حكايات بغدادية.. مكتوبة مرتين

الأب أنستاس الكرملي كتبها بالعامية العراقية وأعاد سلوم كتابتها بالفصحى

الكتاب: حكايات بغدادية تأليف: الأب أنستاس ماري الكرملي تحقيق: الدكتور داود سلوم الناشر: دار المدى 2010
TT

يقدم «الكتاب المطبوع» في دار المدى بعنوان «حكايات بغدادية.. للأب أنستاس ماري الكرملي» تحقيق الدكتور داود سلوم، أحد الحلول المناسبة لطباعة الكتب المعنية بجمع الحكايات الشعبية المحكية، في العالم العربي، في ظل اختلاف اللهجات المحلية، وتباينها، إلى حد تعجز الجماعات العربية عن فهم الكثير من المفردات التي تتكلم بها، وتحكي حكاياتها بالطبع، الجماعات العربية الأخرى.

وجه الحل الممكن هو أن المحقق الدكتور سلوم، عمد إلى إعادة كتابة جميع الحكايات باللغة العربية الفصحى، بعد أن كان الأب أنستاس ماري الكرملي قد كتبها باللهجة العراقية، البغدادية على الأرجح، وبذلك فإن لدينا كتاب حكايات كتب مرتين، الأولى هي إعادة الصياغة التي ارتآها الأب الكرملي، والثانية هي إعادة الكتابة بالفصحى، كما يقدمها الدكتور سلوم بلغته. وقد ذكرت هذه الملاحظة هنا، لأن عددا من جامعي الحكايات الشعبية في سورية مثلا، وفيها فسيفساء من اللهجات المحلية التي يروي فيها الناس حكاياتهم، عمدوا إلى إلغاء اللهجات المحكية، وأعادوا سرد الحكايات باللغة الفصحى التي هي، في نهاية المطاف، لغة كل باحث على حدة، مما يدفع بنا إلى السؤال: أين الحكاية الشعبية إذن؟ وماذا يمثل النص الذي يقدمه الباحث التراثي بعد أن يكون قد ألغى النص الأصلي كما توارثه الناس ورووه؟

أما الأب أنستاس ماري الكرملي، فقد ولد في بغداد عام 1886 لأب لبناني وأم عراقية، وسمي بطرس. وقد درس في مدرسة الآباء الكرمليين هناك، ثم درس في مدرسة الاتفاق الكاثوليكية. ثم تابع دراسته في لبنان، واتصل هناك بأهل العلم من أمثال إبراهيم اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، وأديب إسحاق، ومن بعد ذلك أمضى 8 سنوات بين بلجيكا وفرنسا لاستكمال دراساته اللاهوتية، ورسم قسيسا باسم أنستاس ماري الكرملي. وحين عاد إلى بغداد تولى إدارة المدرسة الكرملية، إلى جانب تدريس اللغة العربية والفرنسية فيها، يميل أحد الباحثين العراقيين للقول بأن الأب الكرملي كان أحد مؤسسي الثقافة العراقية الحديثة، والغريب في سيرة الرجل أنه كان مولعا بالتراث الشعبي العراقي، وأنه جمع الكثير من الأمثال والأغاني والحكايات الشعبية العراقية، غير أنه أحجم طوال حياته عن نشر أي كتاب من الكتب التي جمعها من هذا التراث، ويبدو لي أنه لم يهتد إلى الحل الممكن والمعقول لمسألة الحكاية الشعبية، وهي إمكانية صياغة الحكاية مرتين. ويذكر الدكتور علي القاسمي أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب صدرت في بيروت عام 2003 بتحقيق وشرح الأستاذ عامر رشيد السامرائي، بعنوان «حكايات بغداديات»، والظاهر أن الأستاذ السامرائي اكتفى بشرح المفردات الغريبة عن الفصحى دون أن يسعى لإعادة كتابة النصوص بها. ولكن من الواضح، بناء على مقالة الدكتور القاسمي، أن الأستاذ السامرائي كان من أوائل من عناهم نشر تراث الأب الكرملي المعني بالتراث الشعبي.

يضم الكتاب 52 حكاية، وتروي كل واحدة منها قصة ما من القصص التي يختلط الخيال فيها بالواقع، حيث تبدأ بجملة افتتاحية واحدة هي «اهناك مهناك» أي «هناك ما هناك» وتنتهي عند جملة «جنة عندكم وجينه» أي «كنا عندكم وجئنا»، ونرى الحكايات شديدة التنوع، على الرغم من أنها تتشابه كثيرا، وهذه واحدة من الخصائص المهمة التي وصف بها فلاديمير بروب الحكاية الشعبية، كما أن وظائف الشخصيات فيها لا تخرج عن الوظائف التي حددها، إذ نلتقي هنا بالأمير أو السلطان، وابنته، كما نلتقي بالبطل الزائف، الذي يكتشف بعد المغامرة، وبالبطل الحقيقي الذي يظهر في الوقت المناسب، ونصادف المعتدي والشرير، والمعطي أو الواهب، بالإضافة إلى النهايات السعيدة، إلخ.

في الحكاية الأولى نلتقي السلطان نسيم، أو سلطان نسيم، الذي لا يعلم أن زوجته تخونه وتعاشر الجن، إلى أن يأتي لزيارته رجل آخر كان يشك بأن زوجته تخونه أيضا، ويكتشف قصة الزوجة مع الجن أو العفاريت، فيخبر السلطان الذي يدبر أمر قتل جميع العفاريت الذين يبلغ عددهم 40 عفريتا، وتعرف الزوجة في الحلم أن سلطان نسيم اكتشف أمرها، فتهرب إلى أمها، وهناك تأمر بتحوله إلى لقلق، ولكنه يعود إلى شكله الآدمي بمعونة 3 بنات كن يشربن قرب النبع، فيعود إلى مدينته ويأمر بتحول زوجته إلى فاختة، ويضعها في قفص، ثم يأمر بقتل جميع النساء في المدينة فينصحه عجوز من حكمائها بأن يتروى في ذلك، لأن الناس ليسوا سواسية، ويشير عليه بأن يأخذ امرأة حاملا من النساء ويربي مولودها الذي سيكون فتاة إلى أن تكبر فيتزوجها، ولكن المرأة التي رباها، وتزوجها، تخونه هي الأخرى مع العفاريت، وتأسره بمساعدتهم، إلى أن ينقذه أولاده ويساعدوه على قتلهم، فيقتل الزوجة بعد ذلك.

وفي الحكاية الخامسة تعشق ابنة السلطان شابا دون أن تعلم أنه من الجن، وحين تتزوجه يأخذها إلى مغارته، فترى أنه يتغذى على لحم البشر. وحين يعرف أنها اكتشفت سره، يعذبها ويعلقها بانتظار أن يأكلها، لكنها تنجو بمساعدة قافلة من التجار، وتعود إلى أهلها، وتتزوج ابن عمها، لكن الجني يقتل أخاها وابن عمها، ثم يحاول وضعها في قدر من الزيت المغلي، فتتغلب عليه وتسقطه في القدر. ثم تسمع صوتا من الغيب يخبرها أن أرواح أهلها في القنينة المغلقة، فتفتحها ويعودون إلى الحياة.

وتبدأ هذه الحكاية بالمحكية على الشكل التالي: «اهناك مهناك اكو فرد سلطان عنده فرد ابنيه عزيزه وحاططها بسبع كبب ما أحد يشوفها بس دايتها تجيب لها عشه وغده. فرد يوم كالت لبوها يابابه آني مالي كيف. أريد اطلع من الكبب اتونس بالقصر العلى الشط».

وهذا المقابل الفصيح بصياغة الدكتور داود سلوم: «هناك ما هناك. يوجد سلطان له ابنة واحدة عزيزة عليه وقد أسكنها في سبع غرف واحدة داخل الأخرى لا يراها أحد ما عدا المربية التي تجلب غداءها وعشاءها. وفي أحد الأيام قالت لأبيها: يا أبت أشعر بأني مريضة وأريد أن أخرج من هذه الغرف وأذهب للنزهة في القصر الذي على النهر».

لا يمكننا الجزم هنا بأن محاولة الدكتور سلوم سوف تلاقي النجاح، إذ إن مثل هذه المحاولات تحتاج إلى التجربة والاحتكاك مع الجمهور القارئ، كما أن حجم الكتاب الضخم قد يعوق مسألة التلقي والوصول إلى القراء، وخصوصا من الصغار.