفاد من الحوار وهو تقنية مسرحية في تصعيد أجواء النص وبث خطابه الى القارئ، ومن تقنيات المونتاج والتقطيع السينمائي، واستخدام أسلوب السرد الروائي والحكي مع تنويع ضمائر السارد، واستعان بالمذكرات عبر تدوين أوراق الحرب.

وكانت عفوية اللغة المحكية التي استخدمها السليفاني في السرد والوصف والحوار قد اعطت للنص تدفقاً اكثر، وبذلك استطاع القاص ان يصنع لنا من لغة مروية لغة سردية ذات مواصفات عالية.

=