«التكية المولوية» ودراويشها تحت نظر أردوغان

مركز تركي صوفي في واحد من أفقر الأحياء اللبنانية

TT

على نهر أبو علي، وفي منطقة شعبية متخمة بالآثار العتيقة المنسية، تقع «التكية المولوية» في طرابلس التي تعنى بها رئاسة الوزراء التركية، وأخذت على عاتقها ترميمها وتحويلها إلى مركز ثقافي مخصص للطريقة الصوفية المعروفة بالمولوية نسبة إلى جلال الدين الرومي. تقطع سوقَ الأحد ببساطتها والأشياء القديمة المكومة التي يعرضها التجار هنا للبيع بأبخس الأثمان، وكأنك لا تصدق بأن كل هذه الفوضى يمكن أن تؤدي إلى مكان تسمع بأنه كان مقصدا للمتصوفة والمستشرقين ومحبي المعرفة، ومكانا يعتزل فيه الدراويش ليعيشوا خلوتهم. لا شيء يدل على أن ثمة ما هو قيد الاهتمام في هذه المنطقة سوى اليافطة الكبيرة التي كتب عليها «الجمهورية التركية، رئاسة الوزارة، ترميم التكية المولوية، المقاول دوعي إنشاءات، تاريخ العقد 18/12/2008، مدة العمل 540 يوما، مسؤول الورشة سوءات بايار». العلم التركي يرفرف على التكية، وأحد العاملين في الورشة يلمحنا ونحن نلوح له بيدنا ليفتح لنا الباب. لا يتكلم الرجل أي لغة غير التركية، ومترجم الورشة غائب اليوم لا يعود قبل الغد. مع ذلك يشرّع لنا محمد الباب، بعد أن يفهم أننا في زيارة صحافية لنجول في هذا الصرح الذي يعود بناؤه إلى 400 سنة خلت حين كان العثمانيون يحكمون المنطقة. هنا كان يتمركز متصوفة متأثرون بالفرقة المولوية التي أسسها الفارسي جلال الدين الرومي في مدينة قونيا التركية في القرن الثالث عشر. وهذا الصرح كان الأهم بين سبعة صروح مولوية انتشرت في العالم تتبع الطريقة المولوية. وبقي آل المولوي في طرابلس يحيون هذه التكية خلال النصف الأول من القرن الماضي، ومع طوفان النهر المحاذي لها أصاب محيطها الكثير من الخراب، ثم جاءت الحرب ودمرت قبتها، ليهجرها آل المولوي وتترك للخراب والمهجرين والعابثين وسرقة الآثار.

المبنى غريب في تقسيماته، غرف صغيرة جدا، وأخرى متسعة كبيرة تغطيها أسقف من عقد وسلالم تتوسط المبنى صعودا وهبوطا لتربط بين الطوابق الثلاثة، وأقسام المبنى التي تبدو كأنها غير مترابطة مع بعضها بالقدر المعتاد. يحاول الأتراك إعادة التكية بمشربياتها إلى ما كانت عليه بعد أن تم تزويدهم برسوم وصور قديمة، مع بعض التعديلات الضرورية للحفاظ على ديمومتها

والتكية كانت عبارة عن مركز يضم قاعات للتدريس ومسجدا وقاعة مخصصة للاجتماعات، وأخرى مخصصة للحلقات المولوية، إضافة إلى مسكن شيخ المولوية ومساكن للدراويش الذين يقيمون هنا، ومطعم يأتيه الفقراء لتناول وجباتهم، ومطبخ وشرفة مطلة على النهر من جهة وقلعة طرابلس التي بناها الصليبيون من جهة أخرى. وهذه الشرفة ما زالت تحتفظ ببلاطها وبإطلالتها على جهتين دفعة واحدة.

غرفة متسعة من غرف التكية تم ترميمها وتحولت إلى مكتب، على بابها وضعت صورة لرجب طيب أردوغان، وفي غرف أخرى أسرّة للعمال الأتراك الذين يرممون التكية.

الدكتور خالد تدمري، عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة الآثار والتراث، وصاحب فكرة المشروع قبل أن تتبناه تركيا، يشرح لنا أن التكية ستتحول إلى مركز ثقافي تركي في طرابس، يكون فيه متحف دائم عن الطرق الصوفية ومكتبه، وقاعات للمحاضرات ومعارض، كما يسعى الأتراك إلى تطوير أداء الفرق المولوية الموجودة في طرابلس، إذ إنهم يؤدون حاليا فتلة الدراويش بطريقة غير محترفة، وهو ما سيتم العمل عليه للارتقاء بالمستوى الفني لهذا الأداء.

ويشرح تدمري أن المشروع يتعدى التكية وحدها، ليشمل المنطقة كلها، إذ يفترض أن تحاط التكية بحدائق تستفيد من جغرافيا المكان بمرتفعاته ومنخفضاته، لتنفيذ ما يشبه الجنائن المعلقة، مع إعادة تأهيل المنطقة برمتها، لتتحول إلى مكان للجذب السياحي تستقبل السياح والراغبين في الاستراحة من أعباء يومهم.

بالقرب من التكية تلمح قبة أو ما يشبه مسجدا صغيرا مهجورا تناثرت حوله النفايات. الباعة الواقفون بقرب هذا المبنى المهجور يتحدثون عن مقام الولي الخضر، الذي له مكانة مهمة. ويقولون لك إن الدولة حاولت إزالة المقام ليمتد الأوتوستراد إلى هنا، لكن الجرافة حين وصلت أمامه تعطلت ولم يتمكنوا من إزالته لما لهذا الولي من مكارم. لكن لا المكارم التي يتحدثون عنها ولا المتصوفة الذين منحوا أنفسهم خالصة للعبادة والتأمل ذات يوم في هذه المباني - شفعت لهم على ما يبدو وأنقذتهم من الإهمال لولا أن تذكرتهم تركيا في غفلة من الزمن وجاءت تنقذ بقاياهم. ويروي منذر عوض في كتابه «قصة مدينة» عن التكية التالي: «كانت الباحة العائدة لهذا المبنى محاطة بمآخذ مياه الشرب، وكانت تظهر الفوانيس المصطفة فوق متكأ الشرفات العائدة للمبنى والتي تعتليه القبة المشرفة في باحة الذكر الخاصة بالدراويش». ويروي الكتاب - أيضا - أن هذه التكية كان يقطنها سنة 1920 ثمانية عشر عضوا مقيمين بها تحت إشراف الشيخ الكبير شفيق المولوي، وكانت محطة لزيارة المستشرقين الأجانب، ومركزا مهما للضيافة، حيث كان يقام بها المآدب الغنية في أجواء البخور والعنبر.

نصف مليون دولار هو المبلغ المخصص من رئاسة الوزارة التركية لترميم هذا المبنى، دون الأخذ بعين الاعتبار إعادة تأهيل المنطقة المحيطة به والتي تحتاج مبالغ طائلة لتخليصها من الحال المزرية التي هي فيها. ومن الصعب تصور مستقبل هذه التكية التي ترى فيها تركيا مرآة نضرة لتاريخها في هذا البلد، من دون تحسين أوضاعها المحيطة بها. وهي تقع اليوم في واحد من أفقر أحياء طرابلس، بل لبنان على الإطلاق، وأكثرها إهمالا من قبل الدولة.