أركون واللقاءات الأولى

رحل قبل ان يكمل مشروعه الفكري تماما

محمد أركون
TT

أشعر بألم حقيقي؛ إذ أتحدث عنه بضمير الغائب الآن، بعد أن كان ملء السمع والبصر بالنسبة لي طيلة ثلاثين عاما خلت. كان الأفق الفكري الذي لا يمكن تجاوزه كما قال سارتر مرة عن الماركسية. وكما هي العادة دائما بعد الغياب الصاعق والمفاجئ، فإن شريط الذكريات يعود بك إلى الوراء لا محالة، إنه يشدك إلى اللحظات الأولى. ينبغي العلم بأني التقيت بمحمد أركون لأول مرة خريف عام 1977. كنت آتيا من بيزانسون وبوردو حيث أكملت دورة اللغة الفرنسية وأصبحت قادرا على أن أصفّ عشر كلمات بالفرنسية وراء بعضها البعض. واعتقدت أني فتحت العالم وأصبحت قادرا على فهم أعوص النظريات الفكرية. وكانت رأسي تضج بالتساؤلات حول العلاقة بين التراث والحداثة، الغرب والشرق.. ينبغي العلم أنه قبل خروجي من الوطن الغالي، كان توتري الفكري والنفسي قد بلغ درجة مخيفة من التأزم والتفاقم. في مثل هذا الجو المكهرب ذي التوتر العالي الأقصى التقيت بمحمد أركون. وكان اللقاء علاجا مسكنا على كافة الأصعدة النفسية والفكرية. أركون كان مثل كانط: راجح العقل، متوازنا كل التوازن، يعرف ما يريد. وأما أنا فكنت أقرب ما أكون إلى شخصيات بوهيمية، متوترة، لا تعرف ما تريد وربما لا تريد أن تعرف أصلا! كنت أتسكع على غير هدى في دروب تؤدي إلى لا مكان كما يقول هيدغر. إنها شخصيات فوضوية، قلقة، من نوعية روسو أو نيتشه أو رامبو أو ريلكه. وبالتالي فربما كان هذا التناقض بين الشخصيتين هو الذي أدى إلى حصول تفاهم وتعاون طويل الأمد. الإنسان يبحث عما ينقصه، وقد وجدت لديه ضالتي. كنت من كثرة همومي المطبقة، إن لم أقل كوابيسي المرهقة، لا أعتقد بوجود أية أجوبة شافية على الأسئلة التراثية التي تضج في رأسي. كنت أعتقد أنها أكبر منا جميعا ولا أحد بقادر على تشخيصها وعلاجها. وكنت بصراحة أعتقد أننا سائرون نحو الهاوية. كنت خائفا جدا على مجتمعاتنا العربية من التفكك والانهيارات. وللأسف فإن السنوات التالية لم تكذب مخاوفي. ولم تكن أفكار المثقفين العرب التي اطلعت عليها قبل الخروج من سورية تشفي الغليل ولا تروي العليل. كنت أراها هزيلة، سطحية، مؤدلجة أكثر من اللزوم. وكان أركون العدو اللدود للآيديولوجيا الامتثالية والشعارات الديماغوجية. أقول ذلك وأنا أتحدث بالطبع عن المشكلات التراثية: أي تشخيص مشكلات التراث العربي الإسلامي وصدامه المحتمل والمروع مع الحداثة والعصر. وهذا ما حصل بعد عشرين سنة أو أكثر قليلا صبيحة 11 سبتمبر (أيلول). في مثل هذه اللحظة بالذات كان حظا كبيرا لي أن ألتقي بمفكر في حجم محمد أركون ووزنه. ولم أكن قد سمعت باسمه من قبل قط. كنا نحن الطلبة العرب الوافدين إلى العاصمة الفرنسية للدراسة، نحلم جميعا بتحضير شهادة الدكتوراه في الآداب العربية، إما على يد جاك بيرك، وإما على يد اندريه ميكل. ولم يكن أحد يرغب في تحضيرها على يد أستاذ من أصل مغاربي. وهذا يعود إلى عقدة الخواجة كما يقول إخواننا المصريون، وإلى نظرة استعلائية قديمة للمشارقة على المغاربة. أيا يكن من أمر فقد وقعت في البداية على ندا توميش المصرية التي كانت رئيسة قسم اللغة العربية في السوربون آنذاك، على ما أعتقد. وبعد أن شرحت لها مشروعي لشهادة الدكتوراه أو في أثناء ذلك، دخل أركون فجأة إلى الغرفة. فصرخت قائلة: هذا لك! إنه أقرب إلى اختصاصك. وهكذا تخلصت مني عن طريق تكليف أركون بالإشراف علي وخرجت فورا. وأذكر أنه طرح علي أسئلة من هذا النوع: من أنت؟ ماذا تريد؟ ما هي تساؤلاتك؟ احك لي قصتك باختصار. وعندئذ شرحت له الوضع وطلبت منه مساعدتي على اختيار الموضوع للدكتوراه. ففكر مليا ثم خط على الورقة التي أمامه هذا العنوان: النقد العربي الحديث بين عامي 1950 - 1975. وهكذا كان. وبالفعل فبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ ناقشت أطروحة دكتوراه تحت هذا العنوان في السوربون. في تلك الأيام كنت مهووسا بالشعر الحديث والضجة التي أحدثها في الساحة العربية. وهي ضجة فكرية أيضا، بل وحتى دينية، وليست فقط نقدية أدبية. وكان ذلك يناسبني تماما، لكي أصفي حساباتي على عدة جبهات دفعة واحدة. وكان ذلك يناسب أركون أيضا لأنه مختص أساسا بالنقد الفكري لا الأدبي. هذا في حين أني كنت ميالا إلى النقد الأدبي بالدرجة الأولى، ولكن مع انعكاساته الفكرية أو الآيديولوجية. هل أثر هو علي بعدئذ أكثر فأكثر بمرور الزمن وجذبني باتجاه الدراسات الفكرية والإسلامية المحضة والتخلي عن النقد الأدبي كليا؟ ربما. ولكن ينبغي العلم بأني كنت قد تركت سورية آنذاك والمشكلة الدينية أو التراثية قد استفحلت كل الاستفحال بل وانفجرت. وهذا ما حصل أيضا في ذات الوقت في مصر وكل المجتمعات العربية والإسلامية دون استثناء. وبالتالي ففي كل الأحوال كنت سأجد نفسي عاجلا أم آجلا مدعوا للانخراط في المعمعة: أي معمعة الصراع الفكري مع الأصولية. كان واضحا أنها ستصبح مشكلة العصر التي لا يمكن تخطيها أو القفز عليها بأي شكل كان. كان زئير الحركات الإخوانية والخمينية قد ابتدأ يسد الأفق ويقضي على الآيديولوجيات الماركسية والقومية والتقدمية ويكتسحها اكتساحا. إذ أقول هذا لا يعني أني كنت أتجاهل ثقل التيارات التراثية أو أستخف بها وبمشروعيتها التاريخية. ولكني لم أكن قد اكتشفت بعد الطريق المؤدي إلى تيار إسلامي تنويري وعقلاني يتجاوز النزعة الخمينية والإخوانية التقليدية. وهو ما يحققه أردوغان على المستوى السياسي حاليا إلى حد ما. أركون هو الذي ساعدني على هذا الاكتشاف عندما كشف لي عن إمكانية بلورة تأويل عقلاني وإنساني للإسلام: أي تأويل مضاد للتأويل السائد خمينيا كان أم إخوانيا.

في هذا المنعطف بالذات كان لقائي مع محمد أركون حاسما. وقد فاجأني إذ قال لي هذه العبارة أثناء الحديث: «عندما تبتدئ دروسي في الجامعة سوف تجد أجوبة على التساؤلات الحارقة التي تؤرقك». وأذكر أن هذه العبارة علقت في ذهني. فبعد أن تركته وخرجت أتمشى على غير هدى في شوارع باريس (متى كنت أمشي على هدى أصلا؟) قلت بيني وبين نفسي: لماذا هو واثق من نفسه إلى مثل هذا الحد؟ من هو حتى يقول ذلك وأنا لم أسمع باسمه من قبل قط؟ ما كل هذا التبجح والغرور؟ ولكن تساؤلاتي أو اعتراضاتي ذهبت كلها أدراج الرياح بعد أن ابتدأ الدرس الأسبوعي بالفعل. عندئذ كنا نخرج من الدرس ونحن دائخون من كثرة الاكتشافات والصدمات الفكرية والهزات والزعزعات. كل تصوراتنا التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ومدارسنا وجامعاتنا كان يفككها تفكيكا ويقدم لنا الصورة الحقيقية التاريخية محلها. وأتذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي كانت عنه. وقد اتخذت العنوان التالي: «جولة في فكر محمد أركون.. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». ثم أرسلتها من باريس إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كان يشرف عليها آنذاك الأستاذ خلدون الشمعة والمرحوم محيي الدين صبحي. وعلى الرغم من أني كنت كاتبا غرا ومجهولا تماما آنذاك فإنها نشرت بشكل جيد في عدد فبراير (شباط) 1980: أي قبل ثلاثين سنة. وعندما وصلني العدد ذهبت به إلى أركون في مكتبه، وما إن قرأ العنوان حتى حدق بي من فوق نظاراته وكأنه يقول بينه وبين نفسه: ما علاقة هذا الشخص بالأركيولوجيا؟ بالأمس وصل إلى باريس والآن يستخدم أحدث المصطلحات في الساحة الباريسية! هل يعي معناها يا ترى؟ وهو مصطلح لميشال فوكو في الواقع. أو لكأنه يقول: لقد مسكني هذا اللعين في العصب الحساس وفهم ما أقصده بالضبط وهو بالكاد يعرف الفرنسية. والواقع أن كل فكر أركون ما هو إلا عبارة عن أركيولوجيا للفكر الإسلامي، إذا ما استخدمنا مصطلح فوكو الشهير، أو جنيالوجيا إذا ما استخدمنا مصطلح نيتشه أستاذ الجميع. بل ويمكن القول على طريقة سارتر بأنه جيولوجيا الفكر؛ لأن أركون يدرس كل أحقاب الفكر العربي الإسلامي المتراكمة فوق بعضها البعض كما يدرس العلماء طبقات الأرض الجيولوجية. وعندئذ يكشف عن القطيعة الأبستمولوجية بين العصور. المقصود هنا القطيعة الفكرية الكبرى التي حصلت بين العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية وعصور الانحطاط الطويلة. وكان دائما يموضعها مع لحظة اختفاء ابن رشد عام 1198.

كل فكر أركون إذن ما هو إلا حفر أركيولوجي في الأعماق التراثية، من أجل التوصل إلى أعمق طبقة؛ أي ظهور الإسلام وانبثاق القرآن الكريم. كان يريد أن يكشف النقاب عن هذه اللحظة التدشينية الكبرى المؤسسة لكل شخصيتنا التاريخية. وكان يستخدم كل أسلحة الفكر الحديث ومدرسة الحوليات الفرنسية والطفرة المعرفية التي طرأت على فرنسا إبان الستينات لكي يضيء تاريخ الإسلام بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. وكان محللا عميقا ومشخصا للإشكاليات لا يضاهى. ويضحكني الآن بعضهم عندما يقولون عنه بأنه: مثير للجدل! لكأنه يمكن أن يوجد مفكر له معنى في التاريخ دون أن يكون مثيرا للجدل! ماذا فعل سبينوزا أو كانط أو هيغل أو ماركس أو نيتشه أو هيدغر.. إلخ؟ كل المفكرين الكبار كانوا مفككين للقناعات الراسخة السائدة في عصرهم.

وأخيرا، فإن أكثر شيء يحز في نفسي هو أنه رحل قبل أن يكمل مشروعه الفكري تماما، لأنه كان منخرطا في دراسات استكشافية هامة جدا وتحريرية. ولكن ما خلفه وراءه يكفي لتخليده إلى أبد الآبدين. إنه المحرر الأكبر لتراثنا الديني كله.