حين حل الشاعر محل الكاهن

مختارات من الشعر الفرنسي في مراحله الخمس

غلاف الكتاب
TT

المؤلف الأساسي لهذا الكتاب هو الناقد الفرنسي إيمانويل دو وارسكييل. وفيه يقدم لمحة تاريخية عامة عن الشعر الفرنسي منذ أقدم العصور وحتى اليوم. وهو يقسم هذا الشعر من الناحية المنهجية والزمنية إلى 5 مراحل: أولا مرحلة العصور الوسطى وعصر النهضة (1261 - 1578)، وثانيا مرحلة العصر الكلاسيكي (1621 - 1796)، وثالثا مرحلة الشعراء الرومانطيقيين (1818 - 1909)، ورابعا مرحلة الحداثة الشعرية (1911 - 1945)، وخامسا وأخيرا مرحلة الشعر المعاصر لنا (1945 - 2004).

ونلاحظ أن المؤلف يختار أجمل القصائد المعبرة عن كل مرحلة من هذه المراحل. ففي ما يخص المرحلة الرومانطيقية مثلا، نلاحظ أنه يختار قصيدة «البحيرة» للشاعر لامارتين. ومعلوم أنها كانت قد ترجمت إلى العربية منذ زمن طويل، بل وحتى شعرا. وأجمل ترجمة لها كانت على يد نقولا فياض. كما يختار قصيدة «الخريف» للشاعر نفسه. وهي تشكل أحد نجاحات الشعر الفرنسي مع الأولى. ولا ينبغي أن ننسى قصيدة «الجن» لفيكتور هوغو، أو قصيدة «نزهة في ضوء القمر» للشاعر الرومانطيقي بامتياز: ألفريد دوموسيه.

وكذلك يذكر المؤلفان قصيدة «حب» لفيكتور هوغو، و«غدا مع الفجر» للشاعر نفسه، و«ليلة ديسمبر» لألفريد دوموسيه، و«شَعْر الحبيبة» لبودلير، و«قصائد أخرى كثيرة لفيرلين، ورامبو، ومالارميه.. والشيء الغريب هو أنه يحشر هؤلاء الشعراء الأربعة الأخيرين في خانة الشعر الرومانطيقي على الرغم من أن كتب النقد الفرنسية تعتبرهم عموما بمثابة الشعراء المؤسسين للحداثة.

فما هو السبب يا ترى؟ في الواقع إنهم في مراحلهم الأولى كانوا لا يزالون رومانطيقيين وذلك قبل أن ينتقلوا إلى المرحلة التالية: تدشين الحداثة. وبالتالي فهم من الشعراء المخضرمين إذا جاز التعبير. فبعض أشعارهم يمكن اعتبارها بمثابة جسر بين القديم والجديد، أو بين الرومانطيقية والحداثة، يضاف إلى ذلك أنه لا يوجد أي شعر ولا يمكن أن يوجد من دون نفحة رومانطيقية، نوستالجية، حنينية.

وهذا ما ينص عليه بودلير حرفيا. ولكن هناك فرق بين الرومانطيقية البكائية المليئة بالتفجع والنواح، وبين الرومانطيقية المكبوتة أو الضمنية التي لا تظهر إلا بشكل خفيف جدا أو حتى بشكل غير مباشر من خلال القصيدة. وهنا يكمن الفرق بين رومانطيقية لامارتين مثلا أو ألفريد دوموسيه من جهة، ورومانطيقية بودلير أو رامبو أو مالارميه من جهة أخرى. وبالتالي فهناك رومانطيقية ورومانطيقية.. يقول المؤلف بخصوص الرومانطيقية الفرنسية ما معناه: لقد ظهرت الرومانطيقية في فرنسا بعد الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. وقد شعر جمهور القرن التاسع عشر فورا بالانجذاب نحو هذا الشعر الذاتي الانفعالي الذي يعبر عن مشاعره الدفينة ونبضات قلبه الحساسة. وكان لامارتين أول الرومانطيقيين. وقد لاقى شعره إقبالا كبيرا من قبل القراء. وأصبح يُقرأ في الصالونات الباريسية والمسارح وكان يعبر عن حساسية جديدة تختلف عن الشعر الكلاسيكي الذي لم يعد يقنع أحدا بسبب اتزانه ورصانته وكبته للمشاعر الشخصية بحجة الحياء أو الحشمة، إلخ.

وعندئذ قالت مدام دوستال العبارة التالية: «إن الحضارة الجديدة بحاجة إلى أدب جديد. ففرنسا كانت قد تجددت بعد الثورة الكبرى وانقلبت أوضاعها رأسا على عقب اجتماعيا وسياسيا وفكريا».

وبالتالي فلم يعد الأدب القديم قادرا على الاستمرار.. وعلى هذا النحو يمكن أن نفهم ظهور العباقرة من أمثال بلزاك وستندال وفلوبير في مجال الرواية، أو فيكتور هوغو، ولامارتين، وألفريد دوموسيه، في ما يخص الشعر. ويرى المؤلف أن الحركة الرومانطيقية كانت تبدو جديدة كليا عندما اندلعت في فرنسا أوائل القرن التاسع عشر. وقد جاءتها من جهة ألمانيا وإنجلترا أولا، ثم أصبحت ظاهرة محلية، وطنية، وترسخت في التربة الفرنسية. ومن سمات الرومانطيقيين غزارة أشعارهم، وطابعها الغنائي المؤثر، ونظرتهم المستسلمة للواقع أحيانا، وحنينهم إلى الماضي أو إلى شيء مبهم غامض، وشعورهم بعبثية العالم أو فراغه، وإحساسهم بأن كل شيء عابر، وهش، وإلى زوال، وإحساسهم الرائع بالحب والحبيبة، وذوبانهم العاشق في فصول الطبيعة، إلخ.. وكل ذلك حبب الناس فيهم وجذب إليهم جمهورا واسعا من القراء الفرنسيين. إن تعبير الرومانطيقيين عن الألم الشخصي من دون تورع أو خجل، أو قل بشيء من الحياء والخجل لدى البعض، لامس أحاسيس الناس الذين يشعرون بالحاجة أيضا إلى التعبير عن آلامهم الدفينة وأحزانهم الشخصية وخيباتهم في الحياة. ومعلوم أن فترات الانتقال والقطيعات الكبرى يرافقها نزيف حاد وآلام هائلة. وهذا ما حصل بعد الثورة الفرنسية.

ولهذا السبب أصبح الناس يمجدون الشاعر أو الفنان بشكل عام ويرون فيه كائنا أعلى يحلق في سماوات الإبداع والخيال. ولكن في أحيان كثيرة كان الشاعر يعبر عن آلام المجتمع أيضا وعن الأوضاع المزرية للطبقات الشعبية الفقيرة، وبالتالي فكان شعره يحمل مضمونا إنسانيا وطبقيا. وهذا ما أثر كثيرا على نفسية الناس الذين رأوا في الشاعر الصوت الناطق باسمهم والمعبر عن مشكلاتهم الملموسة والمحسوسة. وهذه هي حالة لامارتين الذين كان منخرطا في العمل السياسي، بل أصبح وزيرا للخارجية.

وقل الأمر ذاته عن فيكتور هوغو الذي أصبح صوت الشعب الفرنسي كله من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية ومحاربة التعصب والجهل والفقر والظلم. وبالتالي فالشاعر الرومانطيقي لم يكن فقط شاعرا مهموما بمشكلاته الخاصة وخيباته في الحب أو في الحياة بشكل عام، وإنما كان أيضا مهتما بالأوضاع العامة ويحمل رسالة ما إلى البشرية. لقد حل محل الكاهن أو رجل الدين. وعندئذ تشكلت سلطة روحية علمانية وحلت محل السلطة الكهنوتية. وهنا تكمن قطيعة الحداثة الأساسية. هل يمكن أن يحل الشاعر أو المفكر في العالم العربي الآن محل الشيخ يوسف القرضاوي؟ مستحيل. ولكن هذا ما حصل في فرنسا أو عموم أوروبا مع قطيعة الحداثة.

على هذا النحو يمكن أن نفهم كيفية الانتقال من المرحلة الكلاسيكية إلى المرحلة الرومانطيقية. فالرومانطيقية كانت تمثل قطيعة كبرى على كل الأصعدة والمستويات من فنية وجمالية واجتماعية وسياسية. وبالتالي فلا ينبغي اختزالها إلى مجرد حركة شعرية أو أدبية فقط. إنها أكبر من ذلك بكثير.

أما في ما يخص عملية الانتقال من المرحلة الرومانطيقية إلى مرحلة الحداثة الحقة، فيقول المؤلف ما معناه: بعد أن استنفد الشعر الرومانطيقي كل إمكانياته ظهرت الحداثة على أيدي الكبار من أمثال بودلير ورامبو ومالارميه وأبولينير، إلخ، لكي تقدم أشكالا جديدة ومضامين جديدة أيضا. فالغنائية العذبة تحولت إلى ميوعة عاطفية لدى بعض الشعراء الرومانطيقيين، وبالتالي فقد وجب على الشاعر الحديث أن يقطع معها. وعندئذ ابتدأ شعر الحداثة على أيدي الكبار: بودلير، وفيرلين، ومالارميه، ورامبو، وبالأخص رامبو الذي طرح شعاره الشهير: «ينبغي أن نكون حديثين بشكل مطلق». ولكن ينبغي أن نضيف إليهم ذلك الوحش الجهنمي المرعب: لوتريامون. يضاف إلى ذلك أن الشاعر الرومانطيقي ظل متقيدا بقيود الوزن والقافية. وهذا الشيء أصبح بمثابة الأصفاد المرهقة بالنسبة للشاعر الحديث، ولم يعد ممكنا تحملها. وبالتالي فقد لزم كسر الأوزان والقوافي. وهذا فعله الشعراء الكبار في المرحلة الثانية من حياتهم الشعرية. صحيح أن ديوان «أزهار الشر» لبودلير كان لا يزال يخضع للأوزان الشعرية الكلاسيكية، ولكن مضمونه لم يعد رومانطيقيا على طريقة لامارتين أو فيكتور هوغو، أي أنه لم يعد تقليديا. يضاف إلى ذلك أن بودلير كتب في مراحله المتأخرة «قصائد نثر صغيرة». ودشن بذلك شكلا جديدا من أشكال الكتابة الشعرية. وهو شكل كان محتقرا في السابق أو قل لا يحظى بالمشروعية الشعرية لأنه خال من الأوزان والقوافي. وقل الأمر ذاته عن رامبو. فقد ابتدأ ينظم الشعر على الطريقة الكلاسيكية الموزونة المقفاة (انظر قصيدة «القارب السكران» الشهيرة)، ثم انتهى بقصيدة النثر الكاملة (انظر «الإشراقات»). وهذا تطور طبيعي لدى كل شعراء الحداثة، بمن فيهم شعراء الحداثة العربية.

والواقع أن شعراء الحداثة الفرنسية من الجيل الثاني، أي جيل بدايات القرن العشرين، كانوا مقلدين في البداية لشعراء الجيل الأول، ونقصد به جيل رامبو ومالارميه ولوتريامون أساسا. ولم يكن أندريه بريتون زعيم الحركة السوريالية الجديدة يمجد إلا رامبو وبالأخص لوتريامون. ثم ذهب إلى أبعد منهم في الخروج على الأعراف الشعرية عندما دعا إلى الكتابة الأوتوماتيكية الهذيانية المحررة للوعي الباطن والمتخلصة من كل المحرمات والتابوهات.. وهنا نصل إلى التخوم القصوى للكتابة الشعرية حيث التلاشي الكامل.

بالطبع من أهم شعراء هذه الفترة يذكر المؤلف غيوم أبولينير، الذي مات شابا (38 سنة)، وماكس جاكوب، وسندرارس، وبول فاليري، وأندريه بريتون، وبول إيلوار، وفرانسيس بونغ، وبيير جان جوف، إلخ.