تركيا تعود إلى لبنان مظفرة من البوابة الطرابلسية

ولاء أيام الحكم العثماني يستيقظ على وقع مشاريع الترميم الأثرية

التكية المولوية
TT

الحضور التركي في شمال لبنان بات لافتا. فالأمر لا يتوقف على زيارات لرسميين أتراك على أعلى مستوى لطرابلس وقرى عكار بل يتعداها، ليطال ترميم الآثار العثمانية بإشراف رئاسة الوزراء التركية مباشرة، إضافة إلى تعليم اللغة التركية، وإقامة المحاضرات، وتوأمة المدن، هذا فضلا عن زيارات الفنيين والمهندسين الأتراك لتقييم مزيد من المواقع التركية القديمة التي تحتاج إلى إعادة تأهيل لإنقاذها من الإهمال. هل تعود تركيا إلى لبنان من البوابة الشمالية؟ ولماذا اختيار طرابلس تحديدا، دون غيرها من المدن لتحظى بالاهتمام التركي؟

«ساحة التل» في وسط المدينة، كما «التكية المولوية» ليسا الموقعين الأثريين العثمانيين الوحيدين اللذين عنيت وتعنى تركيا بترميمهما وإنقاذهما من الإهمال في مدينة طرابلس (شمال لبنان) في السنوات الأخيرة. فساعة التل، التي أهداها السلطان عبد الحميد للبنان عام 1902 أعيد تأهيلها باتت دقاتها تسمع في أرجاء طرابلس منذ عام 2002 بعد صمت طويل بسبب الحرب والإهمال. أما «التكية المولوية»، التي كانت واحدة من أهم مراكز التصوف للمولويين في العهد العثماني، فهي قيد الترميم، منذ عام 2007، وقيل تكرارا إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سيفتتحها شخصيا، في احتفال رسمي وشعبي أثناء زيارة قريبة له للبنان، يدشن خلالها عددا من المشاريع التي مولتها دولته، وغالبيتها في شمال لبنان. صحيح أن هناك مستشفى الحروق في صيدا الذي يتم العمل به، لكن في الشمال ثمة مشاريع عديدة، فإضافة إلى «التكية المولوية» في طرابلس هناك بركتان ونظام كامل لتصريف المياه ومسجد في عكار، قريبا من الحدود السورية. أضف إلى ذلك أن الأتراك، الذين باتوا يزورون طرابلس، بشكل دوري، كشفوا على عشرة مواقع أثرية هامة في المدينة، في الفترة الأخيرة، بهدف اختيار بعض منها ليعاد ترميمها. وترجح الكفة، في الوقت الحالي، بعد التدارس مع الجهات المحلية لصالح «سوق القمح» لما له من أهمية تاريخية وموقع وسط الأسواق القديمة، و«جامع محمود بك» بالإضافة إلى 4 خانات عثمانية. أعمال الترميم التي تشرف عليها وتمولها رئاسة الوزراء التركية عبر «دائرة التعاون والتنمية» (تيكا) التابعة لها، وتنفذها على الأرض فرق فنية تركية ومهندسون أتراك، بعد أن يتم الاتفاق مع الجهات الرسمية اللبنانية.

الحضور التركي في شمال لبنان بصيغته الثقافية لا يخلو من خلفيات سياسية، تجلت في شكلها الأبرز عندما زار وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو منطقة عكار (شمال لبنان) في شهر يوليو (تموز) عام 2009 وسط زغاريد الأهالي ونحر الخراف واستعراضات الخيل، ليكون بذلك أول وزير تركي يزور تلك المنطقة منذ مائة عام. الغاية المعلنة من الزيارة هي افتتاح مركز صحي في قرية «البيرة»، أما الهدف الأعمق والأهم، فهو إعادة التواصل مع ثلاثة آلاف لبناني من أصول تركية، ما يزالون يتكلمون اللغة التركية في قرية «الكواشرة» العكارية القريبة من الحدود السورية، وتركمان آخرون يسكنون قرى مجاورة مثل عيدمون. ويروى أن تركمان «الكواشرة» - بحسب دراسة تركية - دخلوا الأراضي اللبنانية في القرن السادس عشر وبقوا فيها، مع مرور السلطان سليم الأول في المنطقة وهو في طريقه لخوض حربه مع مصر. ونسيت تركيا وجود هؤلاء التركمان إلى أن اكتشفهم عام 1988 السفير التركي في لبنان، في ذلك الوقت إبراهيم ديشليلي، حيث تدفقت عليهم بعدها المساعدات، واعتبر هؤلاء الأتراك المنسيون بمثابة اكتشاف يستحق الرعاية. وعندما زار أحمد داوود أوغلو عكار العام الماضي، لم يخف فرحته وقال إنه يحمل معه «تحية من 72 مليون تركي في بلاد الأناضول، وسلاما خاصا من رئيس الجمهورية غول ورئيس الوزراء أردوغان». وأضاف أوغلو: «أشكركم لأنكم في عكار حافظتم على اللغة التركية ومساعدتنا لكم مقدسة، إذ نعتبر حين نساعدكم أننا نساعد أنفسنا.. وستبقى هذه الزيارة ذكرى أحملها إلى الأبد، ونحن لا ننتظر منكم الشكر، لأن ما قمنا به هو واجب علينا». ووصف وزير الخارجية التركي هذه المنطقة العكارية بأنها «جسر الصداقة الذي يربط تركيا بلبنان، وسيبقى هذا الجسر الأخوي ليوم القيامة». وتحظى الكواشرة بمساعدات تركية وبات التركمان اللبنانيون يتلقون تعليمهم الجامعي في تركيا، ويعملون على تعزيز التعاون التجاري بين البلدين، كما أرسلت لهم أنقرة أستاذا لتعليم أبنائهم اللغة التركية. ومع بدء الإعلام تسليط الضوء على تركمان عكار، أخذت مجموعات تركية أخرى تذكر بوجودها، ولبنانيون من أصول تركية يتذكرون أنهم بقوا هنا بعد خروج العثمانيين بدلالة أسماء عائلاتهم التركية. ويبدو أن هناك مجموعات تركمانية متفرقة، في طرابلس وبيروت والبقاع، باتت تعبر عن إحساسها بالود والقرابة مع تركيا.

لكن الشمال اللبناني، يبدو اليوم الأكثر جذبا للأتراك، وموطئ قدم ممهد لهم. وهو ما يفسر الزيارات الرسمية المتكررة التي يقوم بها مسؤولون أتراك بعيدا عن أعين الإعلام إلى المنطقة سواء من السفارة أو قادمين من تركيا. وفي شهر يوليو الفائت زار طرابلس بدعوة من «جمعية العزم والسعادة» التابعة لرئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي كل من مستشار رئيس مجلس الوزراء التركي الأستاذ رجب طيب أردوغان الدكتور إبراهيم قالن، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي سعات كينيكلي أوغلو، والباحث والمتخصص في الشؤون التركية محمد نور الدين. هذه الزيارة اتخذت طابعا وديا ثقافيا، ونظم للزائرين الأتراك لقاء مع الطرابلسيين، في «بيت الفن»، تحدثوا فيه عن رؤية بلادهم للمنطقة ولبنان، وطرابلس بشكل خاص.

أحد المطلعين عن قرب على هذه الزيارات، لا ينفي أن الأتراك يحاولون تعزيز حضورهم في كل المناطق اللبنانية السنية، وبشكل خاص الشمال اللبناني، حيث عرفت طرابلس أيام الحكم العثماني بولائها الكبير لاسطنبول، وما يزال سكانها يميلون لتركيا. وليس صدفة أن تكون جمعية «الصداقة اللبنانية - التركية»، موجودة في طرابلس وليس في بيروت مثلا. فقد صادف أن «جمعية العزم والسعادة» التي يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي تضم عشرة أشخاص تعلموا ودرسوا في تركيا، أحدهم هو صلاح غندور الذي يرأس اليوم جمعية الصداقة اللبنانية - التركية. وهؤلاء الأشخاص شكلوا ما يشبه همزة وصل بين البلدين، ومن خلالهم تمر العديد من الاحتفاليات والمشاريع التركية التي يشهدها لبنان.

محيطون بالرئيس نجيب ميقاتي يتحدثون عن صلة خاصة ووثيقة له بالأتراك، وأن العلاقات بين البلدين شهدت تميزا كبيرا حين كان هو رئيسا لوزراء لبنان. وخلال تلك الفترة زار رجب طيب أردوغان لبنان، فيما يتردد الرئيس ميقاتي باستمرار على تركيا، وكذلك العاملون معه، وتلقى زياراتهم اهتماما استثنائيا من قبل مضيفيهم. هذا التواصل المستمر يعزز الحضور التركي في الشمال اللبناني، الذي يقول أحد المطلعين على تفاصيله: «تركيا حاضرة في لبنان منذ مطلع التسعينات، وهي مهتمة عن قرب بهذا البلد، لعلمها أنه على صغره يشكل ساحة لحل مشكلات الشرق الأوسط أو تعقيدها. لكن وضع تركيا يتعزز اليوم، ويكفي أن ندخل أي سوبر ماركت لنرى تزايدا واضحا للمنتوجات التركية التي تتدفق على لبنان، عدا حركة السياح اللبنانيين باتجاه تركيا التي تتجاوز الثمانين ألف زائر». ويضيف هذا العارف عن قرب بالعلاقات اللبنانية التركية أن «التركيز التركي هو على الخزان السني في لبنان بشكل عام، وهذا طبيعي لأنهم يجدون مع السنة نقاط التقاء».

أكثر من ذلك يخبرنا عالمون بخفايا ما يحدث، أن المشاريع التركية تجد صدى لدى المتمولين الطرابلسيين، وقد عرض بعضهم تمويل مشاريع لترميم آثار تختارها تركيا، كما عرض الرئيس ميقاتي تمويل أي مشروع مع الأتراك يرى أن فيه خيرا لطرابلس وأهلها ويعود بالنفع على مدينته. وبالانتظار فإن العلاقات بين بلدة طرابلس وتركيا، بعد التوأمة مع مدينة قونيا، لا تنقطع، كما أن الفرق الفنية المعنية بالمشاريع الأثرية، لا تتوقف عن زيارة شمال لبنان، فيما يتزايد التدفق اللبناني التجاري والسياحي على تركيا بعد أن ألغيت الفيزا بين البلدين وباتت التنقلات حرة، وبالتالي العلاقات أكثر حرارة.