النص الأنجح لا يفقد وهجه في الترجمة

الروائي العماني عبد العزيز الفارسي: قصصي مع مرضى السرطان زلزلتني ككاتب

الروائي العماني عبد العزيز الفارسي
TT

على الرغم من أنه قدم رواية واحدة حتى الآن، هي «تبكي الأرض.. يضحك زحل»، فإن الأديب والقاص العماني عبد العزيز الفارسي، يعتبر أحد أبرز الوجوه السردية في سلطنة عمان. فروايته التي صدرت عن «دار الانتشار العربي» اعتبرت واحدة من التجارب الناضجة سرديا في عمان، ورشحت لجائزة «البوكر» العربية.

يقيم عبد العزيز الفارسي حاليا في كندا، حيث يدرس بجامعة مكماستر من أجل الحصول على زمالة الكلية الملكية الكندية في الطب الباطني وطب الأورام، والحوار التالي أجرته «الشرق الأوسط»، إلكترونيا، مع الروائي العماني.

* لقد دخلت عالم الرواية متأخرا.. كيف ترى نفسك اليوم في عالم الرواية؟

- الرواية عالم خلاب آسر يجذبني إليه أكثر كلما مر علي يوم. سأكون واقعيا جدا، لم يكن الوضع ليتغير كثيرا لو كتبت روايتي الأولى قبل خمس سنين، أو بعد سنتين من الآن، ففي النهاية أنا سأترك لكل رواية أنوي كتابتها مساحة كبيرة من الحياة والتأمل والمحاولة وإعادة الصياغة، وستنتهي حياتي وأنا روائي مقل، فالأهم بالنسبة إلي هو نحت عالم متغير نابض يمتد من روحي إلى القارئ، ويدفعه إلى إعادة النظر في حياته. نقترب الآن من السنة الرابعة على صدور تلك الرواية الأولى، ولا أظن أن القراء سيقرأون رواية جديدة لي قبل سنتين من الآن.. إن كان مقدرا لي أن أكون روائيا معروفا فما أعرفه أنه سيمر وقت طويل قبل أن يترسخ اسمي في أذهان محبي الروايات.

* رواية «تبكي الأرض.. يضحك زحل»، كأنها «فانتازيا» غير مرتبطة بمكان أو زمان، رغم ما تتضمنه من صورة إنسانية، هل يستهويك هذا النوع من الأعمال التي لا تقيدك بموروث ثقافي يرسم مسارات الرواية؟

- أتفق معك في أني لم أصرح بالمكان في نص الرواية، ولم أحدد إطارا زمنيا واضح المعالم للنص، لكن سير الأحداث، وتفاصيل الأبطال تشير بوضوح إلى البيئة الخليجية بشكل عام، والبيئة العمانية بشكل أخص.

من ناحية أخرى، أعتقد أن الموروث الثقافي يشغلني أكثر من أي شيء آخر، سواء في كتابة الرواية أو القصة. لقد خصصت مثلا تجربتي القصصية للحديث عن الشناصيين (نسبة إلى شناص.. مسقط رأسي ومكان إقامتي الرسمي) بكل تفاصيلهم وأفكارهم وتقاليدهم وموروثاتهم. والرواية الأولى نفسها أسهبت في بعض فصولها - وربما خرجت عن خط سيرها المتسارع كما حدث مثلا في مشهد دفن زاهر بخيت - لنقل موروثنا للقراء. عدم تصريحي بالمكان أو الزمان لا يعني إقصاءهما أبدا، لكن استهوتني لعبة التعميم حين بدأت بكتابة تلك الرواية ولم أجد ضررا من عدم تحديد اسم المكان طالما كانت التفاصيل تنم بوضوح عن البيئة.

* سمعنا أن هناك محاولة لترجمة هذه الرواية إلى اللغة الإنجليزية، هل تم ذلك؟

- ملخص الموضوع أن مجلة «بانيبال» المختصة بترجمة الأعمال الإبداعية العربية، ترجمت بعضا من الرواية، ونشرته قبل سنتين في أحد أعدادها.. كان ذلك مبهجا لي. لم تترجم الرواية كاملة وليس هناك من يقوم بترجمتها حاليا إلى أي لغة.

* حدثني عن مجموعتك القصصية «مسامير»، التي ضمت مجموعة من القصص القصيرة جدا، ألا ترى أن الاختصار بدا مخلا في بعضها؟

- نعم.. كان الاختصار في بعض القصص مخلا، وتمنيت لو لم أضمها إلى المجموعة، لكني في نهاية المطاف راض عن كثير من قصص تلك المجموعة، وأراها تجربة مغرية تستحق الإعادة. وبحق أفكر في كتابة «مسامير» جديدة، لكني سأعطيها وقتها هذه المرة.

* مع اتجاهك في مجموعاتك الجديدة ناحية الحكاية التي تعتمد على لغة بسيطة، فإنك في مواقع متعددة كنت تؤكد أنك تتعمد تبسيط اللغة التي طلبت أن «لا تتبرج كثيرا في النص السردي».. ما هو مفهومك للغة المتبرجة؟ أليست اللغة تضفي «هالة» على النص؟

- في أوائل تسعينات القرن الماضي وحتى بداية هذا القرن، طغت على القصة موجة من الكتاب الذين لم يكونوا يكتبون أي قصة على الإطلاق. كل ما كانوا يكتبونه مقاطع شعرية ونثرية لا ترتبط ببعضها، ويسرفون في نحت الصور، ويبالغون في دق أجراس الكلمات، ثم يصبون سخطهم على من يقول لهم: أين هي القصة هنا؟ هذا ما أطلق عليه بهرجة لفظية لا تصب في فن القص. اللغة حين تأتي بمقدار معقول وتتحرك بسلاسة لا تعوق سير الحكي، فإنها مطلب جميل.. مثالي على الاستعمال الجميل للغة، قصص الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، فهي تعرف جيدا كيف تسير النص بحرفية نحو خاتمته، وفي هذا التسيير تستخدم لغة جميلة راقية غير متكلفة على الإطلاق. ما ألاحظه الآن.. أن كتاب القصة بدأوا يتحررون من وهج البهرجات اللفظية المبالغ فيها ويحركون نصوصهم في اتجاه الأحداث.

* ماذا يبقى من العمل الأدبي إذا تجرد من بذخ اللغة، وجمالها؟

- يجب أن نفرق هنا بين اللغة السلسة الجميلة التي تترقرق كنهر عذب، تقول ما يريده الكاتب دون إعاقة ذهن القارئ بفك التراكيب المعقدة، وبين اللغة المبالغ في تراكيبها. كما قلت لك سابقا، اللغة السلسة مطلب جميل، وضرورية لأي نص، لكني لا أعتقد أن الاشتغال على اللغة بشكل كبير جدا من صالح النص.. فنجاح النص في نهاية المطاف يقاس بمقدرته على تجاوز زمانه، وتجاوز مكانه، وتسلله إلى الأعماق بخفة. ويجب أن يكون قادرا على ذلك في كل مرة تعاد فيها قراءة النص نفسه. وإذا اتفقنا على ذلك، فإن قدرة النص على تجاوز مكانه وزمانه تعني منطقيا ألا تكون لعبته لغوية بحتة.. فحين نتحدث عن اللغة نفسها في مكان ما، فإن اللغة نفسها كائن متحرك متغير، وإذا تحدثنا عن عبور النص للغات أخرى رأينا أن النص الأنجح هو الذي لا يفقد وهجه في عملية العبور تلك، وهذا في جزء كبير منه يرتبط بتجاوز البهرجة اللغوية، والغوص في الحدث والتأمل أكثر.

* كيف تقيم تجربتك أثناء ترؤسك لأسرة كتاب القصة في عمان؟ هناك من يرى أن المدة الزمنية القصيرة التي قضيتها هناك لم تضف كثيرا بسبب انشغالاتك الشخصية عن أسرة الأدباء؟

- نعم.. لم تضف تلك المدة أي شيء للأسرة، ولكنها أضافت لي إدراكا أكبر بضرورة تفاعل الكتاب مع المؤسسات الثقافية لفترات محدودة من أجل محاولة الوصول إلى صيغة مناسبة للعلاقة بين المثقف والمؤسسة. دعني أصحح لك أن سبب انشغالي لم يكن من أجل قضاياي الشخصية، بل لأن أعباء العمل كطبيب سرطان أخذت من وقتي الكثير في تلك الفترة، وفي أوقات المفاضلة الصعبة بين رعاية المرضى والتفرغ التام لشؤون الأسرة، كنت أرجح كفة مرضاي لعلمي أن هناك في إدارة الأسرة من لن يبخل بالمساعدة وقت الضرورة، وهذا ما حدث في أوقات كثيرة.

* لديك مشروع رواية مشترك مع مواطنك الأديب سليمان المعمري، كيف تقيم هذه التجربة؟ وهل تشاطره الرغبة في «خلق فضاء متعدد داخل رواية واحدة»؟

- انتهينا مبدئيا من كتابة الرواية المشتركة في بداية هذا العام، ولكن من اطلع عليها من النقاد نصحونا بالتريث وإعادة تأمل هذا النص المشترك مرة أخرى. أنا وسليمان تملأنا رغبة في خلق عالم جديد متعدد الفضاءات في هذه الرواية، وهذا ما حاولنا فعله أثناء الكتابة. وكانت التجربة ممتعة منذ بدايتها حتى آخر سطر. لكن حين نتحدث عن بنية رواية مشتركة، فإنها يجب ألا تفقد وحدتها النفسية والوجدانية واللغوية ما لم يكن ذلك من حبكة النص.. وما نسعى لفعله الآن هو التأكد من وحدة النص على مستوياته المختلفة.

* كيف تصف المشهد الثقافي في سلطنة عمان؟

- أنا أعتقد أن المشهد الحالي في عمان جيد جدا. كل عمل أدبي حالة خاصة لها حيزها الخاص ولها مقومات أساسية ترتبط بالظروف الاجتماعية والسياسية وبالحرية، والتفاعل الأدبي والإعلامي.. حين نأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار، فإني أجد أن ما قدمته القصة في عمان، وما قدمته الرواية جدير بالاحترام. لن أتطرق إلى الحديث عن فنون الأدب الأخرى، فأصحابها أجدر بالحديث عنها. لكني رأيت تحولا كبيرا في اتجاهات السرد داخل عمان - قصة ورواية - ورأيت تغيرات كثيرة على مستوى التقنية، والمضمون والتجريب.. ورغم النقاش الدائر حول الجوائز العربية، فإن هذا لن يمنعني من الاستدلال بأن أسماء عمانية قصصية وروائية حصلت على جوائز عربية معروفة، مثل سليمان المعمري وجوخة الحارثي وهدى الجهوري ومحمود الرحبي.

* لماذا لم تبرز أسماء جديدة في عالم السرد والنقد والشعر؟

- في عالم النقد لم تبرز أسماء جديدة فعلا، لأنه باختصار لا توجد أسماء قديمة، أما في الشعر والقصة فإني كل بضعة أشهر أكتشف شاعرا أو قاصا جديدا.. إنها مسألة وقت تتجمع فيه لهؤلاء إنتاجات تكفي للظهور بشكل واضح لكل القراء. ليس في ما سأقوله أي دعوة للشعوبية، لكني أؤمن أن أرض عمان خصبة جدا.. ولا يضيرها الجفاف.

* في كتابك «ليس بعيدا عن القمر»، وهو حوارات في القصة العمانية، جمعت تجارب تسعة عشر أديبا عمانيا، معظمهم لم يخرج بأعماله خارج حدود بلده، علما بأن عمان عرفت بأسماء شعرية ونثرية متميزة.

- هذا كان أحد أهداف الكتاب، أن نعطي صورة مبدئية عن وضع القصة في عمان، وأن يكون الكتاب تشجيعا للراغبين كي يسعوا لدراسة القصة في عمان بشكل أفضل. هذا الكتاب كان أيضا من الأعمال المشتركة بيني وبين سليمان المعمري.. في عام 2006 أعددت برنامجا إذاعيا يسعى لمحاورة قاص كل مرة، وقام بتقديمه سليمان المعمري، ثم ارتأينا أن نحفظ تلك الحوارات لباحثي المستقبل، فقررنا إصدار هذا الكتاب.. ولأننا وضعنا في اعتبارنا أن القراء في خارج عمان قد لا يعرفون شيئا عن كل هؤلاء الأدباء، طعمنا الكتاب بنصوص لهؤلاء الأدباء. كما حرصنا على تضمين الكتاب أهم كتاب القصة، لكن لأن الكتاب ينقل ما جرى في البرنامج الذي كان محدودا بجدول الدورات الإذاعية، فإننا ولا شك لم نستطع ضم كل القاصين المهمين.. لأن بعضهم لم يكن موجودا أثناء تسجيل البرنامج، ولأن بعضهم فضل ألا يجري أي حوار إذاعي.. ولكن الأهم أن الكتاب على الأقل يعطي فكرة مبدئية عن أسماء مهمة في السرد العماني.

* كيف تفسر أن الرواية تسير ببطء في عمان، بعكس القصة التي تبدو منتعشة هناك؟

- أعتقد أنها مسألة وقت فقط، أظن أننا خلال العقد الثاني من هذا القرن سنشهد توازيا في الإنتاج الروائي والقصصي في عمان. جزء كبير من هذا التفاوت عائد إلى أن الأعمال الروائية تحتاج إلى اشتغال أطول، ولكني أعرف عددا لا بأس به من الأصدقاء يشتغلون على أعمالهم الروائية.

* أين أثرت تجربتك كطبيب، على مسارك الأدبي؟ لاحظنا - مثلا - بعض شخصياتك كانت على تماس مع وظيفتك كطبيب، كما في شخصية (خالد) في قصة «أخائف من الموت يا أبا هاجر؟» في مجموعة «لا يفل الحنين إلا الحنين»، وهي القصة التي تروي معاناة مريض السرطان.

- هناك الكثير من الحكايات التي حدثت لي وعايشتها مع مرضاي، أضافت لي كإنسان، ولكنها زلزلتني ككاتب. الطب أفادني كثيرا على عدة مستويات: رصد المشاعر الإنسانية، قياس ردود الأفعال، ملاحظة التحولات البشرية، استقراء الشخصيات. كل هذه الأشياء أفادني الطب فيها كي أخلق شخصيات جديدة لا تتعرض لمرضاي أو تنتهك أسرارهم. هذه تأثيرات إيجابية واضحة. يحدث العكس أحيانا، مثلا مشاهدة موت مريض أحبه تكفي لإصابتي بالعجز عن كتابة حرف عدة أشهر. سأحكي لك موقفا كنت قد حكيته لوكالة أنباء الشعر في لقاء سابق هذا العام: عالجت مريضة كانت تعتبرني كولدها ولا تثق بغيري في تغيير الأدوية الكيماوية لعلاجها من سرطان القولون.. وصادف أن عرفت هي من إحدى الجرائد العمانية أني كاتب وذلك بعد أن رأت صورتي. صار أولادها يخبرونني حين يأتون معها لزيارتي في عيادة الأورام بأنها صارت تلزمهم - قبل فرش أي جريدة ليتناولوا عليها الطعام - بأن يفتشوها جيدا ليتأكدوا من خلوها من صورتي، وتقول لهم: «لا تأكلوا على وجه عبد العزيز». وحين قلت لها إن الأمر عادي جدا، وإني لست مصابا بجنون العظمة، ومن ثم فإن لم يأكل أولادك سيأكل غيرهم على صورتي وحروفي. قالت لي بلهجتها العمانية: «اللي ما تشوفه عيني ما مشكلة.. بس ما تهون علي أشوف وجهك على الأرض تحت الأكل في بيتي». لقد تماسكت كثيرا أمامها.. ولكني حين عدت إلى شقتي بكيت كطفل، ولم أزل أبكي كلما تذكرت ذلك الموقف، وجلست مدة تزيد على السنة، منذ سماعي لجملتها، وحتى بعد وفاتها بأشهر، أحرص على ألا أنشر أي شيء في جرائدنا حتى لا أثير حزنها وهي تكتشف أن وجهي تحت الأكل!

* ماذا تفعل حاليا في كندا؟ وهل سنشاهد مشروعا روائيا يولد هناك؟

- أنا أدرس حاليا بجامعة مكماستر من أجل الحصول على زمالة الكلية الملكية الكندية في الطب الباطني وطب الأورام، وهذا سيستغرق خمس سنوات على أقل تقدير. أتمنى أن أنجز أولا مشروع الرواية المشتركة مع سليمان المعمري، ومشروع مجموعة قصصية بدأت العمل عليها منذ أشهر.. ثم سأفتح قلبي للحياة وسأجيب نداء الكتابة في أي وقت يجيء.

* سيرة ذاتية

* قاص وروائي وطبيب عماني.

* خريج كلية الطب جامعة السلطان قابوس 2001م. حاصل على عضوية الكلية الملكية عام 2006. يعمل كطبيب اختصاصي أول في قسم الأورام، المركز الوطني للأورام بمسقط، وعضو بالاتحاد العالمي لمكافحة السرطان، والجمعيتين الأميركية والأوروبية لطب السرطان.

يواصل حاليا دراساته العليا في جامعة مكماستر بكندا.

مواليد شناص 1976.

صدر له:

«جروح منفضة السجائر»، قصص، «دار الكرمل»، عمان، 2003.

«العابرون فوق شظاياهم»، قصص، «دار الانتشار العربي»، بيروت، 2005.

«لا يفل الحنين إلا الحنين»، قصص، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006.

«مسامير»، قصص، «دار الانتشار العربي»، بيروت، 2006.

«تبكي الأرض.. يضحك زحل»، رواية، «دار الانتشار العربي»، بيروت، 2007.

«قريبا من الشمس»، حوارات في الثقافة العمانية، «دار الانتشار العربي»، بيروت، 2008، (كتاب مشترك مع الكاتب سليمان المعمري).

«ليس بعيدا عن القمر»، حوارات في القصة العمانية، «دار الانتشار العربي»، بيروت، 2008، (كتاب مشترك مع سليمان المعمري).

«وأخيرا استيقظ الدب»، قصص، «دار الانتشار العربي»، بيروت.