ماريو فارغاس يوسا جاءته نوبل بعد أن توجه قراؤه في العالم

الأدب الثابت الوحيد في حياته المحكومة بالانقلابات

ماريو فارغاس يوسا
TT

حين سئل ماريو فارغاس يوسا، في سبتمبر (أيلول) الماضي، أثناء زيارة تكريمية له في باريس، عن إمكانية حصوله على جائزة نوبل للآداب، بدا مستبعدا الأمر، رغم أنه مرشح دائم لهذه الجائزة، وقال: «ليس من اللائق أن يتحدث أديب عن نوبل». ومع ذلك حصل يوسا على الجائزة، وكأنها تتويج مستحق للجوائز الكثيرة والقيمة التي حصل عليها في حياته، وكان من أهمها جائزة «سرفانتس» للآداب المكتوبة باللغة الإسبانية.

يوسا الأنيق دائما الشامخ باستمرار، يبدو وكأنما الكتابة هي الشيء الثابت الوحيد في حياته المتغيرة باستمرار، ليس بسبب تنقلاته الجغرافية فقط. فقد بدل زوجته بأخرى، وغير مواقفه السياسية من أقصى اليسار إلى اليمين، وتنقل بين التدريس، الصحافة، الترجمة والعمل السياسي والكتابة الأدبية. وهو حتى في هذه المهنة الأخيرة اشتهر كروائي لكنه كتب المسرحيات والمقالات، كما استهوته الكتابة عن الأدباء الذين أحبهم، فألف كتبا عن هوغو وبورخيس وفلوبير وغيرهم.

عاشق للقراءة منذ صغره رغم صد والده له وإلحاقه بمدرسة عسكرية منذ كان في الرابعة عشرة، لإحساسه أنه بذلك يقوّم اعوجاج ابنه الأدبي. نهل من نبع الكتاب الفرنسيين مثل بلزاك، وستندال، وفلوبير، وغيرهم من كبار أدباء القرن التاسع عشر. توطدت علاقته بفرنسا وكتابها حين زارها عام 1960 في ذروة مجد الوجودية ومقاهيها الأدبية العامرة في السان جرمان، حيث كانت فورة جان بول سارتر وألبير كامو وبيكت ويونسكو.

لم يبتعد عن هموم بيرو وحياتها السياسية، وكتب كأميركي لاتيني متجذر في تلك الأرض. استوحى التاريخ، وقرأ الواقع بعينين مفتحتين في كل الاتجاهات، كما يقول عن نفسه. وهو يعتبر أنه كان دائما صاحب عين نقدية. ميله لليسار في البداية لم يمنعه من قراءة كتاب أقصى اليمين وتحليلاتهم، كي يحفظ لنفسه رؤية شمولية ومتسعة. إعجابه بفيدل كاسترو وإعجابه بالثورة الكوبية خاصة مع بداياتها لم يمنعه من أن يرى أبعد منها. وهذا ربما ليس فقط بسبب روح التشريح لديه، وإنما لترحاله المتواصل باتجاه أوروبا وقدرته على عقد المقارنات بين ما يحدث هنا وما ينجز هناك. لم يكمل في طريقه الثوري وكتب رافضا القمع والدكتاتورية. عام 1980 عرض عليه منصب رئاسة الوزراء في بيرو ورفضه، لكنه بقي يعود من أوروبا ليتواصل مع أهله وبلده وأسس حركة يمينية ثم ترشح لرئاسة جمهورية بيرو عن اليمين الليبرالي، أمام ألبرتو فوجيموري، وفاز في الدورة الأولى، ليخرج من السباق في الدورة الثانية، وينتقل إلى مدريد، بعد الخيبة السياسية ويعيش هناك ويحصل على الجنسية الإسبانية عام 1993. يوسا ليس جديدا على إسبانيا التي يعيش فيها الآن ويقيم في عاصمتها، ففي هذا البلد كان قد تابع دراسته الجامعية بعد حصوله على منحة دراسية، وكتب أطروحته للدكتوراه عن روبن داريو وحاز إجازتها عام 1958. إخفاقه في السباق الرئاسي لم يعد ماريو فارغاس يوسا يأسف عليه كثيرا، إذ لم يجد في سلوك السياسيين ما يسره، حسبما يقول اليوم. لكن اللاتينيين يأخذون على هذا الأديب الكبير أنه منذ لم تطاوعه الرئاسة في بيرو بات ينظر إلى شعوب منطقته بشيء من الاستعلاء، وكأنه ابتعد عنهم وبات غير ملتحم بهم.

ماريو فارغاس يوسا، ليس موضع إجماع مواطنيه، وقفزه صوب اليمين ومقالات الرأي التي يدبجها منتقدا كثيرا من السياسات في أميركا اللاتينية لا ينظر إليها بعين الارتياح. هذا كله يجعله منتقدا في بعض الأوساط رغم شهرته العالمية التي بدأت منذ الستينات بعد نشره روايته «المدينة والكلاب» التي ترجمت إلى ما يقارب عشرين لغة وفتحت له أبواب الشهرة. قيل إنه ليبرالي إلى حد لا تحتمله الأكاديمية السويدية، لكن الجائزة أعطيت له بعد أن أصابه اليأس من الحصول عليها، وثمة من يقول اليوم إنه حاز الجائزة لنبوغه الأدبي ولكن أيضا لو بقي يساريا يشد على ساعد نظام فيدل كاسترو لما حلم بها.

مرة أخرى، تكافئ نوبل كبيرا لا بل وعملاقا في عالم الأدب، دون أن تسلم من شرارة الاتهام بالخلفيات السياسية، والانحياز لبعض المناطق الجغرافية. فهذه هي المرة الثالثة التي يحظى بها الأدب اللاتيني بنوبل للآداب. المرة الأولى منذ 28 عاما حين حصل عليها الكولومبي غارسيا ماركيز، ثم منذ عشرين سنة يوم نالها المكسيكي أوكتافيو باث، وها هو البيروفي ماريو فارغاس يوسا، ينالها أيضا عن جدارة وبعد أن قرأ رواياته الجميلة الحاذقة أهل الكوكب بمختلف لغات العالم، واستطاعت أن تكون رغم تقنياتها العالية، شعبية وفي متناول الناس أجمعين.